أفق – خالد عزب*
يزيد عدد المَتاحف في الوطن العربي على 1000 متحف، لكنّ افتقارنا إلى إحصاء دقيق عن عددها الفعليّ يُثير الأسف. وتتركَّز هذه المتاحف في عددٍ من الدول. فمصر تمتلك ما يزيد على مئتَي متحف، ثمّ تليها العراق والسعوديّة والمغرب والجزائر، فيما تفتقر بعض الدول العربيّة إلى الحدّ الأدنى من المعلومات عن متاحفها، وذلك على الرّغم من الاهتمام المُتزايِد بالمَتاحِف في العقد الأخير.
إنّ أوّل مشكلات المتاحف في الوطن العربي هو غياب عِلم خاصّ بها “عِلم المَتاحِف”. فعددُ المتخصّصين فيه محدود، ويكاد لا يتجاوَز عدد أصابع اليد الواحدة؛ لكنّ الأغلبيّة العامِلة في هذا المجال اكتسبت خبراتها من خلال عملها المَيداني، وعبر الاحتكاك بتجارب دوليّة. لذا، فإنّ اللّجنة الوطنيّة المصريّة للمجلس الدولي للمَتاحف بدأَت مشروعاً طموحاً لتوطين عِلم المَتاحف في الوطن العربي عبر سلسلة كرّاسات مَتحفيّة، وهي سلسلة أوراق بحثيّة تتناول جوانب متعدّدة لهذا العِلم أو عبر ترجمة أمّهات كُتب هذا العِلم، أو عبر الدورات التدريبيّة التي يُشرف عليها خبراء دوليّون. على جانبٍ آخر، هناك تجربتَان مُثيرتان في هذا المجال. الأولى عائدة إلى جامعة حلوان في مصر، والتي أقرَّت دبلوماً في عِلم المَتاحف بدأت ثمراته تؤتي أكلها، والثانية عائدة إلى معهد الشارقة للتراث، الذي أقرَّ دبلوماً آخر للمَتاحف.
المشكلة الثانية في هذا السياق تتمثّل في افتقارنا إلى قانون ينظِّم عمل المتاحف في أغلبيّة البدان العربيّة. وتُعَدّ المَملكة المغربيّة الأكثر تقدّماً بخطوات على هذا الصعيد. فقد صَدر مرسومٌ ملكيّ في 31 كانون الثاني (يناير) 1995 يقضي بتنظيم عمل المَتاحف التّابعة لوزارة الثقافة المغربيّة، ثمّ تَبعه مؤخّراً إنشاء هيئة مستقلّة للمتاحف. يلي ذلك تجربة المَملكة العربيّة السعوديّة، التي نظَّمت عمل المَتاحف وإدارتها في المَملكة عبر هيئة السياحة والآثار، الأمر الذي انعكَس إيجاباً على عمل المَتاحف وعلى زيادة عددها في السنوات الأخيرة.
أصل الأزمة
تعود أزمة المَتاحِف العربيّة إلى افتقار السلطات العربيّة، على مدى السنوات الأربعين الماضية، إلى سياسة واضحة في إنشاء المَتاحف، بمعنى افتقارها إلى إجابات واضحة عن التساؤلات الآتية: متى نفكِّر في أن نُنشئ متحفاً جديداً؟، وما الغَرَض من هذا المتحف بالتحديد؟، وأين يُفترض أن يكون موقعه المكانيّ؟ وما هي التكلفة المُتوقَّعة؟ ومن أين نوفِّر النفقات الضخمة؟، وما هي الفئات المُستهدَفة من إنشائه؟
هناك قصورٌ عربيّ إذاً في فهْم ماهيّة المتحف؛ كما أنّ غياب الرؤية، فالقانون، فالخبراء، أدّى إلى قصورِ دَور المتحف في البيئة العربيّة؛ فالمتحف باختصار هو مرآة لتقدِّم الدول والشعوب. إنّه صورة عن أمّةٍ ما، وعن تاريخها وحضارتها. وبذلك تقوم المَتاحف بالمُحافظة على هذه الصورة، فضلاً عن دَورها في الارتقاء بالحسّ الفنّي بشكلٍ خاصّ وبالذَّوق العامّ. فالمتحف هو ذلك الحارِس الأمين للهويّة الوطنيّة وللثقافة المُشترَكة والمُتعاقِبة للأمّة عبر العصور، وهو بذلك يؤدّي دَور الوسيط الذي ينقل هذا كلّه إلى الأجيال القادِمة. ومن هنا يَعتبر كثيرون أنّ المتاحف هي “مظهر رقيّ الأُمم ومِقياس تقدّمها وحضارتها”.
وتُعَدّ المَتاحف وعاءً للتراث الإنساني، وذلك لما تحتويه من مُقتنياتٍ ماديّة وغير ماديّة، معروضة وفق تسلسلٍ ما (تاريخي- فنّي- موضوعي … إلخ). وبالتالي، لا بدّ من أن يُدرِك القائمون على إدارة سياسات المَتاحف أنّ هذه الأخيرة ليست حكراً على الدولة، وأنّه يصعب على أيّ دولة القيام بهذا الدَّور بمفردها، لذا تتوزَّع ملكيّات المتاحف بين تلك المملوكة للدولة، وتلك المَملوكة للمجتمع المدني، وتلك المملوكة للأفراد. غير أنّنا نلحظ في المقابل أنّ دولاً عربيّة مثل العراق واليمن وموريتانيا والجزائر وليبيا وجيبوتي والسودان ليس لديها لجان عربيّة للمَتاحف، وأنّها بالتالي ليست عضوة في المجلس الدولي للمَتاحف ولجانه في باريس، وهذا ما يفسِّر جانباً من العزلة العربيّة في مجالات المَتاحف وعلومها.
