آسيا جبّار: حينما تُصبح اللّغة ملاذاً اجتماعيّاً

أفق – د.فاطمة واياو*

ما هو المحدِّد لهويّة السرديّات؟ كيف يُمكن وضْع بطاقة هويّة لنصٍّ إبداعيٍّ ما؟ هل من خلال جنسيّة كاتِبه؟ هل عبر اللّغة التي توسَّمها المُبدع؟ أم هل في مَضامين النصوص؟ هل هناك جنسيّة محدَّدة لأدبٍ ما؟ أم أنّ الأدب الحقيقي هو إبداعٌ يتجاوز الحدود الزمانيّة والمكانيّة لتغدو هويّة الأدب الحقيقيّة هي انتماؤه للقضايا الوطنيّة والإنسانيّة؟

يجب التذكير هنا أنّ أغلب السرديّات الخالدة في المَتن الجزائري تنتمي للسرد المكتوب بالفرنسيّة، ما يعني أنّ الصوت الذي استطاع تجاوُز الحدود والتعريف بالشخصيّة الجزائريّة بشكلٍ عميق هو ذلك الأدب الذي دوَّنه كتّاب جزائريّون بلغة موليير؛ وإذا كان هذا التوجّه، على عهد الاستعمار، مفروضاً ولم يكُن اختياريّاً فقط، بفعل الطبيعة الاستيطانيّة للاستعمار الفرنسي في الجزائر، فإنّ هناك كتّاباً نحوا هذا المنحى لأنّهم حُرِموا من تعلّم لغة الضادّ إبّان فترة الاستعمار التي كانت من أطوَل فترات الاستعمار في الوطن العربي، فلم يجدوا وسيلة مُسعِفة للتعبير غير لغة المُستعمِر الفرنسيّة.

وإذا ما عدنا إلى عهد استعمار فرنسا للجزائر، نقف عند حقيقة مهمّة، وهي أنّ الاستعمار الفرنسي في هذه البلاد لم يكُن استعماراً عسكريّاً سياسيّاً واقتصاديّاً فحسب، بل كان، وبالأساس، استعماراً ثقافيّاً، جَعَل من اللّغة الوسيلة الأنجع لتثبيت الاستيطان في نفوس الشعب الجزائري. هكذا أصبحت لغة المعيش اليومي، والتعليم، والتداوُل هي الفرنسيّة، حتّى غدت وسيلة التفكير والإبداع أيضاً.

ثمّة أطروحات دكتوراه ورسائل جامعيّة، وكتابات نقديّة فرانكوفونيّة بل وحتّى أنجلوساكسونيّة، تناولَت أعمال الكاتِبة الجزائريّة، آسيا جبّار، لماذا إذن غابت عن الكِتابات العربيّة وعن التَراجِم؟ رواياتها كانت من المقصيّات من الترجمة العربيّة، على الرّغم من أنّها نُقلَت إلى أكثر من ثلاثين لغة عدا العربيّة، باستثناء رواية واحدة سنعود لذكرها لاحقاً.

لعلّ البحث في الموضوع يوصلنا إلى الإشكاليّة الأزليّة في بنية الفكر والثقافة العربيَّين: الخوف من اللّغة الفاضِحة والجريئة، ولكنْ أيضاً لأنّ الكاتِب هنا امرأة، كاتبة اختارت أن تحيل رواياتها على المشكلات السوسيوثقافيّة للمجتمع الجزائري وليس فقط الإشكال السياسي!!! فهل إهمال أعمالها من طَرف حرّاس اللّغة العربيّة يعود لأنّها عبَّرت عن مَواقفها النسويّة في أغلب كتاباتِها؟

في كلّ أعمالها جسَّدت الصوت النسائي الرّافض للواقع الاجتماعي المُجحف في حقّ النساء الجزائريّات ولكنْ أيضاً لكلّ أشكال العنف؛ هكذا جسَّدت آسيا جبّار، من خلال أعمالها التي ألَّفتها ما بين سنة 1994 و1997، قلقها وحساسيّتها المُفرطة من الكِتابة عن العنف ولكنْ أيضاً مُقاوَمة عنف الكتابة. فنجدها مثلاً في بياض الجزائر ووهران، لغة ميّتة، حيث تحتمي الكاتبة بالأخذ بطريقة التناصّ من خلال استلهام حكايات ألف ليلة وليلة، وهو ما يعني أنّ آسيا جبّار لم تكُن بعيدة عن التراث العربي كجزء من التراث الإنساني والعالَمي. وأيضا لأنّ قصص شهرزاد تجسِّد الصوت النسائي الرّافض للظُلم والخضوع والاستسلام، إنّه الصوت المُقاوِم مثلما تجسِّد آسيا جبّار بطلات روايتها، على الرّغم من أنّ الاختلاف كان جذريّاً بين شهرزاد وبطلة آسيا جبّار؛ إذ إنّ البطلة لديها لم تعُد مجرّد راوِية ذكيّة متحديّة بل أصبحت أستاذة مثقّفة مُستمتِعة، ولكنّها تظلّ الضحيّة لأنّها تنتمي لقيَم مجتمع شهريار الذكوريّ نفسه.

