أفق – د.إدريس لكريني*
لا تتأتّى قيمة الإمكانيّات والمقوّمات المُختلفة المُتاحة للدول بالضرورة من خلال امتلاكها فقط، بل عبر حسن توظيفها وتوجيهها بصورة ذكيّة وبنّاءة. فكثيرة هي الدول التي تمتلك إمكانات مُذهِلة تؤهّلها للاستئثار بمكانة وازِنة بين الأُمم، لكنّ سوء توظيف هذه العناصر يشوبه الخلل والقصور، ما يجعلها تتموقع أسفل المَراتب من ضمن مؤشّرات التنمية الإنسانيّة وتصنيفات المنظّمات والهيئات الدوليّة ذات الصلة.
فيما تشير المُمارسات الدوليّة، والإحصائيّات الصادرة عن المنظّمات المتخصّصة، إلى أنّ عدداً من الدّول استطاعت بكثير من الإرادة والذكاء أن تحوِّل الإمكانات المُتاحَة، على ندْرتها وقلّتها، إلى فُرص حقيقيّة، مكَّنتها من تبوّؤ مَكانة متقدّمة من ضمن التصنيفات الدوليّة المتعلّقة بالتنمية في عددٍ من المجالات والمَيادين.
يتباين مفهوم القوّة في العلاقات الدوليّة تبعاً لتعدّد المَدارس الفكريّة والنظريّة، غير أنّ غالبيّتها تربطه بالقدرة على التأثير في القرارات والآراء والسلوكيّات الدوليّة. وقد حدث تحوّلٌ كبير في مفهوم القوّة في عالَم اليوم، فبعد أن اقترن في ما مضى بكثافة العنصر البشري والإمكانات الجغرافيّة، والعسكريّة، قبل أن يتحوّل إلى الجانب الاقتصادي بما يحيل إليه ذلك من إمكانات صناعيّة وتجاريّة وخدماتيّة وخيرات طبيعيّة، أحدثَت التطوّرات التكنولوجيّة الأخيرة ثورة حقيقيّة في ما يتعلّق بهذا المفهوم، بعدما أضحى مُقترناً بامتلاك هذه التكنولوجيا وبوفرتها وحُسن استخدامها في مجالات شتّى.
تؤكِّد المُمارسة الدوليّة أنّ المَواقف والسلوكيّات الخارجيّة للدول تظلّ بلا معنى، بل مجرّد شعارات لا قيمة لها من المنظور الاستراتيجي في غياب مقوّمات عسكريّة وماليّة وسياسيّة ومعلومات تدعمها ميدانيّاً.
أضحت المعلومات مفتاحاً للولوج إلى عالَم اليوم بقوّة وثقة، ذلك أنّ أهميّة القوّة العسكريّة لا تكمن في مجرّد امتلاكها فحسب، ولكن في حسن توظيفها تبعاً لهذه المعلومات، سواء في الأداء الدبلوماسي للدول وفي المفاوضات المختلفة أم في تحقيق السِّلم والأمن الدوليّين.
يمثّل امتلاك المعلومة في عالَم اليوم مدخلاً أساسيّاً لتحويل الإمكانات المُتوافرة، في أبعادها وتجلّياتها المختلفة، إلى قوّة حقيقيّة، عبر تجنيد الطّاقات والقدرات وتوجيهها على نحوٍ سليم وعقلاني في صناعة قرارات تدعم التطوّر وتحقيق التنمية وبلوغ الأهداف المتوخّاة.
تنطوي المعلومات على أهميّة قصوى في عالَم اليوم بالنظر إلى دَورها المهمّ في ترشيد صناعة القرارات في القطاعات والمَيادين المختلفة بالصورة التي تجعلها تستجيب للحاجات المطروحة وتتماشى مع التحولّات والمتغيّرات المجتمعيّة أو تلك التي يفرضها المحيط الخارجي. لكنّ نَجاعة هذه المعلومات لا تكتمل إلّا بوجود منظومة اتّصال متطوّرة تستفيد من التكنولوجيا الحديثة في هذا الإطار، وتَدعم الدقّة والسلاسة والوضوح في التواصل وتدفُّق هذه المعلومات.
