الإسلام بنَفَسٍ ليبراليّ

أفق – د. عبد الهادي أعراب*

يحيل العنوان المسطَّر أعلاه إلى مجموع الديناميّات الدينيّة التي عرفها العالَم العربيّ والإسلاميّ بدءاً من منتصف تسعينيّات القرن المُنصرم، وهو ما لخّصه “باتريك هايني” في مفهومٍ تركيبيّ دالّ: “إسلام السوق” (ميَّز “هايني” ما بين الإسلام السياسيّ كحركة اجتماعيّة تشكلّت بعد حسن البنّا مؤسِّس حركة الإخوان المُسلمين، وبين الأسْلمة وإعادة الأسلمة التي تحيل على زيادة المُمارسة الدينيّة والعلامات الدالّة عليها عيانيّاً). يتعلّق الأمر بتحوّلٍ كبير مثَّله تعايش حركة الأسْلَمة والعَولمَة، ضدّ الأطروحات الاستشراقيّة التي اعتبرت المجتمعات الإسلاميّة محكومة بنمطِ تديُّنٍ ثابت وضدّ الخِطاب الإعلاميّ الأجنبيّ والسياسات الغربيّة المردِّدة لمنظور الاختزالي نفسه لتعدديّة هذه المجتمعات.

لتأطير هذا التديّن الجديد، جغرافيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً، توسَّل الباحث منهجاً وصفيّاً تحليليّاً عبر عِدّة مفاهيميّة تركيبيّة منها:(تسليع الإسلام- إسلام المشاريع- سوق الحلال والبركة- أسلمة الحداثة الغربيّة-عَلْمَنة التديّن- عصْرَنة الدعوة- عَوْلَمة الأسلمة- تشفير الهويّة الدينيّة- المنجمنت الأخلاقي- عالَم الألبسة المُعولَم- الهويّات الموقّعة- لاهوت الازدهار- الثروة الفاضلة- أسلمة العَولَمة- الحداثة المسلمة – استهلاكيّة الحشمة …)، رابطاً ما بين نمطٍ من التديّن الإسلامي والأسُس الفلسفيّة للسوق، معرِّفاً إيّاه بأنّه:”مزيج من النزعة الفردانيّة المُتعولِمة ونَزْع للقداسة عن الالتزام التنظيمي، بما يتضمّنه ذلك من التخلّي عن الشعارات الكبرى التي كانت تدعو إلى أنّ الإسلام هو الحلّ وإعادة النَّظر في فكرة شموليّة الإسلام لكلّ مناحي الحياة”. إنّه تديُّن تطوَّر وتدعَّم عالَميّاً ليُنافِس النموذج الإسلاموي الذي رَبَط الهويّة بالسياسة والدّين، لذا مثّل”الثورة المُحافِظة الأخرى” وهو العنوان الفرعي للمؤلّف في نسخته الفرنسيّة وعمق أطروحته ككلّ؛ ثورة تستعيد درس الثورة الأميركيّة المُحافِظة وفكرة الدولة غير المتدخّلة قياساً للنموذج اليعقوبي الفرنسي. هكذا يَمنح العنوان بشقَّيه، انطباعاً قويّاً بأنّنا أمام نموذج إسلام على الطريقة الأميركيّة، الربط فيه واضح بين الدّين والاقتصاد، والفصل فيه أوضح بين الإسلام والسياسة؛ هو عنوان دالّ يَرسم خارطة سيرورة التديّن في العالَم العربي الإسلامي البعيدة عن الاصطدام بالثقافة الغربيّة بعد تراجُع جاذبيّة الإسلام السياسي بيوتوبيّاته، لمصلحة قيَم الفردانيّة والنجاح المُستعارة من الغرب الذي طالما تمَّت شَيْطنته في النموذج الأوّل.

تتأسَّس أطروحة “هايني” إذن، على تفاعُل مُمارسات التديّن الإسلامي إيجاباً مع فلسفة السوق بعد أن داخلتها ثقافة إسلاميّة جديدة أرست علاقة مُغايرة وأكثر انفتاحاً. وبالضدّ من أطروحة صدام الحضارات وأطروحة الحركات السياسيّة التي تضع الهويّة مقابلاً للعَولَمة، يؤكِّد تقاطُع ديناميّات العَولمة والهويّة، مواجِهاً في مستوى آخر العلمانيّة التي تدعو لإسلام الشأن الشخصي والإسلامويّة ذات الطابع الشمولي. وبملاحظته وتتبّعه للممارسات الاجتماعيّة، تنبَّه للتحوّلات الاجتماعيّة الدقيقة التي مسّت العلامات والرموز والمفاهيم الدينيّة كالحشمة والعمل الخيري ونموذج الدعوة، ببروز خطاب إسلامي منغمس في التجارة والمشاريع التنمويّة ونظريّات “المنجمنت management” لخَّصه “هايني” في “لاهوت النجاح”.

