في فقه العَيش الـمُشترَك ​

أفق – د. محمّد حلمي عبد الوهّاب*

في شُباط (فبراير) 2008 شاركتُ في مؤتمر دولي عقده تيّار الـمستقبل في لبنان تحت عنوان: “أيُّ مستقبل للعروبة في القرن الـحادي والعشرين؟”، وعلى هامش الـمؤتمر دُعيتُ للمشاركة في حلقة تلفزيونيّة، لم تملك الـمذيعة، إبَّان فاصلها الإعلاني، سوى أن تتساءل في سُخرية: وهل بقي من العروبة شيء؟! وأذكر أنّني قلتُ في خِتام مُداخلتي: إنّنا كعرب جميعاً، كمسيحيّين ومُسلمين، أمام لحظة مخاضٍ عسير، وإنَّه لا مستقبل للعروبة – ولا لأيّ فكرة غيرها في الـحقيقة – من دون تحقُّق الدِّيمقراطيّة والـحريّة والعدالة الاجتماعيّة، وصَون كرامة الـمُواطن بما هو إنسان. هذه القيَم التي أشرتُ إليها، تبلورت لاحقاً في شعارات صدحتْ بها حناجر ألوف الشباب والفتيات في شتَّى ميادين العواصم العربيّة إبَّان انتفاضات الربيع العربي.

الآن – بعد مرور سبع سنوات على الربيع العربيِّ – لا يزال سؤال التعدُّدية والـمُواطَنة والعَيش الـمُشترَك يُراوِح مكانه! فما الذي تحقَّق على أرض الواقع؟! وما الذي تغيَّر لجهة التفكير في الـمُواطَنة والعَيش معاً بوصفهما إطاراً جامعاً مانِعاً؛ بفضل التحوُّلات الكُبرى التي جرت على صعيد كلٍّ من الفكر والسياسة في عالَمنا العربيِّ الـمُعاصر؟! 

للإجابة عن هذه التساؤلات أحيل إلى دراستي: “الصعود إلى الـهاوية: الإسلاميّون والسُّلطة بعد ثورة الـخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني”، والتي خصَّصتُ جزءاً كبيراً منها للحديث عن تداعيات صعود الإسلاميّين إلى السُّلطة، وأثر ذلك على العيش المُشترَك، حيث أبرزتُ مستوياتٍ أربعة يتعلَّق أوَّلها بنظرة القوى الإسلاميَّة إلى ما حقَّقته من نجاح، ويتَّصل ثانيها بردود فعل القوى السِّياسية الأخرى على هذا الصُّعود وتجلِّياته، ويرتبط ثالثها بردود الفعل الغربيّة ومَوجات القلق الـمتزايدة تجاهه، وأخيراً يتعلَّق الـمستوى الرابع بوضعيّة الأقليَّات الدينيَّة في دول الرَّبيع العربيِّ؛ وبخاصّة الأقباط في ما يتعلَّق بالـحالة الـمصريّة.

وقد رجَّحتُ من جانبي أن يَحدث صدامٌ مع القوى الـمتشدِّدة، وأن يخبو كذلك البريقُ الإيديولوجيُّ والثقافيُّ الذي لَمَّع صورةَ الإسلاميّين على الـمدى الـمتوسِّط، بعد انتهاك طُهْرِهم في خضمِّ الـمُمارَسة العمليّة للسُّلطة، واكتشافهم أنَّ الإشكالات التي سيُواجهونها في الـحُكم أكثر تعقيداً وصعوبةً من بضاعتهم الإيديولوجيّة. وذلك ما حدث بالفعل؛ فعلى الرّغم من التَّركة الثّقيلة التي ورثها “الإخوان الـمسلمون” حين تقلَّدوا السُّلطة، فإنَّهم فشلوا في إدارة الـخلافات وتدبير الشَّأن العامّ، كما فشلوا من ثمَّ في النَّجاة بالبلاد – وبأنفسهم – من ذلك الـمصير الـمؤلِم.

لماذا لم نستطع أن نتعايش معاً؟ وما الـمقصود بألفاظٍ من مثل العَيش والتعايُش؟ ولماذا تحوَّل الرَّبيع العربيُّ الـمأسوف على فواته، والذي كان مُبشِّراً لحظةَ ولادته، إلى مجرّد خريف قاتِم؟ ولماذا أخفقتْ تجارب الانتقال الديمقراطي في عالَمنا العربي في الوقت الذي نجحت فيه في أماكن وبلدان أخرى من العالَم؟ هل إرثنا الدِّينيُّ والفكريُّ يحول دون العيش معاً؟ أم أنَّ الـمُعضلة الكبرى تكمن في طبيعة أنظمتنا السياسيّة “العسكريّة” التي ما فَتئت تتنناوب الـحُكم والسُّلطة منذ أكثر من ستَّة عقود، من دون أن تنجح في تحقيق التنمية أو في أن توفِّر مناخاً مُلائماً للحريّة والعدالة؟!

