أفق – فخري صالح*
وُلد المثقّف، في معناه الحديث، في نهايات القرن التاسع عشر، بعد احتدام الجدل حول ما يسمّى “قضيّة درايفوس”، الضابط الألزاسيّ اليهوديّ في الجيش الفرنسيّ الذي اتُّهم في العام 1894 بالخيانة وإفشاء أسرار فرنسا العسكريّة للسفارة الألمانيّة في باريس. وبعد نفي ألفريد درايفوس خارج فرنسا والحُكم عليه بالسجن المؤبّد، انفجرت في فرنسا الاحتجاجات وانقسم المجتمع إلى مَن هو مع درايفوس ومَن هو ضدّه، بعدما تبيّن أنّ القضيّة مدبّرة، وأنّ المتَّهم الحقيقيّ ضابط فرنسيّ آخر.
وقد وصف الكتّاب والعُلماء الفرنسيّون، مثل أناتول فرانس وهنري بوانكاريه، الحُكم على درايفوس بأنّه نابع من التحيّز ضدّه كيهوديّ، واللّاساميّة التي كانت لها مَعاقل قويّة في فرنسا في نهايات القرن التاسع عشر. لكنّ الرسالة التي وجَّهها الروائي الفرنسيّ الشهير إميل زولا إلى الرئيس الفرنسيّ فيليكس فور Felix Faure ونُشرت في صحيفة L’Aurore في الثالث عشر من شهر كانون ثاني(يناير) 1898 هي التي فجّرت القضيّة. فقد دَافع زولا عن درايفوس متّهِماً الحكومة الفرنسيّة باللّاساميّة وسجْن درايفوس دونما وجه حقّ، ما أثار الحكومة الفرنسيّة ضدّ زولا الذي هرب متوجّهاً إلى إنكلترا بعد الحُكم عليه بالسجن، ولم يعُد إلى فرنسا إلّا في العام 1899.
هكذا، فإنّ تاريخ نشْر رسالة إميل زولا يدشِّن يوم ميلاد مفهوم المثقّف، أي الكاتِب أو الفنّان المهتمّ بالشأن العامّ والمُدافِع عن المظلومين، ومَن يندب نفسه لتصحيح الأخطاء التي ترتكبها السلطة أو المجتمع. لقد سعى إميل زولا ورفاقه من المُدافعين عن درايفوس، إلى تعيين دَورٍ مختلف للكتّاب والفنّانين والعُلماء والأكاديميّين؛ أي النزول من البرج العاجيّ إلى الشارع.
في هذا السياق من ولادة مفهوم المثقّف، سعى المُناضِل والمنظّر الماركسيّ الإيطاليّ أنطونيو غرامشي إلى تقسيم المثقّفين إلى تقليديّين، يدافعون عن النظام والأفكار السائدة، وعضويّين، يعبّرون عن وعي طبقتهم الاجتماعيّة ويلتصقون بطموحاتها وآمالها. وقد كَتب غرامشي تأمّلاته هذه وهو يقبع في سجنه الصقليّ، في ما أصبح يُدعى “دفاتر السجن“. يُقابل تنظير غرامشي موقفُ الفيلسوف والكاتِب الفرنسيّ جان بول سارتر من دَور المثقّف المُلتزم الذي يحمل رؤية فلسفيّة وجوديّة للدفاع عن أفكاره وقضايا المعذّبين في الأرض. كما يقف على النقيض منه أفكار المفكّر الفرنسيّ جوليان بندا، الذي يؤمن بالدور الرساليّ للمثقّف في كتابه الشهير الصادم “خيانة المثقّفين“. وما يلفت انتباه إدوارد سعيد، في كتابه “تمثيلات المثقّف” (1993)، في تحليل جوليان بندا لدَور المثقّف، هو التشديد على دَور المثقّف الرافض القادر على قول الحقيقة للسلطة. وإذا كان إدوارد سعيد يفضِّل منظور أنطونيو غرامشي في تحليله لوظائف المثقّفين، فإنّنا نستشعر في خطابه مَيلاً إلى ما يمثّله بندا، وانجذاباً إلى نبرة المفكّر الفرنسيّ الرافضة الغاضبة.
وبغضّ النَّظر عن الاختلافات والتمايزات التي تظهر في تنظيرات المفكّرين الذين حاولوا تقديم تعريف للمثقّف ودَوره، فإنّ ثمّة اتّفاقاً ضمنيّاً على أنّ المثقّف، بحُكم دَوره ورسالته وما نذر حياته له، عادةً ما يكون قريباً من نبض الناس، لا يمنعه من تحقيق تلك الرسالة سوى الخوف على نفسه ومصالحه من الأذى. لكنّ المثقّف إذا تحوّل إلى جزء من نظام العرض والطلب في السوق، انتفى دَوره كمثقّف؛ ففي هذه الحال، يُمكن أن نسمّيه خبيراً أو أكاديميّاً أو عالِماً في تخصّصه، لكنّه يتجرّد من صفة المثقّف. لهذا لا ينطبق وصف المثقّف على الكتّاب جميعاً، بل على المُشاركين في الشأن العامّ، ومَن يجهرون بأصواتهم في الذَّود عن الحقوق السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة للناس.