لقد رأى في إسلام السوق احتجاجاً داخليّاً هادئاً على النماذج الشموليّة للإسلامويّة، مثّله شبابٌ مثقّف نشأ وهو على ثخوم الإخوان، متأثّراً بالعَولمة وبمفاهيم اللّيبراليّة والرأسماليّة، فطوَّر أمزجة دينيّة مُغايرة لدى الفئات المتوسّطة بمسحة صوفيّة بعيدة عن السياسة، ليفقد الخطاب الإسلامويّ بالتدريج وهجه بعد أن تضاعفت دعوات مراجعته من الداخل (نذكر مثلاً أنّ واحداً من كِبار الإخوان وهو الدكتور أحمد النجّار تراجَع عن فكرة البنوك الإسلاميّة مثلاً، بعدما كان من روّاد ما يسمّى بـ “الاقتصاد الإسلامي”) والاعتراض على هرميّة تنظيماته وجمودها. وبالتخلّي عن شعار”الإسلام قادر على احتواء كلّ شيء” وفكّ الارتباط ما بين الهويّة والسياسة لمصلحة مساحات كبرى للفرد وللذّات المُنطلِقة المتحرّرة، لم يعُد الهدف الأسمى استعادة الخلافة أو تطبيق الشريعة وإنّما بناء مجتمعات مدنيّة مُزدهِرة. بهذا مثّل “إسلام السوق” صوت “اتّجاهٍ إسلامويّ ناقِم”، واجِداً في النضال الإسلامي لحماية البيئة وتمكين المرأة أو”النسويّة الإسلاميّة”والتنميّة الذاتيّة وحوار الأديان بعض مَلامح الالتزام الديني.

إنّه تديّن محبَّب ومَرن وغير مسيَّس(منزوع الدسم) يعبِّر عن “برجزة” سيرورة الأسْلَمة وإعادة بَرْمَجة العرض الدّيني ليوافق العالَميّة. أو قلّ هو إسلام البورجوازيّة المتديّنة الجديدة الخالي من أيّ تعبير ديني عن المحرومين والمهمَّشين والأقرب إلى التديّن العَملي الرأسمالي الذي رصده “ماكس فيبر” لدى البروتستانت؛ فهو ” ليس حركة مؤسَّسة على حزب أو تنظيم ولا تياراً إيديولوجيّاً كالسلفيّة أو سياسيّاً كالإسلام السياسي”، بل إنّه روح أو توجّه جديد تمكَّن من التوطّن والتأثير في حقائق الإسلام المُعاصر والتجلّي في أنماط الحياة وأشكال الدعوة الجديدة، سرعان ما انتشر إعلاميّاً ليبتعد عن إطاره النخبوي ويصير ظاهرة مجتمعيّة لدى الطبقات الوسطى الحضريّة.

اتّسم المَيل اللّيبرالي لإسلام السوق كتحوٍّل مرصود بالمرونة وبذهنيّة جديدة في التعامل مع المرويّات الكبرى للإسلامويّة، نزعت عن الجهاد حمولته العنيفة ليصير أكثر سلميّة “جهاد النهضة” أو”الجهاد المدني” واستعاضت عنه بالعمل التطوّعي والحركة الاجتماعيّة أو بـ “جهاد إلكتروني” يدمِّر المَواقع المُعادية للإسلام ناقلاً الجهاد العسكري إلى العالَم الافتراضي. إنّه عمل تأويلي للمفاهيم تمتَّع بقدر من”السيولة” أفرغت الجهاد من مضامينه الفقهيّة القديمة وألبسته مفاهيم حداثيّة مُعلْمَنة، إلّا أنّها عمليّة مكلِّفة وتتضمّن قدراً من الخطورة، لكونها “لعبة” اقتطاع مفاهيم إسلاميّة من سياقها اللّغوي والحضاري وإذابتها في سياق مُعولَم سائل يفقدها خصائصها الأساسيّة (من ذلك إضفاء الطّابع العِلميّ على العلاج بالأعشاب في سياق ما سمّي بالطبّ البديل وربطه بالطبّ النبويّ، وأسْلَمَة اليوكا والزان في تقريبٍ غير دقيق بين الصلوات البوذيّة وحركات الصلاة الإسلاميّة).

