أفق – إسلام حجازي*
قبل انتهاء العام 2018 وبداية العام 2019، نشرَ مركز الدراسات الاستراتيجيّة والدوليّة (CSIS)، وهو مركز أبحاث أميركيّ مقرّه واشنطن دي سي، تعليقاً سياسياً أكَّد من خلاله أنّ السمة الأبرز للعام 2019 ستكون الارتباك وحالة عدم اليقين. وقد وضَع هذا التعليق، الذي كَتبه صامويل برانين، قائمة غير شاملة لأوجه عدم اليقين الكبيرة التي بدأت تلوح في الأفق.
وفقاً لتوقّعات مدير مجموعة المَخاطر والتنبّؤ، تأتي حالة الضبابيّة التي سوف تتَّسِم بها السياسات النقديّة والتوقّعات الخاصّة بالاقتصاد الكلّي العالَميّ على رأس قائمة مَخاطر العام 2019، مُبرِّراً ذلك بتأخُّر التوصّل إلى الميزانيّة الفيدراليّة الأميركيّة للعام الماليّ 2019، ناهيك بميزانيّة العام 2020، مع حدوث انقسام في الكونغرس، وإعادة التفاوُض بشأن سقْف الدَّين، وإمكانيّة العودة إلى سياسة خفْض الإنفاق، فضلاً عن قُرب انتهاء تحقيق “مولر” الذي من المُرجَّح أن يكون لنتائجه تأثيرٌ جيّدٌ، بخاصّة أنّ الرجوع إلى التاريخ يشير إلى أنّ الأسهم قد فقدت 42 في المائة من قيمتها أثناء فضيحة “ووترغيت” في كانون الثاني (يناير) 1973- آب (أغسطس) 1974.
وفي السياق ذاته، يشير “برانين” أيضاً إلى تزايد حدّة التوتّرات بين الولايات المتّحدة والصين مع قرب انتهاء الموعد النهائي للمُفاوضات التجاريّة في الأوّل من آذار (مارس) 2019، ولاسيّما في ما يتعلّق بضوابط التصدير والمُنافَسة في تكنولوجيّات الجيل المُقبل، بدايةً من تكنولوجيا الجيل الخامس وصولاً إلى الذكاء الصناعي. فضلاً عن ذلك، من المُرجَّح زيادة الاضطّرابات المتعدّدة مثل البريكست، وأزمة الديون الإيطاليّة، والاضطّرابات المدنيّة والرئاسة المتقلِّبة في فرنسا، ووضْع المُستشارة الألمانيّة أنجيلا مريكل، التي وُصفت كالبطّة العرجاء، والمزيد من الاضطرابات الأخرى التي من شأنها أن تَعصف بالاتّحاد الأوروبي.
ويؤكِّد “برانين” أنّ المخاطر الماليّة والاقتصاديّة للعام 2019 لن تقف عند هذا الحدّ فقط، بسبب تزايُد الأدلّة على حدوث مشكلات في الأسواق النّاشئة، من الأرجنتين حتّى زامبيا، حيث سيؤدّي انخفاض قيمة العُملة إلى حدوث أزمات ائتمانيّة، وهروب المُستثمِرين إلى أماكن أكثر أماناً. ومن المُرجَّح أيضاً أن يستمرّ اختلال التوازن بين العَرض والطلب في أسواق الطّاقة وسْط تراجُعِ نموّ الاقتصاد الكلّي العالَمي بسبب العوامل المذكورة أعلاه.
أمّا ثاني المَخاطر الخمسة الكبرى التي ينبغي مُراقبتها خلال العام 2019، فيتعلَّق باستمرار التحطُّم البطيء لصناعة السيّارات التي ستجد نفسها مُحطَّمة بين ثلاثة اتّجاهات وواقعٍ واحد. فمن ناحية أولى، يبدو أنّ السيّارة التقليديّة كما نعرفها، ستُصبح شيئاً من الماضي، وذلك بسبب ظهور السيّارات الكهربائيّة، والسيّارات ذات القيادة الذاتيّة، وسيْطَرة إنترنت الأشياء والاقتصاد القائم على البيانات. ولهذا، من المُرجَّح أن تَدخُلَ شركات إنتاج السيّارات الكبرى في جميع أنحاء العالَم في سباقِ تسلُّحِ قوى، ليس مع بعضها البعض فحسب، ولكنْ أيضاً مع بعض القادمين الجُدد مثل شركات “أبلApple ” و”وايموWaymo”.