أمام تعقّد الأزمات وسرعة تصاعدها وتنامي مَخاطرها المحليّة أو العابِرة للحدود، أصبح توظيف المعلومات أمراً أساسيّاً في الوقاية أو التقليل من الأضرار والخسائر الناجِمة عنها أو المُحتمَلة في هذا الشأن. فالمعلومات هي التي تسمح بفهم طبيعة المشكلة أو الأزمة وحدّة خطورتها أو مداها واستيعابها، بما يتيح بلْورة أساليب دقيقة تتجاوز الارتجال عند التعاطي معها.
إنّ الحديث عن المعلومات في هذا السياق، يفرض تمييزها عن الأخبار الزائفة أو المعطيات العامّة التي تفتقد في مجملها إلى الدقّة والمصداقيّة، في عالَم يشهد تدفّقاً غير مسبوق للمعلومات المُتضاربة التي تختلف من حيث مصداقيّتها وأهمّيتها ومَصادرها.. ما يفرض توخّي قدر كبير من اليقظة والحذر.
إنّ أهميّة المعلومات وحيويّتها لم تعُد تعني في العالَم المُعاصِر المجال العسكري فحسب، بل أضحت لازِمة وضروريّة لكلّ القطاعات الإنسانيّة. فالتخطيط الاستراتيجي كوسيلة مثلى للتعاطي بحِكمة واستشراف مع الإشكالات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والإداريّة والسياسيّة والعسكريّة الرّاهنة، لا يتأسَّس على تنبّؤات عشوائيّة أو انطباعات شخصيّة، بقدر ما يُبنى على معلومات ومعطيات ومؤشّرات علميّة تُبنى في مجملها على المعلومات الدقيقة.
لا يخلو جمْع المعلومات من صعوبات ومشكلات، إنْ على مستوى الوصول إلى مصادرها، أو على مستوى توخّي الموضوعيّة في انتقاء الدقيق والنّاجع منها؛ ولذلك يظلّ صانعو القرار بحاجة إلى اعتماد آليّات جدّ متطوّرة لتحصيل هذه المعلومات التي يُفترَض أن تكون في مستوى التطوّرات التكنولوجيّة الحديثة من جهة، وفي مستوى حجم التحدّيات والمَخاطر التي تطرحها القضايا الرّاهنة والأزمات المعقّدة.
فقد تطوَّرت حروب اليوم لتُطاوِل حقل المعلومات، بعدما أضحى امتلاكها يشكِّل سبقاً، ومَدخلاً لتحقيق مجموعة من الأهداف وكسْب عددٍ من المَعارك في عالَمٍ تنافسي، سواء في التجارة أم الصناعة أم الخدمات أم في تحقيق المَصالح الاستراتيجيّة بأقلّ كلفة.
وتصرّ الدول القويّة على احتكار امتلاك المعلومات المتّصلة بعددٍ من المَيادين والقطاعات والحرْص على عدم تسرّبها إلى دول أخرى، بل واستثمار المُتاح منها في ابتزاز الخصوم والضغط عليهم تارة، وفي توجيه الرأي العامّ تارة أخرى.
وعلى مستوى تدبير الأزمات، يُمكن القول إنّ توافر المعلومات الدقيقة والكافية يسمح بالتدخّل في الوقت المُناسب لمُواجَهة المَخاطِر بمنهجيّة وتخطيط، ما يَمنع وقوع الخسائر أو يقلِّل من حجمها. فالحضور الدبلوماسي الوازِن لعددٍ من القوى الدوليّة الكبرى لم يتأتَ من فراغ. فعلاوة على الإمكانات العسكريّة والاقتصاديّة والتقنيّة المتوافرة، فإنّ كثيراً من هذه القوى ينخرط بشكلٍ فاعلٍ في تدبير الأزمات، عبر استثمار هذه الإمكانيّات في تحقيق المَصالح والأهداف، واعتماداً على تسخير المعلومات المتوافرة على هذا المستوى.