إنَّ الأسئلة الصُّغرى لتَفتح بدَورها بوّابات الـجحيم السبع على مصراعَيها أمام اللّحظة القاتِمة التي يعيشها العالَم العربيُّ المُعاصِر، حيث تكاد تنعدمُ سُبُل العيش الـمُشترَك، وسُبُل الوصول إلى الـحرّية كذلك! لكنَّ التاريخ يعلّمنا أنَّ اللّحظة التي تسبق ميلاد الـحرّية هي الأكثر قتامةً، وأنَّ الفجر قادم لا محالة. يقول الإمام عليُّ بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه: ” لا تستوحشوا طريق الـحقِّ؛ لقلَّة سالكيه”! وما أقلَّ سالكي طرُق الرَّحْمة والسِّلم والمودَّة في زماننا هذا.

من جهة أخرى، يتأسَّس مفهوم التَّعايُش – أو بالأحرى يتمظهرُ – في تجلِّياتٍ ثلاثة: أوّلها الاجتماع – أو العُمْران البشريُّ بحسب تعبير ابن خلدون-، وثانيها الدِّين – أو لنقل الثقافة بمعناها الشامل-، وثالثها السِّياسة التي يُعرِّفها كثيرون بأنّها “فنّ الـمُمكن”. وهذه التَّجليات الثلاثة كانت حاضرةً وبقوَّة من ضمن تضاعيف الـمشاريع الإصلاحيَّة في الأزمنة الـحديثة، على عكس ما هو حاصلٌ الآن ومُشاهَد! فعندما كان سياسيُّو الإسلام وفقهاؤُه ومثقَّفُوه في الدَّولة العثمانيَّة – في مِصْر بصفةٍ خاصَّةٍ – يُراجعون فقه العيش الإسلاميَّ القديم، ويُحاولون النُّهوض إلى فقه العَيش الـمُشْترك الـجديد، ما كان لديهم الوقت ولا الاهتمام الكافي لقراءة مُحاولاتهم الـجديدة ومُراجعتها، ونقدها نقداً ذاتيّاً.

وبحسب عبد اللَّه العَرْوِي؛ فإنَّ هناك ثلاث فئاتٍ كانت مُنخرطة بالفعل في صُنْع فقه العيش الـمُشترَك آنذاك: أوّلها الشَّيخُ الإصلاحيُّ، وثانيها السِّياسيُّ أو رجلُ الدَّولة، وثالثها التِّقنيُّ الإداريُّ. أمَّا الشَّيخ الإصلاحيُّ؛ فكان لا ينفكُّ يرى التَّناقُض القائم بين الشَّرق والغرب في إطاره التَّقليدي؛ أي كنزاعٍ بين النَّصرانيَّة والإسلام، فيُواصِل سجالاً دام لأكثر من ألفٍ ومائتَي عام على ضفّتَي الـمتوسِّط من الشَّرق العربيِّ إلى بلاد الأندلس. وعلى الرّغم من أنَّ ثمّة اختلافاً بيِّناً بين الوضْعيَّتيْن القديمة والـجديدة للنِّزاع، حيث استقرَّ العدوُّ الـمُتغلِّب واستعمر البُلدان الإسلاميَّة؛ فإنَّ للشَّيخ مسلكاً يستطيعُ به أن يتوهَّم أنَّ النِّزاع لا زال على طبيعته الـمعْهودة، إذ يعْرف مُسبقاً الغاية من الـهزائم الـمُؤلِمة. وهكذا فإنَّ كلَّ مسألةٍ تعْرض للمجتمع تذوبُ بين يدي الشَّيخ في علاقات الـمخلوق بربِّه. وينتهي العَرْوِي إلى تقرير أنَّ الشَّيخَ الإصلاحيَّ والزَّعيم السِّياسيَّ وداعية التِّقنيّة يُمثِّلون لَحظاتٍ ثلاثاً يمرُّ بها تباعاً وعيُّ العربي وهو يحاول – منذ نهاية القرن الـماضي – إدراكَ هُويَّته وهُويَّة الآخر.