ومن ناحية ثانية، يتوقَّع البعض حدوث تغيّر في توقّعات المُستهلِكين وأنماطهم وسلوكيّاتهم. فكَم عدد الشباب من ذوي العشرين ربيعاً الذين لا يمتلكون سيّارة أو حتّى يرغبون في امتلاكها؟ هذا تغيير في توقّعات المُستهلِك. ولهذا، يجب على شركة فورد موتورز أن تُعيد اختراع نفسها كشركة نقل، بخاصّة أنّ المُستهلكين المُستقبليّين للسيّارات من المحتمل أن يكوّنوا شركات سيّارات بأنفسهم، ولهذا يجب أن يتمّ اختراع نماذج أعمال جديدة تُوجَّه لهؤلاء العملاء.
أمّا الناحية الثالثة والأخيرة، فتتعلّق بالتوتّرات التجاريّة العالَميّة في سياق إعادة التفاوض بشأن اتفاقيّة التجارة الحرّة لأميركا الشماليّة (NAFTA)، حيث حصلت الولايات المتّحدة على رغبتها في الحصول على نسبة أعلى من الأجزاء المُصنَّعة في أميركا الشماليّة، ورفْع أجور عُمّال المَصانع، وحقوق المُساوَمة الجماعيّة. وبعد حصولها على تخفيض على الرسوم الجمركيّة المفروضة على السيّارات من الصين، من المرجَّح أن تسعى إدارة ترامب الآن إلى استغلال هذه المعايير الجديدة من أجل الحصول على مَكاسب من شركات صناعة السيّارات العالميّة الأخرى، بما في ذلك الهدف المفضَّل للرئيس ترامب، وهو شركات صناعة السيّارات في الاتّحاد الأوروبي. ولا شكّ أنّ التهديد بفرْض تعريفات جمركيّة بنسبة 25 في المائة على السيّارات المُصنَّعة خارج الولايات المتّحدة الأميركيّة، سيظلّ سَيفاً مُسلَّطاً على رقبة صناعة السيّارات الألمانيّة على وجه الخصوص.
ويرتبط ثالث المَخاطر الخمسة الكبرى التي ينبغي مُراقبتها من قبل أميركا خلال العام 2019، بتصاعُد حدّة التوتّرات الجيليّة في الولايات المتّحدة الأميركيّة. ففي وقتٍ ما من العام 2019، يتوقَّع مركز “بيو “Pew للأبحاث أنّ أبناء الألفيّة، البالغ عددهم 62 مليوناً، وتتراوح أعمارهم بين 23 و38 عاماً، سيتفوّقون على المَواليد الذين تتراوح أعمارهم بين 55 و77 عاماً، بوصفهم فئة البالغين الأكبر حَجماً في أميركا. ولا شكّ أنّ هذا التحوّل الديموغرافي قد يسفر عن مجموعة من العواقب الوخيمة.
في هذا السياق، يؤكِّد “برانين” أنّ جيل الألفيّة الأميركي، المولود في الفترة 1981-1996، بات على وشك أن يُصبح الكتلة النّاخبة والعُمّاليّة الأكبر، وأنّهم يفكّرون بطريقة مختلفة تماماً بشأن الأشياء مُقارنةً بالأكبر منهم سِنّاً. كما أنّهم أوّل جيل في تاريخ الولايات المتّحدة يُتوقَّع أن يكونوا أقلّ ثراءً من آبائهم. ولهذا، يُتوقَّع اختلاف حساباتهم المتعلّقة بالوضع الرّاهن عن شيوخهم.
ويضيف “برانين” أنّ تداعيات هذا التوتّرات الجيليّة قد تمتدّ آثارها إلى ما هو أبعد من السياسات المحليّة. فهناك بالفعل اختلافات جذريّة في المَواقف والقيَم بين الجيلَين. وهناك تفضيل واضح لجيل الألفيّة لوجود سياسة خارجيّة أقلّ تركيزاً على مبدأ “الدفاع الصلب”، وأكثر اعتماداً على التعاون، حتّى مع بلدان مثل الصين. فضلاً عن أنّهم يبدون اهتماماً أكبر بالبيئة، ويرغبون في ربْط قضاياها بالاقتصاد والأمن.
في حين يدور رابع المَخاطِر الكبرى، التي ينبغي مراقبتها خلال العام 2019، حول توقُّع حدوث المزيد من عمليّات القرصنة والتلاعُب المعلوماتي في ظلّ زيادة حدّة المُنافَسة في “المَناطق الرماديّة”، حيث سيواصِل كلٌّ من روسيا والصين وإيران وكوريا الشماليّة الانخراط في مجموعة من الأنشطة السريّة التي تطمس الحدود بين الحرب والسلام، وهو الأمر الذي قد يلغي نقاط القوّة التقليديّة للولايات المتّحدة وحُلفائها.