في هذا السياق لا بأس من التذكير بالظهور الفعلي لمدرسة الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسيّة الذي كان في بداية خمسينيّات القرن الماضي، مع كلٍّ من محمّد ديب، وكاتِب ياسين، وآسيا جبّار، ومالِك حدّاد. هذا الأدب الذي طَبَعت نصوصُه مسيرةَ التعلّم لدى أجيالٍ سابقة، يُشير إلى القيَم النبيلة التي كان هؤلاء الكتّاب بلا استثناء ينشرونها على الرّغم من قساوة الظروف المُحيطة. تلك الظروف التي تمثَّلت بخاصّةٍ في استعمارٍ استيطانيٍّ حاوَل جاهِداً القضاء على خصوصيّة المجتمع الجزائري.

نعم إنّ ما يصفه مثلاً مولود فرعون في روايته الرائعة ابن الفقير le fils du pauvre، تعود بنا إلى أيّام الدراسة حيث كانت أغلب النصوص المُبرمَجة لحصّة الأدب الفرنسي مثلاً في الثانويّات المغربيّة تنتمي إلى الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسيّة، وهو ما يعني ثراء هذا الأدب لغويّاً وأدبيّاً ليغدوَ نصّاً فرنسيّاً بامتياز، تعليميّاً، مضموناً وشَكلاً، بل إنّه أكثر إبداعاً لأنّه طوَّع لغة المُستعمِر لتعبِّر عن الخصوصيّة الثقافيّة للجزائر المُستعمَرة.

عندما نتحدّث عن الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسيّة، فإنّنا نقف على إشكاليّةٍ عميقة وفي الآن نفسه غريبة، لم تأخذ حقّها من الدراسة والتحليل من طَرف الدّارسين والنقّاد. فالمُتتبِّع للسرديّات الجزائريّة المدوّنة باللّغة الفرنسيّة، سواء خلال مرحلة الاستعمار أم إبّان الثورة التحريريّة، سيقف على حقيقة مهمّة يستحيل أن يختلف حولها اثنان، وأعني بها تميُّز هذه السرديّات بغوْصها العميق في الحياة اليوميّة الجزائريّة وفي أدقّ تفاصيل المعيش اليومي للإنسان الجزائري. هذا المعطى يحيلنا على أنّ اللّغة الفرنسيّة عند الأدباء الجزائريّين هي مجرّد وسيلة للتعبير، بخاصّة أنّ أغلبهم لم تُتَح له فرصة التمكّن من أدوات التعبير باللّغة العربيّة، بل إنّ معظمهم حُرموا من تعلّم اللّغة العربيّة إبّان الفترة الاستعماريّة.

لقد اعتمدت سياسة الاستعمار الفرنسي الاستيطانيّة محو الثقافة المحليّة وترسيخ اللّغة الفرنسيّة والثقافة الفرانكفونيّة، على اعتبار أنّ الاستعمار الثقافي كان جزءاً من المخطّط الاستعماري. ولعلّ ما يسرده لنا تاريخ الاستعمار الثقافي للجزائر، يشير بكلّ وضوح إلى أنّ الأدب الفرنسي الاستعماري كان من بين الوسائل التي اعتمدها الاستعمار لمحو الجزائر العربيّة الأمازيغيّة الأفريقيّة، وذلك من خلال تأكيد هذا الأدب على البُعد الروماني اللّاتيني للجزائر، وبالتالي فهي جزء من التراب الفرنسي ومُقاطَعة فرنسيّة على القارّة الأفريقيّة.

وإذا ما عُدنا مرّة أخرى إلى كِتابات الروائيّة الجزائريّة آسيا جبّار، وغصنا في كِتاباتها، فإنّنا نُفاجأ عندما نقف على حقيقة صادِمة تتمثّل في عدم اهتمام النقّاد العرب بسرديّات هذه الروائيّة المُناضِلة، على الرّغم من أنّ أغلب رواياتها تُرجمت إلى لغاتٍ عدّة وأضافت للأدب الإنساني العالَمي الشيء الكثير. باستثناء ترجمة عربيّة لرواية وحيدة هي “لا مكان في بيت أبي”(2017) Nulle part dans la maison de mon père، والتي تُرجِمَت إلى العربيّة تحت عنوان “بوّابة الذكريات” من طرف محمّد يحياتن، نُشرت من قِبل المركز الثقافيّ العربيّ، بيروت/ الدار البيضاء.

