أفق – علي البزّاز*
إنّ سعي الكيميائيّ الأوّل إلى تحويل العناصر الرخيصة، إلى مَعادن نفيسة، يندرجُ ضمن الطموح الإنسانيّ، بتجاوزِ الصيرورة الثّابتة، بمعنى التغلّب على المفروض والحتميّ والمُقدّر. قامَت الهندسة المعماريّة بدراسة صفات الطبيعة، وتمّ احتواؤها غالباً، وأحياناً، السير ضدّ إرادتها، وذلك ببناء الجسور والسدود، والاستمطار الصناعيّ، وتمّ تعديل النباتات والحبوب وتهجينها، بغاية توفير الغذاء ومُقاوَمة الجوع. والسؤال ألا نستعمل الطموح البشريّ ذاته، لتطوير الإنسان جسمانيّاً، والعمل على تقوية وظائف الأعضاء، واستبدال التّالِف منها، بل وحتّى عرضها كقِطَعِ غيارٍ مستقبلاً، وشحْن الذاكرة بمقوّيّات لتنشيطها، وشحْن العقل البشريّ، بمَشاعر السعادة؟
قال الفيلسوف سلوتردايك: ” لا مفرّ من تحسين الإنسان عن طريق التقنيّة، وهذا لا يُشكّل أيّ مساس بإنسانيّته”، مُبتدعاً مصطلح “تطعيم الإنسان بالآلة”، وصولاً إلى نَوعٍ من الكمال البيولوجي والعاطفي، واعتباره هذا الإنسان “الجديد” كائِناً بشريّاً ولكنْ بصفات ووظائف جديدة، من دون العبث بوجوده، إشارة إلى بعض الدعوات المُحافِظة ضدّ ثورة “البيوتكنولوجيا”. أدبيّاً: تحسين الإنسان وتقويته، وحقْنه بالمُقاوَمة والصمود، كي يعيش حياته سعيداً وكما يريد، لا كما يُراد له، ذلك هو ما سعى وما يزال يسعى إليه الأدب، وهو عمل الأدب والفلسفة والفنّ، أيّ عمل الوسائط ومُجاوزة الصيرورة. يقول كازنتزاكي ” إنْ لم نستطع تغيير العالَم، فلنغيّر العيون التي تُبصر العالَم”، وذلك عبر قوّة روحيّة تتجاوز، فاليوم، يستطيع الأعمى بواسطة تقنيّة معيّنة، أن يقرأ الأفلام ويشاهدها.
إنّ قوّة الأدب تكمن، في تحسين النقص، وجعْله نقْصاً حارِساً، ذا فائدة عملانيّة وروحيّة، مثلما أشاد البعض بالكآبة مثلاً بوصفها حالة إبداعيّة نافِعة، مُخالفين بذلك نظريّة التحليل النفسي، التي اعتبرتها عطباً، أو خللاً غير نافع، ينبغي مُعالجته، وهو منطق السجون والإصلاحيّات ذاته.
يُتابِع المفكّر المغربي محمّد سبيلا، ما يدعوه بـ” الإنسان المُستزاد”، كما جاء في محاضرته عن ” ثورة البيوتكنولوجيا المُعاصِرة” التي قدّمها في مؤسّسة “مؤمنون بلا حدود”، وهي ثورة علميّة جديدة، توازي إنجازات الثورة الصناعيّة الأولى والثانية، وتطوّرت بوتيرة أسرع منهما. وهكذا، يقوم بتوسيع الفكر، من التنظير الفلسفيّ الصارِم، إلى مناقشة تكنولوجيا الحياة، تكنولوجيا مُقاوَمة العجز، وآليّات السعادة الجديدة. يقول ” بدأ اهتمامي بهذه الثورة، منذ العام 2008، بعد خضوعي لعمليّة القلب المفتوح، ففكّرتُ، حينئذٍ، كيف يستطيع المرء الانسجام مع جهاز لتطوير عمل القلب موجودٍ داخل جسمه، أو أنابيب، تعوّض الشرايين؟”.