في ضوء هذا المعنى الذي اكتسبه مفهوم المثقّف عبر ما يزيد على قرنٍ من الزمن، في ثقافات العالَم جميعاً، يبدو العاملون بالكلمة والريشة وطوائف المُشتغلين في المسرح والسينما والدراما التلفزيونيّة، والباحثون والأكاديميّون، والعاملون في الصحافة، وكتّاب الأعمدة الصحافيّة، شريحة واسعة ممَّن يُمكن أن نُطلق عليهم وصف المثقّفين إذا نذروا أنفسهم لنقد الظلم والفساد والظواهر التي تدلّ على غياب العدالة وقمع حرّيات التعبير في مجتمعاتهم. وهُم مُطالبون لذلك بقول كلمتهم وعدم تغليبِ مصالحهم الشخصيّة على مصالح الفئات العامّة من الشعب.
مفهوم الطليعة
يتناسل من مفهوم المثقّف الحديث مفهومٌ آخر، يبدو أكثر التباساً وإثارةً للجدل، هو مفهوم الطليعة، الذي ازدهر في الثقافة العربيّة خلال ستينيّات القرن الماضي؛ لكنّ دخول العالَم العربيّ في مرحلةٍ من الاستهلاك السريع للمصطلحات والمفاهيم الثقافيّة العابرة للمحيط، والواردة من بيئاتها الثقافيّة الفرنسيّة والإنكليزيّة والأميركيّة، ألقى بظلالٍ كثيفة على مفاهيم الطليعة والأدب والفنّ الطليعيّين والمثقّف الطليعيّ التي كانت تحتلّ المشهد الثقافيّ طوال ما يزيد على عقدَين من الزمن على الأقلّ. فعلى الرّغم من أنّ مفهوم الطليعة عتيق في الثقافات الأوروبيّة، إلّا أنّه حديث عهد في الثقافة العربيّة، كعادة المفاهيم والمصطلحات والمناهج التي تَرِد إلى الثقافة العربيّة بعد استنفادها في بيئاتها الأصليّة، بسبب تأخّر الاطّلاع والترجمة، أو بسبب حاجة الثقافة العربيّة، أحياناً، لتبنّي هذه المفاهيم والمناهج والتصوّرات الثقافيّة.
يعود مصطلح الطليعة Avant-Guarde إلى الفرنسيّ أوليند رودريغ Olinde Rodrigues الذي سعى في مقالته “الفنّان والعالِم ورجل الصناعة” (1825) إلى نصح الفنّانين والمثقّفين أن يكونوا طليعة الجماهير، قائلاً إنّ ” قوّة الفنون هي الطريقة الأسرع والأكثر فوريّة لتحقيق إصلاحات اجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة”. وقد تبنّت الثقافة العربيّة، وخصوصاً التيّارات الماركسيّة والقريبة من الماركسيّة، وكذلك الوجوديّة أو القوميّة المتأثِّرة بالوجوديّة، هذا المفهوم الشارِح للطليعة الثقافيّة أو السياسيّة. ولم يتمّ النظر إلى التأويلات الأكثر تعقيداً وغوصاً على تحوّلات هذا المفهوم في الثقافات الغربيّة، وخصوصاً ما يتعلّق بتحوّل الطليعة الثقافيّة والفنّية إلى مجرّد بهرجة شكليّة امتصّتها الفنون التجاريّة، وقامت بتطويعها، من دون الأخذ بجوهر معناها السياسيّ والاجتماعيّ، لمصلحة ترويج ثقافة استهلاكيّة تُحِلّ الشكل مكان المادّة الفنّية الأصيلة، ولا تَعبأ بالدور السياسيّ الاجتماعيّ للمثقّفين والفنّانين. ويُمكن العثور على هذا النقد الحادّ للطليعة وفنونها، وطُرق استخدامها في الفنون والآداب المُعاصرة، في ما كتبه ريناتو بوغيولي في كِتابه “نظريّة الفنّ الطليعيّ” (1962)، أو الناقد الأدبيّ الألمانيّ بيتر بيرغر في كِتابه “نظريّة الطليعة” (1974)، أو الأميركي كليمنت غرينبيرغ في مقالته “الفنّ الطليعيّ والكيتش” (1939)، فضلاً عن كِتابات أعضاء “مدرسة فرانكفورت” الفلسفيّة الجماليّة، وخصوصاً ثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر، ومن قبلهم فالتر بنيامين في “العمل الفنيّ في عصر الإنتاج الآليّ” (1936). وقد ابتكرت مدرسة فرانكفورت تعبير “الثقافة الاستهلاكيّة” Mass Culture بدلاً من “ثقافة الكيتش” Kitsch التي استخدمها غرينبيرغ ليصف الثقافة الشكليّة المظهريّة التي سطت على مفهوم الثقافة والفنّ الطليعيَّين لتطوِّعهما لأغراضها التجاريّة.
