هل نمتلك فعلاً القدرة على التفكير؟

أفق – بشير الذكواني*

هل لامَسَت الثورات العربيّة عقولنا؟ لقد رفعت ثورة الجِياع للخبز وللكرامة، شعارات “شغل”، “حرّيّة”، “كرامة وطنيّة”. ربّما اشتعلت الثورات ولم يكُن الفكر عمادها أو حَجر الأساس فيها. فهل ثارت عقولنا أم إنّ بطوننا هي التي صرخت تنادي الحريّة؟ قد يدعونا هذا إلى التساؤل عمّا إذا لم تكُن تحكُم ثوراتُنا – من “الربيع العربي” إلى الأحداث التي تقع الآن- العقلَ أو الأهواء؟ فهل خَرجنا فعلاً من حالة الوصاية والقصور العقلي؟ هل ندرِّب ناشِئتنا اليوم على التفكير؟ هل إنّنا قادرون على صناعة عقول تَبني المستقبل؟

إنّه لمَن المرعب فعلاً أن يُقدِم أستاذُ فيزياءٍ على تفجير نفسه بين حشدٍ من المصلّين، بل إنه لمِن المريع والمُفزع أن تتحوّل عقول خرّيجينا إلى قنابل موقوتة. ماذا تُنشئ لنا المدارس والجامعات؟ لماذا تعجز أنظمتنا التربويّة عن حماية العقول؟ ولماذا يفتقر طلبة الآداب إلى الآداب؟ هذا كلّه يرسمه لنا الشارع اليوم بعد مرور سبع سنوات على الثورة، تحوّلنا إلى مكبٍّ للرداءة والفوضى واللّغو السياسي وتدنٍّ للذوق العامّ.

يعلّمنا التاريخ أنّ كلّ الثورات التي تحدث في العالَم إنّما هي ثورات في التفكير تبتغي تغيير أنموذجٍ بآخر. أمّا نحن فلسنا نعرف بعد ما معنى أن نفكّر؛ هذه اللّحظة التي انبثقت مع اليونان قديماً متّخذةً من القول السقراطي الشهير”إعرف نفسك بنفسك” مبدأ لها، والتي تقوم على مَعرفة النَّفس من الداخل وعلى استخراج الحقائق الباطنيّة باعتماد التوليد السقراطي الذي يقوم على السؤال والخروج بالنَّفس من مرحلة الظنّ والذي يبقى مرتبطاً بالمَظهر والمحسوس المتغيّر المتبدّل إلى التعجّب ثمّ الدهشة فالتساؤل عن الحقائق في ذاتها. أمّا نحن اليوم، فنرى اندهاش الكلّ ولكن ليس على الطريقة السقراطيّة، إنّما هو اندهاشٌ أبله، نندهش من دون أن نسأل لماذا نعيش هذا الوضع الكارثي؟ وكيف السبيل إلى تجاوزه؟ وسبب ذلك هو كيفيّة استخدام عقولنا. ولعلّنا نحن “العرب” لم نفهم بعد شعار الأنوار الذي رفعه الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط- في مقالة له بعنوان “ما الأنوار؟” الصادرة في مجلّة برلين الشهريّة سنة 1784 -” لتكن لك الشجاعة لاستعمال عقلك الذاتي”.

نحن لازلنا إلى حدّ الآن تحت قبّة التفكير الغربي ووطأة “الإمبرطور الأميركي” والهائل الصيني الياباني؛ إذ نعاني من عقم في الهويّة سببه الوصاية أو السلطة: ” لا تفكّروا، الرئيس سيفكّر من أجلكم”. فنحن لم نخرج بعد من هذا القصور، ولكن ماذا نعني بالقصور؟ يرى كانط أنّ: ” القصور هو إعاقة عدم استعمال المرء لعقله من دون قيادة شخص آخر”. وهنا يكمن مربط الفرس، فالأنظمة التعليميّة اليوم لا تساعدنا على الخروج من هذا القصور الذي نعانيه لأنّنا أصبحنا كائنات لا تصنع المعرفة ولا تُسهِم في الانتماء إلى العقل البشري. فكلّ ما نجيد فعله هو أن “نجترّ”، وجُلّ ما نفعله هو التكرار لا التجديد أو التجاوز بمعنى العود الأبدي النيتشوي. فكما يقول نيتشه “عبارة العقل الحرّ لا يُمكن أن تُفهم هنا إلّا بهذا المعنى: إنّه عقل محرَّر قد استعاد تملّكه بذاته”.