نُلاحظ أنّ الاشتغال الفلسفيّ قد تعدّى التقليدي والسائد، بل وحتّى تاريخ الفلسفة، فتحسين الحياة هو من شغل الفلسفة ذاتها، وثمّة حقل فلسفي يهتمّ بالعلوم الطبيعيّة، بمعنى لا مُحيد للفكر عن الإسهام الفعّال في تطوير الوجود، منذ وعى الإنسان بضرورته للطبيعة، وبضرورتها له، على أساسٍ مُتكافئٍ وعادل، وعبر التحديث الذي يشترط تحديث الفكر، والسياسة، بل وحتّى الأدب، فيشتغل العِلم مع الأدب والفكر والسياسة، من أجل الإنسان القويّ. فلا ثورة علميّة حديثة، من دون فكر حديث؛ كما نرى راهِناً أنّ مختبرات “البيوتكنولوجيا” يشتغل فيها علماء وفلاسفة وفنّانون، وذلك لإعطاء التبرير الأخلاقي أوّلاً، والاهتمام بالشكل الجديد التقنيّ والفنيّ ثانياً، بل وثمّة علماء ذوو تكوين فلسفي وسياسي في المختبرات، وهناك فنّانون وتقنيّون بتكوينٍ فلسفي. اشتغالٌ متكامل، يهدف إلى خدمة “الإنسان المُحسّن، الإنسان المُستزاد”.
وعليه، ومن أجل عرْض صورة مُتكاملة (للأسف ليس هناك من مصادر عربيّة تُناقِش هذا الموضوع المصيريّ)، قامَ مؤلِّف “إشكاليّات الفكر المُعاصر” بجمْعِ المَصادر الأميركيّة والأوروبيّة ذات الشأن، وتَرجمتها، بحيث لم يُهمل مَصدراً لا فلسفيّاً ولا تقنيّاً، إلّا وناقشه، بالتسلسل الزمني منذ تاريخ الثورة الصناعيّة، بشكلٍ سلِس، ممهّداً لأفكاره تدريجيّاً، وذلك لحساسيّة الموضوع، الذي يُثير واقع الثقافات التقليديّة، بل وحُرّاس المَعابد والكهنوت الدينيّ والثقافيّ حتّى، مُستعرِضاً التحفّظات عليها:
يعتقد كلٌّ من هابرماس وروبكي ميكائيل صانداي، صاحب كِتاب “أخلاقنا في عصر الهندسة الجينيّة”، والذي عُيّن لاحقاً في مجلس تحديد السياسات في عهد بوش الابن، أنّ الخلايا الجينيّة لها روح، والتجاوز عليها يعني قتلها، وثمّة وجود طبيعة إنسانيّة مقدَّسة غير قابِلة للتغيير، فضلاً عن حقوق طبيعيّة، أينما كانت طبيعيّة بشريّة. في المُقابل، هناك ردود عميقة علميّة وفلسفيّة على التحفّظات تلك: يقول سلوتردايك عن هابرماس (الوريث العقلاني الحداثي لمدرسة فرانكفورت) ” إنّه يستعمل هنا حجج الكنيسة ذاتها.. فهو فيسلوف بجُبّة راهب”، كما يعلن المتحمّس واي كورزفن: “بودّنا أن نصبح أصل المستقبل، أن ننحت مَسامعنا ونفوسنا، وأن نروّض جيناتنا، وأن نعيش قرنَين من الزمن”. ولكن لا يُخفي المتحمّس جيرمي رفكيه صاحب نظريّة “الطّاقة، الإنتاج والتواصل” خوفه من توجّهات ما بعد الثورة، بأنّها حتمويّة واختزاليّة، مُنتقداً الجانب الاقتصادي فيها.
يقول دولوز: ” الفلسفة، هي إبداع مفاهيم”، ناقلِاً الفلسفة وتاريخها إلى عصرٍ جديد، واشتغال جديد، منعطف هامّ وحيوي، ما مهّد لما سيقوله لاحقاً، ” يُصبح النجّار مُبدعاً، إذا ما استسلم إلى إشارات الخشب”. وعليه فإنّ اهتمام المفكّر المغربي الشهير بنقد الحداثة وأوهامها، قد وسّع اهتمامه بالحداثة وما بعدها، من زاوية الحياة ومشكلات التربية، والسعادة، ومُقاوَمة العجز. مشكلات بيولوجيّة، صُنّفت تحت باب القدر، والنوافل، فلم تعُد مع الثورة الجديدة مرتبطة بمعاني العجز ومُسبّبات الموت، لم يكُن القدر حتميّاً بشكلٍ نهائي، بل ومن المُمكن تعطيل سرعته، وتكبيل كوابحه، وتطويل العمر، وهذه هي غاية العِلم والفكر والأدب: عمل يخدم الحياة، وأن يكون مُشتملاً على السعادة كشرط، وساعياً إلى الإنسان ذاته كشرط أيضاً، وهو المطلوب.
