أفق – د.فاطمة واياو*
من أين أبدأ الحديث عن منافيّ المتعدّدة، منذ البدايات الأولى، رحيل في الطفولة الأولى، رفقة العائلة للّحاق بالأب؟ رحيل في سنّ السابعة من اللّغة الأمّ إلى اللّغة المُتبنّاة في المدرسة؟ رحيل من أجل الدراسة، رحيل من أجل العمل؟ ورحيل من أجل الحبّ والاستقرار ولكن أيضاً للاستكشاف والبحث؟ في كلّ هذه الرحلات إحساس بالمغادرة والفقد وإحساس ببهجة الاستقبال، أحاسيس متضاربة، لكنّها شكّلت شخصيّة مفرطة الحساسيّة تجاه كلّ ما يمتّ بصلة إلى الهويّة. فالمنفى والاغتراب هما دائماً رديفا الهويّة والانتماء.
بروكسل كمحطّة مهّمة في رحلتي، ومكان للاستقرار وليس للنفي، تشكِّل في مخيّلتي مكاناً أليفاً وغريباً في الآن عينه. فالمدينة تتميّز بتعدّدية نادرة، ومتناقِضة في الآن عينه، فهي تشكّل غنى العاصمة البلجيكيّة، ولكن أيضاً عنفها وحدّة انفعالات سكّانها.
منذ أن تعرّفت إلى مدينة بروكسل، أَسرتني ساحتها الجميلة العريقة، وبناياتها الشامخة والصامدة في وجه قنابل الحربَين العالميّتَين. كان اللّقاء ببروكسل للسياحة والاستكشاف، وهو إحساس مُختلف عن لقائي بها للإقامة. لم ينقص عشقي لها، ولكنّ هذا الإحساس امتزج ببعض المرارة من واقع سياسي، واجتماعي وثقافي يحاول الصمود في وجه متقلّبات الهجرات المتعدّدة والمُختلفة وإكراهاتها، في محاولةٍ لفرض تعدّدية يبدو أنّها تسير نحو الانفجار.
لكن ألا يُمكن القول إنّ كلّ المجتمعات الرأسماليّة هي مجتمعات اغتراب ومنفى؟، ألا يُعتبر مصير الفرد في هذه المجتمعات واحداً، أي الشعور بالغربة؟ ألا يُمكن القول إنّ تجارب المُبدعات والمُبدعين هي جزء من التجارب الإنسانيّة بعامّة، وإنّ الشعور بالاغتراب هو شعور إنساني مُعاصر أينما حللنا وحيثما ارتحلنا؟
منذ إقامتي هنا اختياراً وليس قسراً، لم أشعر بالغربة ربّما بفعل طبيعة بروكسل المتعدّدة ثقافيّاً، وبفعل اندماجي الأكاديمي والعائلي بسرعة. إلّا أنّ إحساساً داخليّاً لم يفارقني حتّى عندما كنت بين أهلي وفي أرضي الأولى. ذلك الإحساس بالضياع وبعدم الرضا. إنّ عَولمة النظام الرأسمالي جعلتني أعيش المشاهد نفسها في بلادي الأولى، مشاهد الفقر والفروقات الطبقيّة، بخاصّة بعد ظهور الأزمة الماليّة سنة 2008. فضلاً عن وجود أعداد هائلة من المُهاجرين السرّيين، من أوروبا الشرقيّة وأفريقيا والمغرب العربي، وأخيراً، بسبب الأزمة السوريّة المتمادية، اللّاجئين السوريّين، حيث كثرت مظاهر التسوّل التي أقلقت صورة العاصمة الأوروبيّة، من دون أن ننسى الهجرات الأوروبيّة من إسبانيا، وإيطاليا بعد الأزمة التي عصفت بهذَين البلدَين.
