أفق – د. رفيف رضا صيداوي*
من سِمات الرواية قدرتها على اختزال الحدود بين الحقيقيّ والمتخيّل، وذلك لمصلحة العمل الفنّي نفسه ولمصلحة خطابه. فمطواعيّة هذا الجنس الأدبي تجعل الوقائع أو الشخصيّات “الواقعيّة”، والمقصود هنا الحقيقيّة أو غير المتخيَّلة، القائمة في العالَم المرجعيّ للنصّ، وكأنّها أكثر صدقيّة من وجودها الفعليّ في هذا العالَم، والعكس صحيح. أي يُمكن للشخصيّات والوقائع التي ليس لها حضور في العالَم المرجعيّ للنصّ الروائي، أن تبدو كأنّها أكثر صدقيّة وإقناعاً ممّا لو كان لها حضورها الفعليّ في هذا العالَم المرجعيّ.
كَم من حكاية من حكايات الروايات العالَميّة، بشخصيّاتها وأحداثها المتخيَّلة، باتت جزءاً من واقعنا، نستذكرها ونستعيدها، وكأنّها جزءٌ من التراث العالَمي الحيّ: “فيودور كارمازوف وأبناؤه ديمتري، إيفان، أليكسي” في رائعة “الإخوة كارامازوف”(1881)، للكاتِب الروسي دوستويفسكي، أو “راسكولنيكوف” في “الجريمة والعقاب” (1866) للكاتِب نفسه، أو “إيما” في رائعة “مدام بوفاري” (1856) للأديب الفرنسي غوستاف فلوبير، أو شخصيّة السيّد أحمد عبد الجواد في ثلاثيّة الأديب المصري نجيب محفوظ (“بين القصرَين” 1956- “قصر الشوق” 1957- “السكريّة” 1957 )، تلك الشخصيّة التي بات يُتداوَل اسمها بين الناس كمَرجع للشخصيّة الذكوريّة الشرقيّة (سي السيّد)…
الاستشهادات قد تطول… وما يصحّ بالنسبة إلى الشخصيّة الروائيّة قد يصحّ كذلك بالنسبة إلى الأحداث والوقائع. خليل أحمد جابر، الشخصيّة الرئيسة في نصّ الروائي اللّبناني إلياس خوري، الذي جعله خوري مهووساً في دهْن حيطان الشوارع بالأبيض، لِما تحمله هذه الشخصيّة بفعلها هذا، وبغيره من الأفعال في الرواية، من دلالات تشي بمآسي الحرب في لبنان، عادَ وظهَر هو وأفعاله في الواقع الحقيقي: ذات يومٍ منذ ثلاث سنوات يقول خوري في حوارٍ معه ( أجراه معه يسري الأمير في مجلّة الآداب البيروتيّة، العدد 9/10 ، أيلول/ت1 1998 ، السنة 46) ” أتى أحد أصدقائي وأخبرني أنّه رأى شخصاً على كورنيش المنارة يدهن الحائط بالأبيض، ثمّ أخبرتني زوجتي عنه، وكذلك عدد من الأصدقاء، فذهبت إليه، ورأيته، طبعاً لم يتكلّم معي لأنّه مجنون تماماً. ولكنّ لحظة لقائي إيّاه كانت اللّحظة الأكثر رهْبة في حياتي؛ فقد رأيتُ المتخيَّل حقيقيّاً أمامي، بينما العادة هي أن يتحوّل الحقيقي إلى متخيَّل!”.
خلود النصوص مشروط بعُمق بصيرتها
نجاح الروائي في لعبة المتخيّل هذه، لا يكتسي قيمته من مجرّد الإقدام على هذه اللّعبة، بل في ما تولّده من مدلولات، ولاسيّما على صعيد الخطاب الروائي، ومستوى الاستشراف فيه؛ إذ إنّ مثل هذه النصوص، إذا ما وضعنا روايات الخيال العِلمي جانباً، غالباً ما تفضي إلى الخلود. من ذلك مثلاً رواية “1984” أو ألف وتسعمائة وأربعة وثمانين (Nineteen Eighty-Four)، الصادرة في العام 1949، أي قبل نحو حوالى 70 سنة من الآن. فقد تخيَّل مؤلِّفها الروائي البريطاني جورج أورويل مستقبلاً أسود مُظلماً وظالِماً يبعد عنه أكثر من ثلاثة عقود (تحديداً 35 عاماً)، وتقع أحداثه في العام 1984؛ حيث البلاد يحكمها زعيم أوحد( الأخ الأكبر)، وحيث أعضاء الحزب الحاكِم يشكّلون نسبة 2 % فقط من السكّان، ويُمارسون الرقابة على كلّ تفصيل من تفاصيل حياة الناس، إلى حدّ التقاط كلّ خاطرة أو فكرة أو تخيّيل من أيّ نوع كان، والعمل على تزييف وعي الناس إلى حدّ إقناعهم بشعار الحزب وصوابيّته. هذا الشِعار القائم على ثلاث ثوابت: ثابتة أنّ “الحرّية هي العبوديّة”/ وأنّ “الحرب هي السلام”/ وأنّ “الجهل هو القوّة”؛ إذ يصف أوبراين، عضو الحزب الداخلي، لبطل الرواية “وينستون” فلسفة الحزب والعالَم الذي يريدون خلقه قائلاً: ” إنّه النقيض التامّ ليوتوبيا المدينة الفاضلة التي تصوّرها المُصلحون الأقدمون(…) لقد زعمت الحضارات الغابرة أنّها قامت على الحبّ والعدالة أمّا حضارتنا فهي قائمة على الكراهيّة، ففي عالَمنا لا مكان للعواطف غير الخوف والغضب والانتشاء بالنصر وإذلال الذّات، وأيّ شيء خلاف ذلك سندمّره تدميراً”.