إنّ الخروج من “القوقعة” والسعي إلى تحرير عقولنا لهو بالأمر العسير، إذ إنّ العادة تقتل فينا رغبة الانعتاق، والخطابات الهواويّة التي تدعو إلى التشبّث بالأصل إنّما هي خطابات تخشى الابتكار والخلق – بمعناه البرغسوني- وتنادي بمبدأ الهويّة الواحدة والدّين الواحد والنظام الواحد وترفض كلّ أنواع الانفتاح وكلّ ما من شأنه أن يجعلنا ننخرط به في خطابٍ كَوني يجمع البشريّة.

وبما أنّ القصور أصبح جزءاً أساسيّاً من بنيتنا النفسيّة والعقليّة، فمن الصعب على كلّ فرد- بحسب كانط- ” الخروج من قصوره الذي أصبح تقريباً جزءاً من طبيعته”.

إنه لمِن العسير أن ننعتق من دون التحلّي بالشجاعة اللّازمة لتجاوز أنفسنا وتمزيق هذا النسيج المُحكم من الوهم الذي يطوِّق عقولنا، هنا تكمن عظمة الإنسان في قدرته على تجاوز ذاته والبدء من جديد؛ فكما جاء على لسان الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسّو (1712-1778) في مقالته “في العلوم و الفنون” :” إنّه لمشهد جميل وعظيم، مشهد الإنسان وهو يتخرّج من العدم بفضل مجهوده الشخصي ويُبدِّد بنور عقله الظلمات التي لفّته بها الطبيعة: ويرتقي فيتجاوز ذاته، ويخترق، بخطىً عملاقة، كالشمس، فضاءَ الكون الشاسع، ويعود إلى ذاته، وهو أمر أعظم وأصعب، ليدرس الإنسان ويعرف طبيعته و واجباته وغايته”.

إنّ معرفة الطريقة وتحديد الغايات ورسْم خارطة عمل تقود الشعوب إلى التحرّر من جهلها، تجعل منها أُمماً تنتمي إلى العقل البشري بصفة كونيّة حتّى تتمكّن من السير بدروبٍ آمنة. والغاية الأعلى للشعوب العربيّة تكمن في معرفتها الطريقة الأنجع للتخلّص من أوهامها وأساطيرها؛ إذ إنّ الصنم الأكبر الذي تعانيه “الأمّة العربيّة” هو “العجز”، ولا بدّ لنا أن نتخلّص من مصطلحات “المَشاعر الارتكاسيّة” من قبيل “نحن نعجز”، و”نحن غير قادرين على …”، و”نحن ننتمي إلى العالَم الثالث”…

أوّلاً: أن نبدأ بالـ “أنا” عوضاً عن الـ “نحن”

ففي “نحن” – بعض الأحيان- تهرّب من تحمّل المسؤوليّة، علينا أوّلاً أن نتعلّم كيف نُقيم كينونتنا، كيف نقول الـ “أنا”. عندها سيبدأ أفراد المجتمع بمعرفة نقائصه وتجاوزها، وبتجاوزها يجري إصلاح المجتمع.

ثانياً: أن نمتلك إرادة الاقتدار

لأنّ الأشياء لا تتغيّر من تلقاء نفسها بل تحتاج إلى محرِّك دافع وإيمان عميق بالتغيير، وهو ما يُترجم في مُصطلح “إرادة الاقتدار” او إرادة القوّة، هذا المفهوم الذي نجده حاضراً حضوراً جوهريّاً ومركزيّاً في فلسفة نيتشه. فمن دون الإرادة وحبّ البقاء والطموح إلى التغيير، يتحوّل الإنسان إلى شيءٍ ما محدود بمكانٍ ما و زمان ما. يقول نيتشه في “هكذا تحدّث زرادشت”: ” نحن لا نرى اليوم شيئاً يريد أن يصير أعظم من نفسه(…) وما هي العدميّة اليوم إن لم تكُن هذا؟ لقد سَئمنا الإنسان”.