أسهَم فكر ما بعد الحداثة بجعْل المفهوم ونقيضه مُتلازِمَين، فلم يعُد الفنّ وسيلة جماليّة بحت، إنّما غاية وظيفيّة تخصّ الحياة أيضاً، لقد تغيَّرت وسائل التلقّي، فكريّاً وجماليّاً؛ توسيع الفكر بحيث يشمل كلّ وسائل التفكير من أدب وفنّ ومعرفة، عوض اعتماد مفهوم الفلسفة فقط، أو بالأحرى، أصبح الفكر مُمارَسة أدبيّة وفنيّة معرفيّة. وهناك مَن يقول إنّ الفنّ، والفكر، والأدب، هو سلعة، وإنّ المفهوم التقليدي للسلعة والروح والفنّ، قد تمّ تجاوزه، مثلما نشاهد تجاوُز مفاهيم التربية، والدولة والسياسة، بتمثيلٍ بسيط للغاية من الشأن العائلي: كان الأبّ في ما مضى، موجِّهاً وناهِياً، إلى أن جاءت التقنيّة الحديثة وغيّرت مفاهيم التربية، وكأنّ التقنيّة (شئنا أم أبينا) هي ضدّ السلطة بمفهومها التقليديّ، سلطة الأبّ، الدولة المركزيّة، بل وحتّى سلطة المال الواحدة (نتحدّث عن شركاتٍ مُساهِمة عدّة، وتجميع صناعة من بلدان متنوّعة)، فصار الأب ينصت إلى ابنه، شارحاً له تقنيّات الكمبيوتر والهاتف الذكيّ، ينصت هنا بمعنى يُطيع، وتحتوي عمليّة الإنصات هذه على شكلٍ جديد، يفوق شكل التلقين القديم (الأب إلى أبنه)، مسبِّباً شعوراً طاغياً للأب باندحاره بسبب عدم قدرته على مُواكَبة العصر، وفيه احترام خفيّ للابن من جانب أبيه، والأنكى هو أنّه كلّما تطوّرت التقنيّة، ازدادت حاجة الأبّ إلى ولده، بحيث لا يستطيع الفكاك منها. وهكذا، فإنّ جلّ الآباء يلعن التقنيّة (لكنّه يستعملها)، لأنّها تسلبه العلاقة القديمة المفضّلة لديه مع العائلة.
التقدّم البيوتكنولوجي هو نتيجة التقنيّة، فسوف يصبح كلّ شيء، من الأدب، الفنّ، بل والحاجات الروحيّة، خاضعاً للتقنيّة، وهي تتحكّم بالكلّ وبالعِلم كما يقول هايدغر، ومن قبله شروحات ماركس حول مجتمع “الأتمتة” أي مجتمع الآلة، فلسنا بعيدين عن “روبوتٍ” ذي حواس ومشاعر.
يقول محمّد سبيلا: ” الضرورة التقنيّة، ربّما ستُسهم بقدر ما في الاستقلاليّة النسبيّة، وبانفلات نسبيّ في التحكّم بالإنسان (المقصود، ربّما هو، نجاة المرء من قبضة الدولة والرقيب)، مع تزايُد وتضاعُف الآلات التقنيّة”، مُستطرِداً “يتعيّن على المرء مقاومة ذاته، لمُناقشة الموضوع هذا، مُتجاوزاً رؤيا كابِحة”. ومثلما سبَّبت نظريّة التطوّر، والماركسيّة، ونظريّة التحليل النفسي، استفزازات كبرى للثقافات التقليديّة، فإنّ ثورة “البيوتكنولوجيا”، تُعتبر مُنبّهة، مَوجة عبور حقيقيّة.
التحدّيات الفكريّة التي تثيرها ثورة” البيوتكنولوجيا” المعاصرة للثقافات التقليديّة:
- التصوّر الميكانيكي والآلي للدماغ وللجسم.
- التصوّر الكيميائي للدماغ.
- التصوّر الكمّي لمكوّنات الجسم وللحياة.
- نفي وجود طبيعة بشريّة، أساسها القدسيّة والكمال.
- الواحديّة، أي رفض الثُنائيّات المتوازية التقليديّة.
- التحديّات المتعلّقة بمشاريع صناعة الحياة، ولو في شكلها الأوّلي.
- التحدّيات التي تطرحها التطوّرات الجديدة بما يخصّ أنطولوجيا الحياة ومكوّناتها.
ألم يكُن الإنسان في صورته، هو نِتاج تقنيّة رفيعة وسامية؟ وإذا كان الجواب نعم، فما المانع بخضوعه بشكلٍ دائم إلى شروطها من أجل الاستمتاع بالحياة بشكلٍ أفضل، وبعمرٍ أطول؟
*كاتب وشاعر من العراق
قم بكتابة اول تعليق