رحلة بين لُغتَين أيضاً
مفارقة أخرى هي رحلتي بين لغتَين، البحث الأكاديمي بالفرنسيّة والكتابة بالعربيّة، وهنا تحضرني معركتي اللّغوية، فقد ارتبطت اللّغة عندي بالنفي والهجر، النفي اللّغوي الأوّل، حينما كنتُ ما أزال في أرضي الأولى، فعشتُ نهاري بلغةٍ وعشتُ مساءاتي بلغةٍ أخرى. منذ الطفولة، كان التمزّق واندفاع الأسئلة عن ماهيّتي اللّغوية، لهجة بيتيّة تعني لي الدفء والحنان والشاعريّة، ولكنها منبوذة في الخارج، أي في المدرسة والشارع. وأيضاً لغة الضّاد التي أحببتها، ليس بفضل المدرّسين فقط، ولكن أيضاً بفضل المكتبة المنزليّة التي غلب عليها الطّابع العربي. حينما أتأمّل في هجرتي الآن، أجدني لا أشعر بتمزّقٍ لغوي؛ فقد خبرته في أقسى صوره في طفولتي، وفي وطني. ولأنّني نشأتُ على ألسنة مختلفة، فإنّ الاندماج اللّغوي لم يشكّل عائقاً، بل كان ثراء أهّلني لاكتساب ذهنيّة منفتحة، عقلانيّة، لا تعرف الطابوهات، كلّ شيء قابل للتفكّك والتحلّل. لا شيء يأسرني إن لم يكُن مُقنعاً.
الترحال كان ولا يزال عنواناً لمسيرتي الشخصيّة الإبداعيّة.. الترحال يتّخذ عندي أبعاداً مُتشابكة ومتشعّبة، الرحيل في الذات، الرحيل في اتّجاه الآخر، الرحيل بكلّ تجليّاته الجغرافيّة والثقافيّة بهدف استكشاف الهويّات المُختلفة، ولكن أيضاً هويّاتي المتعدّدة. الإنسان الذي يحمل حساسيّة مفرطة، وقلقاً دائماً يظلّ دائم الترحال على الرّغم من سكون جسده واستقراره.
متاهات النفي والغربة
إنّ انشطارَ ذات المُبدع، تفضي به إلى متاهات النفي والغربة، مهما كان مستقرّه مريحاً وهادئاً، فانا أحمل قلق السؤال، ليس بسبب هجرتي، ولكن بسبب حساسيّتي وتفكيري. عقلٌ يأبى أن يسلّم بالمسلّمات ويقبل بالبديهيّات. وانشطارُ ذاتي بين عالمَين أو ربّما عوالِم منذ الطفولة إلى حاضري.
تراكمت فيّ كلّ عوامل الاغتراب بفعل انشطار الأزمنة والأمكنة في داخلي بين حاضرٍ متردّد مجلوب بهواجس الخوف، وماضٍ لا يشكّل حنيناً في داخلي بفعل عوامل الرفض المُتراكمة، وبين مستقبلٍ مجهول يزداد غموضاً بفعل الأحداث العالميّة المتّسمة بالعنف والتردّي. وإذا كان الاغتراب يتحدّد وفق متغيّرات موضوعيّة يمكن إجمالها في: الجنس، طول فترة الهجرة أو قصرها، الحالة الاجتماعيّة والمستوى الدراسي، فإنّه يتقاطع أيضاً مع الغربة، والتي لا تصل إلى قساوة الاغتراب، لأنّ هذه الأخيرة تحمل معنى الاغتراب الذي قد يحدث في أيّ مكان وزمان وليس في المنافي أو المَهاجر فقط.
إنّ المُبدعة الأنثى بطلة الهروب سواء بالعزلة، بالترحال أم بالغياب- وهو ليس رديف الموت دائماً- أم بالتنكُّر؛ وهو لغة إبداعيّة أحسنت مُبدعات كثيرات إتقانها. فقد تتنكّر المُبدعة وراء اسمٍ مُستعار أو لغة أخرى غير لغة الأمّ التي هي في الوقت نفسه لغة الرقيب – الرجل، أي السلطة الذكوريّة والعشيرة أي السلطة السياسيّة. فاللّغة في المنفى إذن، هي بشكل أو بآخر ملاذٌ للاحتماء ووسيلة للسيطرة على واقعٍ مرير يتّسم بالتمييز وبالاغتراب. تعلّمت أن لا فرق بين البقاء في اللّغة الأمّ أو الهجرة إلى لغة المنفى، الإبداع اللّغوي، هو الذي يجعل لغة الكتابة قريبة من النفس ومن الوجدان، اللّغة وسيلة تواصل وتعبير، وهي رابط إنساني نستطيع من خلال رمزيّتها أن نعبّر عن دواخلنا. تستحيل اللّغة أيضاً منفىً أو هي وطن جديد مُحتضن للمُبدعة. تصبح لغة الآخر متأرجحة بين كونها وطناً أو منفى، ألم يُعلن مالك حدّاد أنّ اللّغة الفرنسيّة هي منفاه، وعلى النقيض من هذا الرأي يصرخ جابرييل أوداسيو قائلاً إنّ “اللّغة الفرنسيّة هي وطني”؟ غير أنّ اللّغة بالنسبة إلى المُبدعة هي أكبر من مجرّد هروب لمنفى أو سكن في وطنٍ بديل، إنّها وسيلة للتخفّي والتستّر من مُجتمع ذكوري رقيب، إنّها صدرٌ أرحب يحتوي العقل والجسد معاً لتُصبح المُبدعة متحرّرة من قيود الفحولة والذكورة البلاغيّة قبل القانونيّة.