ثالثاً: امتلاك القدرة على الاختيار

إنّ القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ وخلق تصوّر بديل جديد هو الذي يُخرجنا من مأزق الثنائيّتَين. فكما يقول نعوم تشومسكي: ” إذا تصرّفنا وكأنّ لا مكان للتغيير إلى الأفضل، سنَضمن عدم حدوث أيّ تغيّر إلى الأفضل. الخيار خيارنا، والخيار هو خيارك”.

رابعاً: أن نفعل

إذا أردنا الإصلاح فعلينا أن نُصلح؛ إذا أردنا التفكير فعلينا أن نفكّر؛ إذا أردنا الخروج فعلينا أن نخرج. يجب علينا الكفّ عن الكلام والتوجّه نحو الفعل مُباشرة.

قد تكون مهمّة الفلسفة تعليم الناس القدرة على التفكير في كونها “حبّاً للحكمة”، وقد تُدرِّبنا على امتلاكِ حسٍّ سليم. بل قد تُعلِّمنا القدرة على الحُكم على الأشياء وتهذيب ذوقنا بما يجعل منّا ذوات عاقلة. ولكنّها قد تُسقطنا أيضاً في وهْمٍ جديد تحدَّث عنه هايدجر، ألا وهو وهْم التفكير. هذا الحَرَج الذي صاغه على النحو التالي: “هل من المُمكن أن تكون نهاية الفلسفة توقّفاً لطريقة التفكير؟”.

إنّ جامعاتنا العربيّة – وبخاصّة أقسام الفلسفة، والتي يوكَل إليها مهمّة الإصلاح باعتبارها مصدر التفكير الحرّ- تُكرِّر ما سبق قوله؛ فتقوم على حفظ تاريخ الفلسفة منذ الإغريق إلى حدود الفترة المُعاصرة. فنعتقد بفعلنا هذا أنّنا نفكّر، لكن جلّ ما نقوم به هو صياغة ما قاله القدماء بطريقة “عصريّة” بعض الشيء.

إنّ تصديق أوهام ابتدعناها لهو من أخطر ما قد يعيق تحرُّر العقول. فهو يأسرنا في حلقة مفرغة نصنعها بأنفسنا ولا نعرف منها خلاصاً.

من الجيّد إعمال عقولنا شرط أن نُحسن استعمالها، فكما يقول كانط : “من الضروري أن يستعمل المرء بحريّة عقله العمومي، وهذا الاستعمال وحده هو الذي بإمكانه نشْر الأنوار بين الناس”.

لا بدّ لنا أن نهتمّ بإصلاح عقولنا وتهذيب أذواقنا. فالإرهاب يخترقنا من الداخل والخارج. إنّ هذه المَجازر التي تقام هي جرائم في حقّ الإنسانيّة ونحن مسؤولون عنها؛ إذ إنّنا سمحنا للعصبيّة أن تتحكّم في عقولٍ عاجزة هي الأخرى عن التفكير والإيمان بالاختلاف. ثمّ إنّ الاستنكار والنبذ لن يخلع عن أمّتنا ثَوب الحداد الأسود؛ بل لا بدّ من تدريب العقول على قيَم الحريّة الذاتيّة وقدرتها على الخلق والإبداع. والسؤال يتمثّل إذن في كيفيّة إنتاج عقولٍ شابّة قادرة على صناعة المستقبل. ولعلّ ذلك لن يكون في الغد القريب، لكنّ الأمل والإيمان هُما أساس أيّ إنجاز كما قال هيجل: ” إنّ مبدأ هذا العالَم الحديث هو بعامّة حرّية ذاتيّة”.

*باحث في الأنساق الفلسفيّة من تونس

قم بكتابة اول تعليق

أترك لنا تعليق

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


+ 42 = 50