وعدا عن وسائل القتل والتعذيب والإهانة والترهيب والتخويف التقليديّة وغير التقليديّة، وعدا عن كلّ أساليب التجهيل وتمويه الحقائق وتزييفها، فإنّ الوسيلة الأساسيّة لهذا القهر تمثّلت بالتكنولوجيا؛ حيث تتوزّع شاشات العرض أو شاشات المُراقبة في مختلف أنحاء البلاد، من دون تمييز بين الحيّز العامّ أو الخاصّ، لتُطاوِل الشقق السكنيّة وأماكن العمل أو الأماكن العامّة، وذلك على مَدار الساعة. هذا فضلاً عن الميكروفونات المزروعة في الأمكنة كلّها. لذا، ففي الوقت الذي رأى فيه كثيرون أنّ رواية أورويل جاءت تعبيراً عن رفض ما يتعرَّض له الفرد من قهر في نظامٍ شموليّ، فإنّ كثراً رأوا في الرواية رفضاً وكراهيّة “منصبّة على نِظامٍ، أيّاً كان لونه الإيديولوجي، لا يجد الفرد فيه مهرباً من استعباد التكنولوجيا الحديثة. هذه التكنولوجيا الحديثة تتمثّل، ليس فقط في ما لدى أصحاب السلطة من أسلحة وسجون ومعتقلات، بل وما لديها من وسائل التجسّس والتنصّت وغسيل المخّ. وكلّها وسائل كانت، ولا تزال، مُتاحة للدولة الاشتراكيّة والدولة الرأسماليّة على السواء” (جلال أمين، تجديد جورج أورويل، 2017).
تحقّقت رؤيا أورويل إذاً، لكي لا نبالغ ونقول نبوءته، ولاسيّما أنّنا بتنا كلّنا الآن مأسورين بالثورة المعلوماتيّة الحديثة وخاضعين لتغوّلها، ومُستسلمين لقيَمها، ومُنقادين لها بإرادتنا أو بعدمها.
هل تكون “بوهاين” نموذجَ المُستقبل؟
على المقلب الآخر، تأتينا رواية أخرى لكاتِب إيرلندي هو كيفن باري، عنوانها “مدينة بوهاين”(2011)، تدور أحداثها أيضاً في المستقبل، وتحديداً في العام 2053- 2054، الذي يبعد عن زمن الكتابة نحو 42 عاماً. ولأنّنا نحن القرّاء لا تفصلنا عن زمن الكِتابة مسافة زمنيّة تسمح لنا بالكلام على صوابيّة الرؤيا أو التنبّؤ أو على تحوُّل المتخيَّل إلى حقيقي، إلّا أنّ هذا العالَم المُستقبلي الفانتازي، وعلى النقيض من رواية أورويل، يقوم من دون تكنولوجيا. قطارٌ وحيد خاصّ بالمدينة يجتازها يوميّاً ويلفّه الحزن ويشبه ” زعيقه زعيق الروح”؛ وصحيفة واحدة لا غير(صحيفة “بوهاين فنديكاتور”)، فضلاً عن راديو بوهاين الحرّ الغارق دائماً في الماضي، ومصابيح تشتغل على بخار الصوديوم؛ إنّه عالَم أقرب إلى البدائيّة الأولى، لكنّه يختلف عنها في كونه عرف المدنيّة لكنّه فقدها: فساد يلوِّث هواء المدينة ونهرها/ ميادين صغيرة وعفنة وكريهة جدّاً/ عائلات ومجموعات وعصابات مُتناحرة/ جرائم بالجملة/ سبي نساء يحملن على ظهورهنّ آثار الضرب التي تُخبر عن أسرِهنّ/ شراء فتياة صغيرات/ كلاب مسعورة وميّتة وحِقن مخدّرات ولفّافات طعام في بواليع الطرقات/ دماء وشوارع قذرة/ خمّارات ومواخير ومَكاتب مُراهنات/ أكل لحوم بكمّيات كبيرة وشرب بكمّيات كبيرة أيضاً وجنس/ شباب يدخّنون الحشيشة ويتكلّمون على النساء ويتمرّسون في استخدام الخناجر… هكذا تتوالى الأجيال في بوهاين”. أمّا رجال السلطة فكانوا ” أشخاصاً يائسين يتقاضون أجوراً منخفضة” وقد اهتمّوا ” بأن تُحافظ مدينة بوهاين، التي كانت في ما مضى مدينة عظيمة وجامِعة، على مَظهر مدنيّتها القديمة”.