تحوّل “مفهوم المثقّف” في القرن الـ21
هذا كلّه أصبح ماضياً في ضوء التحولّات الكبرى في الإعلام والاتّصالات، وفي زمن أصبح فيه للشبكة العنكبوتيّة ووسائط التواصل الاجتماعيّ تأثيرٌ هائل على الأدوار والوظائف التي يضطلع بها الأفراد والجماعات، ومن ضمن ذلك أدوار المثقّفين ووظائفهم في المجتمعات ما بعد الحديثة، وكذلك على طُرق النظر إلى الثقافة والفنون. لقد أصبح تأثير الفيسبوك وتويتر، وغيرهما من بَرامج ووسائط التواصل الاجتماعيّ، أعظم بمئات المرّات من دَور الأكاديميّين والمثقّفين والمدرّسين والسياسيّين، لأنّ تلك الوسائط، بغضّ النظر عن تدنّي مستوى المادّة التي تقدّمها، والكتابات التي تُسطَّر على صفحاتها، والحوارات التي تدور عبرها، حرَّرت طُرق نظر الأفراد إلى أنفسهم وإلى العالَم، وشيّدت علاقات وصلات، وأوجدت أنواعاً من التواصل، عابِرة للدول والقارّات، والثقافات، والهويّات الوطنيّة والقوميّة والإثنيّة والجندريّة. وسوف يكون لأشكال التواصل هذه آثارٌ عميقة على علاقات البشر في بقاع الأرض جميعها، ومن ضمن ذلك هدْم التراتبيَّة التي قامت بين المثقّف والجماهير، بين الخاصَّة والعامَّة، الحاكِم والمحكوم…إلخ، هذه التراتبيّات التي تُواصِل وجودها عبر العصور. صحيحٌ أنّ البشر في هذه الحقبة يزدادون تقوْقُعاً على هويّاتهم الفرعيّة أو تلك الأوسع قليلاً، على هويّاتهم المذهبيّة والدينيّة والوطنيّة والقوميّة والإثنيّة، إلّا أنّ ذلك يمثِّل علامات النَزْع الأخير لتقوْقُع البشر حول تلك الهويّات الضيّقة، المُتنافية، بل “القاتلة”، على حدّ تعبير أمين معلوف. إنّ سيلَ العَوْلَمَة الاتصاليّة، الذي حلَّ محلّ العَوْلَمة الاقتصاديّة، سوف ينشأ عنه نوعٌ من الإنسان الجديد الذي يَتجادَل في داخله، بل يَتصارَع، الوجودُ الافتراضيّ والوجودُ الواقعيّ.
انطلاقاً من هذه التحوّلات التي طرأت على البشريّة، تغيَّر مفهوم الجمهور، أو الجماهير، فلم يعُد في الإمكان الحديث عن علاقة ذات اتّجاه واحد، تبدأ من الكاتِب، الفنّان، الزعيم، وتنتهي في الطرف الآخر بالقارئ، المتلقّي، الشعب أو الجمهور. هذه علاقة تسلّطيّة تنتمي إلى العالَم القديم، والدلالة على ذلك ما نراه اليوم على الشبكة الإلكترونيّة من حوار متعدّد الاتّجاهات، يجري بين مُستخدِمين يقيمون على مسافة واحدة من بعضهم بعضاً، فليس هناك من معلّم أو زعيمٍ أو قائدٍ أوحد يُخاطِب جمهوراً يتلقّى المعرفة أو الأوامر. إنّ الناس تتكلّم وتتبادل الأفكار والمعلومات بحرّية، بغضّ النظر عن مستوى هذه الأفكار وعمقها ورفعة شأنها. يكفي أن نطلّ قليلاً على الموسوعة الإلكترونيّة الحرّة (الويكيبيديا) في معظم لغات الأرض الحيّة، لنرى كيف أنّ المعرفة صارت بلا ثمن، فعشرات الآلاف، بل مئات الآلاف من الأشخاص يكتبون عن كلّ شيء موادَّ مميّزة في معظم الأحيان، تغني عن الرجوع إلى الموسوعات المختصّة التي تتطلّب منّا دفع مبالغ كبيرة لاقتنائها. ومَن يكتبون هذه المَواد، لا يسعون إلى ربحٍ أو شهرة، فهُم لا يُعرِّفون على أنفسهم ولا يحصلون على مال أو يصعدون في سلّم الوظيفة أو سلّم الترقية الأكاديميّة.
ما أريد قوله، هو أنّ مفهوم المثقّف قد تغيَّر تغيُّراً جذريّاً. لقد أصابه التحوّل وحصلت فيه ثورة؛ فنحن ننتقل من عصر احتكار المعرفة إلى عصر مجّانيَّتها، والحصول عليها دونما عوائق. ولهذا على المثقّف (هل يُمكن أن أقول التقليديّ؟) أن يعترف أنّ الزمان أصبح غير الزمان، وأنّه صار واحداً من بين كثيرين يساوونه في المكانة، ولم يعُد في الطليعة: يعلِّم ويوجِّه ويقود.
*ناقد وكاتِب من الأردن
قم بكتابة اول تعليق