العرب ودَرْس كيبيك في صيانة لغتها

أفق – د. محمود الذوّادي*

تُرجعُ تحاليل العلاقات المتوتّرة، والصّاخبة أحياناً، بين مقاطعة كيبيك من ناحية، والمقاطعات الكنديّة الأخرى والحكومة المركزيّة( الفيدراليّة) من ناحية أخرى، إلى الاختلافات اللّغويّة الثقافيّة بين الطرفَيْن، أي الكنديّين المتحدّثين بالإنكليزيّة والكنديّين النّاطقين بالفرنسيّة. لذا نقتصر في بداية هذا المقال على ملاحظات عالِمَيْن اجتماعيَّين كنديَّين مشهورَيْن وعلى بعض الكتابات الأخرى التي تسلّط الضوء على قضيّة التعايش المتأزّم بين كيبيك وكندا.

يرى جون بورتر John Porter عالِم الاجتماع الكنديّ المتحدّث باللّغة الإنكليزيّة أنّ كندا هي بلدٌ منقسمٌ إلى مجموعتَيْن بشريّتَيْن كبيرتَيْن تتحدّثان لغتَيْن وتُمارسان تقاليد وعادات مختلفة الأمر الذي يجعلهما تحافظان على درجة عالية من الإقصاء لبعضهما البعض. ومن جهة أخرى، تتحدّث وسائل الإعلام الكندية عمّا يسمّى”بظاهرة العُزلتَيْن Les Deux Solitudes ” بين الكنديّين الناطقين بالفرنسيّة والكنديّين المتحدّثين بالإنكليزية في مدينة منتريال على الخصوص الواقعة في مُقاطعة كيبيك. فسكّان هذه المدينة يطالعون صحفاً ومجلّات مختلفة، كما أنّهم لا يستمعون إلى المحطّات الإذاعية نفسها، ولا يشاهدون القنوات التلفزيونية نفسها.ويبدو أنّ رجال الأعمال من الطّرفَين أيضاً لا يتناولون الأكل والشرب في المطاعم نفسها.وهذا يعني أنّ للمجموعتَين أقطاب انتماء ورؤى مختلفة حول أشياء متعدّدة في المقاطعة وفي كندا وخارجهما.

ولا تقتصر ظاهرة العزلتَين على مدينة منتريال فحسب، بل يُمكن ملاحظتها عبر المجتمع الكنديّ بأكمله وعلى  مستويات متعدّدة. فعلى سبيل المثال، يصف عالِم الاجتماع الكيبيكيّ المعروف جي روشيه Guy Rocher ملامح تلك الظاهرة في  خطابه الذي ألقاه في 27 أيار (مايو) 1990أمام زملائه بمناسبة الاحتفال بالذكرى الخامسة والعشرين للجمعيّة الكندية لعِلم الاجتماع وعِلم الأنثربولوجيا فيقول: ” إنّمؤتمراتالجمعيّةالكنديةلعلمَيْالاجتماعوالأنثروبولوجياتشيرإلىالحضورالخفيلعُلماءالاجتماعالكنديّينالفرنسيّين،وبخاصّةالمنحدرينمنمقاطعةكيبيكوحتّىنكونأكثردقّةفهيتشيرإلىغيابهمالكبيرإنّقراءةالمرءلبرامجالمؤتمرتجعلهيستنتجأنّعِلمالاجتماعالكيبيكييمرّبفترةتدهورمنذالعام 1965 بينماهويتمتّعفيالحقيقة  بعطاءٍفكريزاخروفيالواقعيمثّلالحضورالقليللعُلماءالاجتماعالكيبيكيّينالمتحدّثينبالفرنسيةشرخاًعميقاًفالهوّةبينعلماءالاجتماعالكنديّينالناطقينبالفرنسية،بخاصّة الكيبيكيّينمنهم،هيفيازديادلقدوقعبناءجدارمنالصمتبيننايبدووكأنّهأقوىمنجداربرلينوأطولعمراًمنهليسهناكمنانفصالبينناولكنْثمّةعوضاًعنذلكافتراقوابتعادعنبعضناالبعضمندوناستفتاء”.