وبغضّ النّظر عمّا إذا كان استشراف كيفن باري صحيحاً أم لا، أي عمّا إذا كنّا سنَشهد بعد نحو عقود أربعة مُدناً على شاكلة مدينة “بوهاين” المتخيَّلة، فإنّ كلا الروائيَّين رَسما عالَماً بعيداً جدّاً عن زمن الكتابة، تجلّى من خلالهما الحرص على الإنسان أوّلاً وآخراً: الحرص على ألّا يفقد هذا الإنسان إنسانيّته أو آدميّته، لأنّه حينئذ يفقد طعم الحياة ومُتعتها وبهجتها. ففي رواية أورويل، وبفعل سيطرة التكنولوجيا على الإنسان وعلى خصوصيّته انتفَت السعادة. أوبراين، عضو الحزب الداخلي في رواية أورويل، يصف للبطل فيها، أي وينستون، عقيدة الحزب ورؤيته للمستقبل قائلاً: “سيُباد كلّ حبّ غير حبّ الأخّ الكبير. ولن يكون هناك ضحك إلّا الضحك الذي يصحب نشوة النصر على العدوّ المقهور، ولن يكون هناك فنّ أو أدب أو عِلم، فحينما تجتمع في أيدينا كلّ أسباب القوّة لن تكون بنا حاجة إلى العِلم(…) ولن يكون هناك حبّ الاستطلاع أو التمتّع بالحياة ولن يكون هناك مَيل نحو مَباهج الحياة التي ستدمَّر تدميراً”.
وعلى الطرف النقيض، أي حيث تزول التكنولوجيا وتنتفي في “مدينة بوهاين”، ترانا أمام مدينة لا مكان فيها للسعادة. مدينة ذات أجواء حقيرة وقذرة تنحطّ بالفضاء المكاني وبسكّانه إلى مستوىً حيوانيّ بهيميّ، الفرد فيه مجرّد كائن مقيَّد بغرائز القتل والغذاء والجنس، التي تتفوَّق على العقل وحاجاته. ترانا أمام إحدى الشخصيّات الرئيسة في “مدينة بوهاين، المدعوّة “جيني”، وهي تسأل، أو بالأحرى تتساءَل، قائلة:” مَن يشعر بالسعادة في بوهاين اللّعينة؟ عليكَ البحث طويلاً عن السعادة هنا؟”؛ فيما تعبِّر شخصيّة رئيسيّة أخرى، وهي “ماكو”، عن الحالة نفسها قائلة:” مَن السعيد في بوهاين اللّعينة؟ هل تظنّني سعيدة؟”.
هكذا تخيّل كلٌّ من أورويل وباري عالَميهما المُتناقضَيْن، حيث الإنسان المقهور والمُستلَب، الفاقِد لأحكام العقل، التعِس…إلخ، سواء بوجود التكنولوجيا أو بعدمه؛ وحيث يتمثّل هذا القهر بفقدان السعادة والحرّية، على الرّغم من أنّهما عنصران رئيسان من عناصر الوجود الإنساني، المتميّز عن الوجود الحيواني بالعقل والوعي.
فإذا كنّا قد لمسنا صدق نبوءة جورج أورويل وتحوُّل المتخيَّل إلى واقعي، من دون أن نكون قادرين على تأكيد صدقيّة خطاب كيفن باري، فهل يعني هذا أنّ البربريّة الحديثة أو النيو- بربريّة لن تكون مصير العالَم بعد عقود؟ فهل تتحقّق نبوءة كيفن باري مثلما تحقّقت نبوءة جورج أورويل؟ وما هي الأسباب التي حدت أساساً بباري لأن يتخيّل مثل هذا العالَم المقيت؟ فهل يكون الجواب متمثِّلاً بالتقاطه بذور تلك البربريّة الحديثة في زَمَنٍ راهِنٍ يدّعي الحضارة القصوى؟ وأيّ حضارة؟!
قم بكتابة اول تعليق