تؤشِّر هذه التوجّهات الورعة الما بعد حداثيّة، على تفكُّك المشهد الإسلامويّ من الداخل لمصلحة التوافق مع قيَم الثقافة الأميركيّة الاستهلاكيّة، بظهور شركات: مكّة كولا، وزمزم كولا، وقِبلة كولا، وعرب كولا، وربْط الحجاب بالموضة والعلامات التجاريّة، وإعادة تعريف الزكاة في إطار إنسانويّ غربيّ، ومزْج النشيد الإسلامي بإيقاعات عصريّة، كما أبانت مَوجة المدارس الإسلاميّة عن بُعدٍ تسويقي واسع، بمنْح شهادات التعليم الأجنبي للأرستقراطيّة الجديدة وتوظيف معلّمات محجّبات خرّيجات الجامعات الغربيّة أو أجنبيّات مُعتنقات للإسلام. وبدَورها أسهمت الثقافة الجماهيريّة في تغلْغل المُنتجات الدينيّة وترسيخ قيَم التهادي واستهلاك الفنون والإقبال على مواقع شبابيّة للدردشة الإسلاميّة؛ وعبر شركات الإعلام، دخل”الديني”عالَم الممنوعات الأخلاقيّة وتحوَّل الدعاة إلى نجومٍ، كما بات التأكيد على الهويّة الدينيّة يتمّ عبر وسائط علمانيّة. وبالتدريج ازداد تشفير الهويّة الدينيّة بخطاب أخلاقي حوَّلها إلى علامة تجاريّة. وبصنْع مِخيالٍ إسلامي يقوم على الفرجة والاستهلاك وإثارة الإعجاب، توثَّقت صلة الأَسْلَمة بالعَلْمَنة لتبلغ أوجها بالتخفُّف من العناصر الدينيّة نفسها.

يتوجّه إسلام السوق إلى إعادة بناء نموذجٍ فرداني قويّ اقتصاديّاً يُعيد الفخر للمُسلم الجديد. ولئن رأى البعض في هذا التحوّل قدرة الرأسماليّة على نمْذَجة الأخلاقيّات والجماليّات الإسلاميّة في عالَم الاستهلاك بما يهدِّد نمط الحياة الدينيّة، ففرسان الدعوة الجديدة رأوا فيه “النضج واستيعاب مبادئ الاسترخاء والترفيه”؛ فمَع عالَم العارِضات المحجّبات والأكل المُعولَم، لم تَسلم الدعوة الدينيّة من الدعابة والمرح والتنافسيّة وروح العصر. يبدو ذلك واضحاً في نماذجها العصريّة كالدعويّ “عمرو خالد” في مصر، و”طارق السويدان” في الخليج. ألسنا هاهنا أمام مرحلة تشهد أنّ السوق صار” قناة التعبير عن التديّن الأكثر تمتّعاً بالشرعيّة”؟

تأسَّست قيَم الدعوة الجديدة ضدّ ثقافة العجز والفشل في ما يشبه إدانة أخلاقيّة للفقراء والعاطِلين، وانتصرَت في المقابل لعقيدة النجاح استجابةً لمنطق الثروة، بتقريظ إسلام المال والقوّة ما دام الدّين ليس حكراً على الفقراء والثروة ليست إثماً. وخلافاً لمَن يتصوّرون الإسلام يضادّ الغنى، استمدّت هذه الدعوة شرعيّتها الدينيّة والتاريخيّة من سيرة النبي وبعض صحابته ممَّن كانوا تجّاراً ناجحين، وبهذا يحوز إسلام السوق منظومة تبريريّة لتكريس حالة من البرجزة تستلهم نموذج الثروة الفاضلة والخلاص عبر الأعمال الخيريّة وتعوِّض النضال السياسي بالخطاب الديموقراطي و”المجتمع المدني الفاضل” والمُزاوَجة بينه وبين المسجد.

استوعبَ دعاة التديّن الجديد، ببراغماتيّة، أنّ رهانهم الرّابح هو إدماج الاقتصاديّات الحديثة داخل النُّظم الدينيّة التقليديّة، ليكتسب خطابهم القوّة والفعاليّة المطلوبتَين، وبإعادة تفسير الإسلام وإحيائه في ضَوء العَولَمة، تمكّنوا من دخول الحداثة لكنْ بعيداً من بوّابة عصر الأنوار، وهو ما يفسِّر أنّ تحديث الإسلام لم يتمّ تيولوجيّا وإنّما توقَّف عند حدود التكيّف والمُواءمة من دون طرْحٍ بديلٍ صلب، بينما الحداثة الدينيّة الحقيقيّة لا تمرّ إلّا عبر نزْع الطّابع الإيديولوجي للدينيّ.

ألسنا، وقد قصر الحال على العواطف والمشاعر بعيداً من مُراجَعة الأُسس النظريّة، أمام “مرحلة تحديث من دون مشروع الحداثة”؟ ألا يقدِّم إسلام السوق نموذجاً محلّياً لروح الرأسماليّة، نسخة مرمَّقة لإحياء المضامين والمعاني القديمة، تجعل من الإسلام مجرّد محرِّك أو أداة للعَلْمَنة أكثر منه محتوى؟

جامعة شعيب الدكالي، الجديدة- المغرب

قم بكتابة اول تعليق

أترك لنا تعليق

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


9 + 1 =