العلاقة السليمة مع اللّغة الوطنيّة

يُمكن القول إنّ العلاقة السليمة بين الناس ولغتهم تتمثّل في استعمالهم لها شفويّاً في شؤون حياتهم الشخصية والجماعية كلّها، وفي الكتابة أيضاً، وذلك إذا كانت للّغة حروفها أو إذا استُعملت حروف غيرها من اللّغات الأخرى للكتابة. ومن المسلّمات أنّ استعمال اللّغة يتطلّب معرفتها الوافية المتمثّلة في معرفة مفرداتها والإلمام بقواعدها النحوية والصرفية وغيرها لاستعمالها بطريقة سليمة في الحديث والكتابة.تمثّل تلك العوامل الأسس الرئيسة التي تعتمد عليها إقامة الأفراد والمجتمعات لعلاقة سليمة مع اللّغة الأمّ أو اللّغة الوطنية في المجتمع. ينشأ عن هذه العلاقة السليمة مع اللّغة ما يُسمّى بالعلاقة الحميمة مع تلك اللّغة والتي تتمثّل في المعالِم التالية: حبٌّ للّغة والغيرة عليها والدفاع عنها والاعتزاز بها. وتطبِّق مقاطعة كيبيك قواعد العلاقة السليمة مع لغتها الفرنسية التي يُنادي بها القانون اللّغوي.

السياسة اللّغوية لمُقاطعة كيبيك

ونظراً لأنّ سكّان كيبيك النّاطقين بالفرنسية يمثّلون أقلّية في كندا وفي شمال القارّة الأميركية بصفة عامّة، فإنّ حكومات المقاطعة تبنّت قوانين تُنظِّم السياسات اللّغوية داخل حدود كيبيك لحماية لغتها وثقافتها وهويّتها. إنّ أشهر القوانين هو قانون 101 الصادر في العام1977 عن حكومة الحزب الكيبيكي  Le Parti Québécois المُنادي بالانفصال عن كندا بقيادة رئيسه ريني ليفاك René Lesveque. يهدف هذا القانون إلى جعْل اللّغة الفرنسية اللّغة الرسمية للتواصل في المقاطعة على المستويّين الشفوي والكتابي. فهذا القانون الذي مرّ على صدوره أكثر من أربعة عقود يتمتّع اليوم بتطبيقٍ حازم وحاسم في المقاطعة، كما رأيتُ وشاهدتُ ذلك أثناء زيارتي كندا في صيف العام 2016، ليس في القرى والمُدن المتوسّطة والصغيرة فقط، وإنّما أيضاً في أكبر مُدن المقاطعة سكّاناً، ألا وهي مدينة منريال كما تُنطَق بالفرنسية. أمّا باللّغة الإنكليزية فتسمّى منتريال. لننظرْ كيف يُطبَّق القانون اللّغوي 101 فيجعل العلاقة سليمة بين الفرنسية والحياة اليومية لسكّان هذه المدينة الشهيرة في كندا وفي العالَم.

الفرنسية في مدينة منريال 

تُعتبر مدينة منريال ثانية أكبر مدينة ناطقة باللّغة الفرنسية في العالَم بعد العاصمة الفرنسية باريس. يمثّل اليوم السكّان الكنديّون النّاطقون بالإنكليزية في مدينة منريال حوالى 15 %استناداً إلى قانون 101؛ فاللّغة الفرنسية هي سيّدة الموقف في أنشطة المدينة وحركتها. إنّها لغة اللّافتات العامّة والخاصّة في الشوارع والمحلّات والمراكز التجارية وغيرها من المرافق العامّة والخاصّة. فاللّغة الفرنسية في شكلَيْها المنطوق والمكتوب هي لغة وسائل النقل. فعلى سبيل المثال،  لا تستعمل شبكة المترو في تنقّلها في المدينة إلّا اللّغة الفرنسية في إعلاناتها بالصوت للراكبين عن محطّات الوقوف القادِمة.أمّا شبكة حافلات النقل في المدينة، فتتبنّى هي الأخرى استعمال اللّغة الفرنسية فقط على المستويَين الشفوي والكتابي. أي أنّه يُعلَن بالصوت عن محطّات الوقوف القادمة، ويظهر الإعلان في الوقت نفسه مكتوباً أمام الركّاب في أعلى قسم لسقف الحافلة.

الفرنسيّة لغة المثقّفين والمتعلّمين

يُلاحِظ المرء أيضاً أنّ اللّغة الفرنسية، بوصفها لغة التواصل العامّ في مقاطعة كيبيك، هي اللّغة المُستعمَلة بين المثقّفين والعُلماء الكيبيكيّين على الرّغم من معرفة الكثير منهم باللّغة الإنكليزية.فأشهر عالِم اجتماع من كيبيك، وهو جي روشيهGuy Rocher ، كان وزيراً مساعداً في حكومة المقاطعة التي أصدرت القانون اللّغوي 101 سنة1977 لحماية اللّغة الفرنسية وجعْلها لغة الحياة اليومية شفويّاً وكتابةً في قطاعات المجتمع الكيبيكي كافّة.