المتاحف نافذة المجتمعات المُعاصرة على قضاياها
يتنافس عددٌ كبير من مُدن العالَم في عدد المتاحف التي تمتلكها؛ إذ تُعتَبر هذه المتاحف أيضاً مؤسّسات جاذِبة للسيّاح، ومن هنا سبب اهتمام المُدن بها معماريّاً، حيث تُعَدّ مَبانيها علامات مميِّزة للمُدن، مثل المتحف البريطاني في لندن، ومتحف اللّوفر في باريس، والارميتاج في بطرسبرغ، والمتحف المصريّ الكبير في القاهرة، ولوفر أبو ظبي. وتختار المُدن هذه المنشآت بعناية كبيرة، لكن للأسف معظم بنايات المتاحف العربيّة ضعيفة من ناحية تصاميمها المعماريّة، ولا تمثِّل علامات مميِّزة لمُدنها، بل إنّ محطّات التلفاز ترى في مباني بعض الفنادق علاماتٍ مميِّزة لمُدنها.
ولعلّ أكثر ما يُثير الانتباه هو أنّ المتاحف ومقتنياتها في أوقات الأزمات السياسيّة قد تمثِّل أداة لتحسين صورة البلد أو للدعاية له أو لجلْب مَوارد له. فبعد نكسة العام 1967 مثلاً، طافت مجموعة توت عنخ آمون من المتحف المصري في القاهرة أوروبا، فساعَدت على تعزيز مَوارد مصر والدعاية لها، فيما أدّى تنقّل مجموعة دار الآثار الإسلاميّة في الكويت في دول عديدة إلى إثارة دهشة الزوّار، وإلى اعتبارها رمزاً لاهتمام الكويت بالفنون.
هنا تبرز المَتاحف كأداةٍ للتعبير عن الهويّة الوطنيّة، وغرسها لدى الأجيال الجديدة في صورة ناعمة تتسرَّب لهم عبر حكايات يقدِّمها المُرشِد في المتحف. فوراء كلّ قطعة معروضة حكاية، ووراء كلّ قاعة حكايات ممزوجة بالفنّ، فيتشرَّبها الأطفال والناشئة بوصفها تاريخهم الوطني، ولاسيّما أنّه تُترَك لهم أحياناً حرّية التعبير عن هذه القطع رسماً، أو كتابةً. ولعلّ تعريف “المجلس الدولي للمَتاحف” (ICOM(2007 للمتحف بوصفه “مؤسّسة غير هادفة للربح، دائمة الخدمة للمجتمع وتطوّره، مفتوحة للجمهور، (…) تتواصل وتعرض التراث البشري المادّي وغير المادّي وبيئته لأهدافٍ تعليميّة ودراسيّة ترفيهيّة” لم يَرد عن عبث.
هنا تبرز التربية المَتحفيّة وبَرامج المتاحف التفاعليّة كأداة لتعليم الأجيال الجديدة، حيث يجري في الحاضر استدعاء التاريخ. ومن هنا أهمّية قيام المَتاحف ببرامج تدريبيّة للجمهور في مجالات عدّة، منها الفنّ الإسلامي مثلاً.
ولطالما أظهرت الدراسات الاستقصائيّة التي أجريت على مدى السنوات الثلاثين الماضية في عدد من الدول الغربيّة أنّ توقّعات زائِري المَتاحف لا تزال مستقرّة إلى حدّ ما، ويُمكن تلخيصها على النحو التالي: “للتعلّم والمتعة”؛ غير أنّنا في المنطقة العربيّة نفتقد إلى مثل هذا النَّوع من الدراسات حول زوّار المَتاحف ورغباتهم. كما كشف مسحٌ عائد للعام 2012 قامت به الإدارة العامّة للتراث في وزارة الثقافة الفرنسيّة هناك أنّ الوصول إلى المعرفة هو ما يتوقّعه الزوّار، في حين تأتي التجربة الجماليّة في المرتبة الثانية. وإلى جانب هذَين الهدفَيْن الحاسمَيْن اللّذَين ذكرهما الزوّار عند زيارة أيّ متحف، ثمّة دافِعان آخران أقلّ ذكراً هُما: “التآزر والاستمتاع” و”التسلية والترفيه”. وبالنسبة إلى جميع أنواع زوّار المتاحف، تبرز مهامّ مثل “التراث وحفظ الذاكرة”، و”نقْل المَعرفة”، و”تقاسُم الثقافة الديمقراطيّة”، و”عرْض الأعمال الاستثنائيّة” كمهامٍّ اجتماعيّة للمَتاحف يُشار إليها باستمرار على أنّها توقّعات روّاد المَتاحف من زيارتهم لها.
أخيراً، لا بدّ من الإشارة إلى الصعود المُتنامي دوليّاً للمتاحف الاثنوغرافيّة. فهذا النَّوع من المتاحف يساعد على التشبُّع بالصورة الذهنيّة للثقافات الإنسانيّة، المحليّة والدوليّة، وفهْمها، ومن ثمّة على تقديم حلول كثيرة لمشكلات ثقافيّة مؤقّتة؛ إذ تمثِّل المتاحف الإثنوغرافيّة نَوعاً من المُحاكاة لواقع لم نعشه في وقتنا الحاضر، وتشكِّل أداة حقيقيّة لمُعالَجة مشكلات ثقافيّة. لكنْ إلى الآن هذه الأداة غير مُستخدَمة عربيّاً بعد.
*رئيس اللّجنة الوطنيّة المصريّة للمَتاحِف
قم بكتابة اول تعليق