لكن، ما يُمكن التنبيه له، هو أنّ اللّغة، أيّ لغة، هي في الأساس لغات ذكوريّة، كرّست قيَم الفحولة ما قد يجعلها غير طيّعة للتعبير الأنثوي وللتفكير النسوي، وهو أمر بديهي، لأنّ تاريخ اللّغات العالميّة والآداب العالميّة، هو تاريخ ذكوري بامتياز، كانت النساء مقصيّات منه. كما أنّ النقاد الرجال أبدعوا قواعد بلاغيّة فحلة بعيدة عن كلّ ما هو أنثوي. من هذا المنطلق فإنّ غربة المُبدعة واغترابها هو اغتراب ونفي داخل اللّغة سواء غادرت الوطن أم ظلّت حبيسة جدرانه و رقابته الصارمة.
لكن لماذا يطرح السؤال عن علاقة المُبدع باللّغة أو باللّغات التي تسكنه، لماذا أكتب بهذه اللّغة وليس تلك؟ لعلّ مثل هذا الاستفهام يتّخذ أبعاداً عميقة حين يطرح على كاتبة تكتب بلغة البلد المستقبل أو بلغة المنفى. ربّما أنّ الكاتبة الجزائريّة آسيا جبّار أصابت حين أعلنت أنّ جسدها يتحرّك بحرّية أكبر حين تكتب بالفرنسيّة، هذه اللّغة التي تحجب الرؤية عن ذكور عشيرتها، هكذا تصبح اللّغة الأجنبيّة عند آسيا جبّار وسيلة للتحرّر من قيود المجتمع الذكوري. وهنا يحضرني ما ذهب إليه المفكّر العبقري إدوارد سعيد في أنّ الكتابة هي مكان للعيش للّذي لم يعُد يملك وطناً بمعناه الهويّاتي والانتمائي خارج كلّ الحدود المكانيّة.
هكذا يتّخذ المنفى خصوصيّة في الكتابات النسائيّة، تتمثّل في تجاوزه الأمكنة؛ فالمُبدعة العربيّة، كما المرأة العربيّة، تعاني الاغتراب والنفي أينما وُجدت وحيثما ارتحلت، تلاحقها لعنة الغربة واللّهاث المستمرّ نحو هويّة حقيقيّة لا تلغيها ككائنٍ إنساني أوّلاً وكمُبدعة أنثى ثانياً. وهذه حقيقة تعطي كلّ الشرعيّة لتصنيف كتاباتها بالنسائيّة ولما لا بالنسويّة حينما تروم مُعانَقة القضايا المصيريّة للنساء.
ولأنّي امرأة الهجرة والاكتشاف بامتياز، فإنّني في محطّتي الأخيرة هذه اخترتُ الرحيل بشكل أكثر جذريّة، وذلك بالانتقال من ثقافتي العربيّة والفرنكفونيّة إلى استكشاف التفكير الأنجلوسكسوني والاستمرار في مسيرة البحث، الذي كان عنواناً عريضاً لرحلتي الحاليّة إلى إسكوتلانده، التي هي ليست مَوطن المفكّرين والعباقرة من المُخترعين فقط، بل هي عبق التاريخ حيث تزخر بآثار عديدة تشهد على مجدٍ تاريخي يصرّ الأحفاد على الحفاظ عليه. وفي النهاية أعيد تجربة النفي اللّغوي الآخر أو ربّما الأخير من خلال اللّغة الإنكليزيّة.
وعلى سبيل الخِتام أردّد ما قالته جوليا كريستيفا في مقالها الشهير “زمان النساء: الكتابة مستحيلة من دون بعض من المنفى”، من هنا فإنّ قضايا كثيرة ستظل رهينة السؤال، وإنّ أجوبة أكثر عمقاً يستدعيها موضوع الكتابة النسائية والمنفى، ربما تجد يوماً طريقها للتحليل والدراسة ولِما لا؟ لأجوبة مقنعة.
*كاتبة وباحثة من المغرب مُقيمة في إسكوتلانده
قم بكتابة اول تعليق