كما نجد أنّ احترام الفرنسية أكثر من الإنكليزية قائمٌ حتّى عند نساء الأعمال ورجالها الكيبيكيّين الذين يتعلّمون اللّغة الإنكليزية كلغةٍ ثانية لصالح عالَم الأعمال، كما نجد ذلك لدى خرّيجي ما يُسمّى أكاديمية المعرفةL’Académie du Savoir  في مدينة كيبيك العاصمة السياسية للمقاطعة.فيغلب على هؤلاء المتعلّمين للّغة الإنكليزية الالتزام باحترام اللّغة الفرنسية واستعمالها شفويّاً وكتابةً في ما بينهم وفي مؤسّساتهم. وهو عكس ما نجده، مثلاً، بين المثقّفين والمتعلّمين العرب الذين لا يحترمون اللّغة العربية/الوطنية، كما هو الحال في الجزائر وتونس والمغرب خصوصاً، حيث يتباهى هؤلاء باستعمال لغة المُستعمِر (الفرنسية) بدل لغتهم العربية أو الأمازيغية.

اللّغات بين السلامة والإعاقة

فالسياسات اللّغويةالتي سنّها القانون اللّغوي101 في مقاطعة كيبيك جعلت أغلبيّة السكّان النّاطقين بالفرنسية يتمتّعونبعلاقة سليمةمع لغتهم. ذلك أنّ اللّغات البشرية قد تتعرّض، شأن الإنسان، للإعاقاتلأنّها كائنات حيّة. فمجيء لغة أجنية مثلاً إلى المجتمع ومنافستها اللّغة الأمّ في عقر دارها يؤدّي في كثير من الأحيان إلى إصابة اللّغة الوطنية بالإعاقة. أي أنّها تصبح غير قادرة على القيام بوظيفتها التعبيرية والتواصلية الكاملة في مجتمعها. يجوز القول إنّ اللّغة تتعرّض للإعاقة إنْ هي وقع إقصاؤها من الاستعمال،قليلاً أو كثيراً، من طرف أهلها. فهذه ملاحظة أساسية تنطبق على كلّ اللّغات في المجتمعات الإنسانية. إذ إنّ اللّغات هي كائنات حيّة بامتياز تنمو أو تتقلّص من الاستعمال الكامل لها شفويّاً وكتابةً أو من ضعف هذا الاستعمال. وما يزيد الطين بلّة  أنّ ظاهرة إعاقة اللّغة لا تعود إلى ضعف الجانب التعبيري التواصلي الشفوي والكتابي فحسب، بل إلى ما نودّ تسميتهبـ”الإعاقة النفسيّة” التي تصيب علاقة المواطنات والمواطنين بلغتهم بحيث لا تعود مكانة هذه الأخيرة عندهم تحتلّ المكانة الأولى في قلوبهم وعقولهم واستعمالاتهم.فتراهم في كثير من الحالات غير مرتاحين في استعمالها على المستويَين الشفوي والكتابي.ومن ثمّ، يقترن هذا الوضعبسلوكيّات فردية وجمعيّة ليست فيصالح اللّغات الوطنية،مثل ضعف الغيرة عليها والدّفاع عنها.

إنّ تلك المَعالِم السلوكية كلّها إزاء اللّغات الوطنية،كاللّغة العربية في المجتمعات العربية، تشير إلى وجود أعراض إعاقة نفسيّة عند أهلها الناطقين بها، وهو ما نسمّيه إعاقة التعريب النفسيّ في بعض تلك المجتمعات مثل المجتمعات المغاربية التي خضعت للاستعمار اللّغوي الثقافي الفرنسي، والذي أدّى في حالات كثيرة إلى الاستلاب اللّغوي والثقافي عند بعض النّخب، ولاسيّما في تلك المجتمعات التي تُعتبر فيها اللّغة العربية اللّغة الوطنية الأولى.

إنّ خبراء اللّغة العربية المُكلّفين بإرساء خطّة لتحسين وضعها في المجتمعات العربية  مُطالبون اليوم بتجاوز المنظور التقليدي التربوي لتعلّم اللّغة العربية وبتبنّي سياسة لغوية كاملة تشمل الجوانب النفسية والاجتماعيةالتي تعمل لصالح تعلّم اللّغة العربية ومعرفتها واستعمالها لا إلى سياسة لغوية تؤدّي إلى إعاقة تعلّم اللّغة العربية ومعرفتها واستعمالها.

*عالِم اجتماع من تونس  

قم بكتابة اول تعليق

أترك لنا تعليق

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


78 − 76 =