اختلف النقّاد حول تقييمهم لأعمال الراحلة آسيا جبّار، غير أنّني، وبالعودة إلى بعض أعمالها، وقفتُ عند حقيقة مهمّة وهي أنّ آسيا جبّار لم تكُن كاتِبة مُقاوِمة للاستعمار الفرنسي فقط، بل كانت وبالأساس مُناهِضة لكلّ أشكال الأبويّة التي كانت تُمارَس على النساء الجزائريّات، لتتضاعف مُعاناتهنّ بسبب السيطرة المزدوِجة لثقل التقاليد والنّظام الأبوي من جهة، والاستعمار من جهة أخرى، الذي لم يفرِّق بين الجزائريّين نساء كانوا أم رجالاً. فرواية “لا مكان في بيت أبي” كمثال على أعمال آسيّا جبّار القويّة، والتي لم تجسَّد فيها سيرتها الذاتيّة فحسب، بل رؤيتها للأبويّة التي تعاني منها كلّ نساء البلاد العربيّة وليس في الجزائر فقط. فكِتاب آسيا جبّار “لا مكان في بيت أبي”، وهو آخر ما أبدعته الراحلة المُبدعة، ينمّ على أنّ وضع المرأة لم يتغيّر؛ إذ ما زال الفكر الأبوي يضيق عن احتضان طموحات النساء، وتمكينهنّ من تحقيق مكانة لائقة في المجتمع الأبوي الجزائري والعالَمي. ضاق بيت الأبّ عن احتضان الإنسانة الأنثى الرّافِضة والمتمرِّدة على القوالِب الجاهزة.

صحيح أنّ هذا الأدب أضاف للأدب الفرنسي الشيء الكثير بل إنّه كان متنفّساً جديداً خلَّد اللّغة الفرنسيّة باعتراف أدباء ومفكّرين فرنسيّين أنفسهم، إلّا أنّه يظلّ أدبا جزائريّاً بامتياز، نستشعره ونحن نغوص في ثنايا النصوص، له نكهة خاصّة وميزة أخرى أنّه يصوِّر حياة الشعب الجزائري التي تختلف كلّياً عن ما عبَّرت عنه نصوص أدباء فرنسا.

ما يميّز هذا الأدب أيضاً أنّه لم يكن يجاري ما يريده مثقّفو وسياسيّو فرنسا، مجرّد موضوعات مفصَّلة على مقاس الاستيلاب الاستعماري، بل إنّه نقل ما يعانيه الجزائريّون إلى عقل الفرنسيّين وذهنيّتهم، وهو بالتأكيد ما لم يكُن يروق لحامِلي الفكر الاستعماري، على الرّغم من أنّه بقوّته الإبداعيّة فَرَض نفسه بين أسماء كبيرة في الأدب الفرنسي. ألَيس تتويج آسيا جبّار كأوّل كاتِبة عربيّة وأفريقيّة في أكاديميّة اللّغة الفرنسيّة اعترافاً بمكانة الأدب الجزائري المدوَّن بالفرنسيّة؟

كان لأصول آسيا جبّار الأمازيغيّة تأثيرٌ جليّ على تكوين شخصيّتها، فضلاً عن التربية التي حرص والدها على توفيرها لابنته. فقد كان يدعمها في تحصيلها العِلمي وفي مُواجَهة أشكال القمع التقليديّة كافّة. وعلى الرّغم من أنّ آسيا جبّار استطاعت بلغتها الإبداعيّة الفرنسيّة أن تصل إلى الأكاديميّة الفرنسيّة، إلّا أنّنا نجدها في ثنايا كتاباتها في مناسبات مختلفة، تتوسَّم اللّغة المَحكيّة الجزائريّة للتعبير عن وضعيّة المرأة الجزائريّة، ما أضفى على كِتاباتها الجديّة والأصالة والصدق. وهي حقيقة توحي لنا بأنّ آسيا جبّار كانت تعاني من مسألة اللّغة، بخاصّة في كتاباتها الأخيرة، حيث أفردَت مؤلّفَين لمسألة اللّغة هُما: “هذه الأصوات التي تُحاصرني على هامش فرانكفونيّتي” Ces voix qui m’assiègent en marge de ma Francophonie، الصادر سنة 1999، ورواية “اختفاء اللّغة الفرنسيّة” La Disparition de la langue française الصادرة سنة 2003.

فآسيا جبّار لم تكُن تسوِّق الصورة السياحيّة عن المرأة بل كانت وظلّت إلى آخر إبداعاتها مُناضِلة نسائيّة وإنسانيّة من خلال لغتها الإبداعيّة التي كانت لها بمثابة ملاذ وملجأ اجتماعيّ وثقافيّ ومَصيريّ.

*كاتبة وباحثة من المغرب مُقيمة في إسكوتلانده

قم بكتابة اول تعليق

أترك لنا تعليق

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


35 − 32 =