ومن هذا المنطلق، فإنّ الحضور الدولي الوازِن لبعض الأقطاب وتمدّدها الاقتصادي والثقافي والعسكري في عالَم اليوم، هو نِتاج طبيعي لتوظيفٍ مُحوكِم للمعلومات الدقيقة التي توفِّر الإطار اللّازِم لفهْم هذا العالَم بإشكالاته وفرصه المُختلفة، وبلْورة قرارات استراتيجيّة تدعم هذا التواجد على الرّغم من كلّ الصعوبات والتحدّيات المطروحة في هذا الصدد.
تستند هذه القوى في توفير المعلومات على أجهزتها الاستخباراتيّة، إضافة إلى مَراكز علميّة متطوّرة، تقوم على الدراسات المستقبليّة والاستراتيجيّة، وتوفِّر بنوكاً ضخمة من المعلومات تدعم وضْع خيارات واعِدة ومتعدّدة أمام صانعي القرار تتيح اختيار المُمكن والنّاجِع منها، وخصوصاً احتواء الأزمات وتقييم أهداف الخصوم.
وللمعلومات علاقة وطيدة بمفهوم القوّة النّاعمة الذي طرحه الباحث الأميركي “جوزيف ناي الابن” من ضمن كِتابه الصادر في العام 1990 والموسوم بـ “وثبة نحو القيادة: الطبيعة المتغيّرة للقوّة الأميركيّة”، قبل أن يطوّره في مؤلّفٍ صادر في العام 2004 تحت عنوان “القوّة الناعمة.. وسيلة النجاح في السياسة الدوليّة” الذي أكَّد فيه أنّ القوّتين الصلبة والنّاعمة مُترابطتان، لأنّهما معاً من جوانب قدرة المرء على تحقيق أغراضه بالتأثير على سلوك الآخرين.
ثمّة قناعة كبيرة لدى الكثير من الباحثين والمفكّرين بأنّ القوّة “الخشنة” في علاقتها بالمقوّمات العسكريّة والزجريّة الأخرى تبقى مكلّفة وغير ناجِعة في تحقيق الأهداف الاستراتيجيّة للدول؛ وهو ما يطرح أهميّة استحضار آليّات القوّة “النّاعمة” التي تقوم على الإغراء والإقناع بدل الإكراه والزجر.. واستثمار القنوات الثقافيّة والفنيّة والروحيّة والعلميّة والمساعدات التقنيّة والإنسانيّة المختلفة في التأثير على صناعة الرأي والقرارات الدوليّة.
إنّ فرْض القطبيّة الأميركيّة على الصعيد الدولي ما بعد مرحلة الحرب الباردة، لم يكُن مجرّد حادث عابر وتلقائي، لكونها – أي أميركا- نجحت إلى حدّ كبير في الانتقال من استثمار القوّة العسكريّة المكلَّفة بتحقيق عددٍ من أولويّات مَصالحها الاستراتيجيّة، إلى استخدام آليّات ملطّفة تعتمد على عناصر التجارة والاستثمار والثقافة والبحث العِلمي والمساعدات الماليّة والتقنيّة من ضمن ما يُعرف بالقوّة الناعمة لتحقيق هذه المَصالح..
يظهر أنّ الكثير من الأزمات التي عاشتها مختلف الدول العربيّة هي نِتاج قرارات انفراديّة لم تتأسس في مجملها على معلومات دقيقة أو رؤية موضوعيّة، سواء تعلّق الأمر بالأزمات الداخليّة في جوانبها السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، أم بأزمات إقليميّة ودوليّة (أزمة الخليج الثانية..)، ما يجعل المنطقة من ضمن أكثر الفضاءات العالميّة سخونة وارتباكاً على المستويات السياسيّة والأمنيّة.
لا تخفى تكلفة عدم استحضار البُعد العِلمي في اتّخاذ القرارات الحيويّة، بالنسبة إلى الدولة والمجتمع. وتُشير أوضاع التعليم والإشكالات التي تحيط بمضامينه ومَناهجه وبنياته وبَرامجه، وتردّي أحوال البحث العِلمي وتهميش مُخرجاته في عددٍ من الدول العربيّة ضمن عمليّة صنع القرارات، إلى حجم الهدر الذي تعانيه المنطقة في هذا الخصوص.
*مدير مختبر الدراسات الدوليّة حول تدبير الأزمات، جامعة القاضي عياض، مراكش
قم بكتابة اول تعليق