من ضمن هذا السِّياق العامّ، يتجدَّد النِّقاش من وقتٍ إلى آخر حول مفهوم التَّعايُش، أو العيْش الـمُشْترك، أو العيْش معاً، ما دعا البعضَ لأن يُطالِب بضرورة تأسيس فرعٍ فقهيٍّ جديد تحت مُسمَّى “فقه العيش الـمُشْترك”، تكون له جُنبُه الإطاريَّةُ والتَّمهيديَّةُ بالنِّسبة إلى الفروع الفقهيَّه الأخرى، بحُكم أنَّ الكثير من مسائل الفرُوع الفقهيَّة الكلاسيكيَّة؛ أو حتَّى الفروع الفقهيَّة الـمُسْتجَدَّة، تتأطَّر بمسائل هذا الفرْع الغائب فعليّاً في الأوساط الفقهيَّة والعِلميَّة في الـمُجتمعات الإسلاميَّة. فنادراً ما نجد في الـمصادر التُّراثيّة الإسلاميّة القديمة ألفاظاً من مثل: “العيْش” أو “التَّعايُش” أو “العَيْش الـمُشْترَك” بالـمعنى الـمُراد منها، وبها، في الأزمنة الـحديثة. والسَّبب في ذلك إنَّما يرجع إلى عدم الانشغال بقضايا “الاختلاف”؛ حتَّى على الـمُستوى العقديِّ، وَفْقاً، وإِعْمالاً، للمبدأ القرآنيِّ القائل: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، وقوله تعالى:فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ.

والحال أنّنا إذا رجعنا إلى الـخِطاب القرآني الـمؤسِّس لحضارة الـمُسلمين من أجل تفحُّص مسألة الإيمان والوحدة في علاقتهما بقضيّة الاختلاف والتعدُّد، فسوف يتبيَّن لنا أنَّ الـخطاب القرآنيَّ قد اعتنى بهذه القضيّة بناءً على الـخاصِّية الدَّلاليّة لمفهومَي “الإنسان” و “الإيمان” المفتاحيْن لنظامٍ مفهوميٍّ واحدٍ تتأسَّسُ عليه قضايا الاختلاف والتعدُّد والتنوُّع الدِّيني. وبحسب الأستاذ أحميدة النيفر، فقد تعاطى الـخِطاب القرآنيُّ مع قضيّة التعدُّدية بصورة جديدة فاعلة تَجعل حظوظ الأمَّة أوفر إنْ هي وعت فضْلَ التعايُش الـمُثْري بين الـمنظومات الثقافيّة والدِّينيّة والفكريّة الـمختلفة. وهو ما يُطلق عليه اسم: “البسط الثقافي القرآني”. ومُقتضى هذه الـمقولة منهجيّاً هو أن يتحوَّل الإيمانُ في الـخطاب القرآني إلى طاقةٍ إيجابيّةٍ تتأسَّس عليه شهادَةُ المؤمِن على الناس ﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾.

ومن اللّافت في ما يتعلَّق بالـمدلول اللّغويِّ للفظة “تعايُش”، أنَّها تأتي على وزْن “تَفاعُل”، ما يفيدُ أنَّ ثمّة علاقةً تبادُلِيَّةً مُشْتركةً تقع بين طرفَين، أو أكثر. أمَّا فِقْهُ العيْش الـمُشْترَك؛ فالـمُراد به أنْ يَفهم الـمُسْلمُ الـمُعاصِر الطُّرقَ والأساليبَ التي ينبغي أن يتوخَّاها ويتغيَّاها ليحْيا حياةً آمنةً من دون خوفٍ أو فزعٍ، ومن غير عُنْفٍ أو اعتداءٍ مع غيره من الـمُسلمين والنَّاس كافَّة. لكنْ على الرُّغم من أنَّ تُراث الـمسلمين عامِرٌ بالـمقولات العديدة التي من شأنها أن تُرسِّخ قيَم التَّعايُش، فإنَّه قد جرى طمسُها من قبل حركات الإسلام السياسي لمصلحة نَزَعات الإقصاء والتهميش للآخر، ليس غير الـمُسلِم فقط، بل ولكلِّ آخرٍ آخر حتَّى في الـمجال الإسلامي!

ومن قبيل هذه الـمقولات ما يقوله الـمُعلِّم الثاني أبو نصر الفارابي: ” إنَّ الإنسانيّة هي الرِّباط، فينبغي للبشر أن يتسالَمُوا بالإنسانيّة”. أمّا مُحيي الدِّين الشيخ الأكبر ابن العربي، فيقول في تعبير رائق عن الـقرَابَات الرُّوحيّة الـجامعة بين مختلف الأديان:

” لقد كنتُ قبلَ اليومِ أُنْكِرُ صاحِبي إذا لَم يكُـن ديني إلى دينِه دانِ

وقدْ صارَ قلبي قابلاً كُلَّ صورةٍ فمَرْعَى لِغِزْلانٍ، ودَيْـرٍ لرُهبانِ

وبيتٍ لأوثانٍ، وكَعْبَةِ طائِـفٍ وألوحِ توراةٍ، ومُصْحَفِ قُرآنِ

أدِينُ بدِين الـحُبِّ أنَّى توجَّهَتْ ركائِبُهُ، فالحُبُّ ديني وإيماني” .

*كاتب وباحث من مصر

قم بكتابة اول تعليق

أترك لنا تعليق

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


61 − 53 =