فضلاً عن ذلك، يؤكِّد “برانين” أنّ تكتيكات المَناطق الرماديّة، بدايةً من تدخُّل روسيا في انتخابات العام 2016 وصولاً إلى أسلوب “الإخضاع عبر الديون”، الذي تُمارسه الصين على الدول حول العالَم، أصبحت تُحقِّق أهدافاً سياسيّة وعسكريّة لخصوم الولايات المتّحدة الأميركيّة من دون أن يتعرَّضوا لردٍّ “مؤذٍ” مُتناسب مع هذه الأعمال. ولهذا، نجحت بعض الدول الضعيفة في تهميش ميزة التفوّق الاقتصادي والعسكري الأميركي بشكلٍ تدريجي واستراتيجي، وقوَّضت تلك الدول النِّظام العالَمي، في الوقت الذي اتُّهمت فيه الولايات المتّحدة الأميركيّة علانيّة بإساءة استخدام قوّتها النسبيّة، والعمل من جانب واحد.
أمّا الخطر الخامس والأخير في سلسلة المَخاطر الكبرى التي ينبغي مُراقبتها خلال العام 2019، والتي رَصدها الباحث في مركز الدراسات الاستراتيجيّة والدوليّة الأميركي، فهو توقُّع استمرار انجراف منطقة المحيط الهادئ- الهندي نحو النّظام القائم على مبادئ “الهوبزيّة”، التي تُنسَب إلى المفكّر والفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز، حيث يُطالِب كلٌّ من الولايات المتّحدة الأميركيّة والصين دولَ هذه المنطقة، على نحو مُتزايد، بالاختيار في ما بينها، وهو الأمر الذي يُعَدّ ابتعاداً عن عصر تعدديّة الأطراف والتكامُل الأوسع نِطاقاً.
وفي هذا السياق، يُشير “برانين” إلى إنّ مَوقف إدارة ترامب المتشدِّد تجاه الصين، ما زال يفتقر إلى إطارٍ تنظيمي يَتجاوز مسألة “التنافس الاستراتيجي”. ففي الوقت نفسه الذي تمّ فيه الترحيب بالدعوات الأميركيّة لجعْل منطقة المحيط الهادئ- الهندي حرّة ومفتوحة، أثارَ فَشَل الرئيس ترامب في حضور قمّة شرق آسيا، وقمّة الآسيان- الولايات المتّحدة في سنغافورة، واجتماع القادة الاقتصاديّين لمنتدى التعاوُن الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (APEC) لعام 2018 في بابوا غينيا الجديدة، قلقاً عميقاً بشأن التزامات الولايات المتّحدة في المنطقة. ولا شكّ في أنّ الوجود العسكري الأميركي المُتزايد وتقديم مُبادرات جديدة للتعاون في مجالات تطوير البنية التحتيّة والأمن السيبراني لدول هذه المنطقة، ما زالت أموراً مفيدة؛ لكنّ غياب الإطار الاقتصادي الذي يُمكن له أن يحلّ محلّ اتّفاق “الشراكة عبر المحيط الهادئ”، يظلّ أهمّ مسألة تتعلّق بالسياسة من منظور دُول المنطقة.
من جانبها، ووفقاً لتوقّعات “برانين”، ستُواصل الصين تأكيد وجودها عبر ادّعاءات السيادة الإقليميّة، وأنشطة بناء الجزر في بحر الصين الجنوبي، والسياسات القسريّة لمُبادرة “حزام واحد- طريق واحد”، وتدخّلها الخبيث في الشؤون الداخليّة والعمليّات الديمقراطيّة لجيرانها. وعلى الرّغم من ذلك، ليس هناك أيّ أسئلة مطروحة في المنطقة حول بقاء الصين هناك. ويبدو أنّ الزيارة الأخيرة التي قام بها رئيس الوزراء الياباني، شينزو آبي، إلى بكين، والتي تُعتبر الأولى من نوعها منذ سبع سنوات، كانت مثالاً حيّاً على شعور حلفاء الولايات المتّحدة وشركائها في المنطقة، بأنّهم يجب أن يجدوا طريقاً للتعايش مع الصين، لا يعتمد بالضرورة على استمراريّة وجود الولايات المتّحدة والتزامها. الأمر ذاته ينطبق على التقارُب الأخير مع الصين من جانب سنغافورة والفلبّين، والذي يُظهر كيف أنّ قلق دُول المنطقة من “عدم الالتزام” الأميركي، أصبحَ يُترجَم إلى قرارات فعليّة، تأمل بلدان هذه المنطقة أن تُسهِم من خلالها في تحسين وضعها للتعايش مع قوّة عظمى مُقيمة في المنطقة، بل ومُتزايدة على نحوٍ كبير، مثل الصين.
*كاتب من مصر
قم بكتابة اول تعليق