بَين اللّغة وقانون المُطابَقة الخلدونيّ

أفق – د. محمود الذوّادي* 

تطرح المقالة مُقاربة جديدة تبيِّن الشروط اللّازمة التي يجب حضورها لكي يكون للناس ما نسمّيه هنا علاقة سليمة مع لغاتهم. تطمح سطور المقالة إلى صياغة هذه الشروط في شبه مُعادلة حسابيّة دقيقة أو قانون لا يقبل الشكّ في صحّته، كما فعل ابن خلدون في صياغته لقانون المُطابَقة لقبول أو رفض الأحداث التاريخيّة التي ينقلها المؤرّخون في مؤلّفاتهم. 

يعرّف صاحب المقدّمة قانون المُطابَقة في العبارات التالية: ” وأمّا الإخبار عن الواقعات فلا بدّ في صدقها وصحّتها من اعتبار المُطابَقة. فلذلك وجب أن ينظر في إمكانيّة وقوعه، وصار في ذلك أهمّ من التعديل ومقدَّماً عليه، إذ فائدة الإنشاء مُقتبسة منه فقط وفائدة الخبر منه ومن الخارج بالمُطابَقة. وإذا كان ذلك فالقانون في تمييز الحقّ من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة أن ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران، ونميّز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه، وما يكون عارضاً لا يعتدّ به، وما لا يُمكن أن يعرض له. وإذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانوناً في تمييز الحقّ من الباطل في الأخبار والصدق من الكذب بوجهٍ بُرهانيّ لا مدخل للشكّ فيه. وحينئذ فإذا سمعنا عن شيء من الأحوال الواقعة في العمران علمنا ما نحكم بقبوله ممّا نحكم بتزييفه. وكان ذلك لنا معياراً صحيحاً يتحرّى به المؤرّخون طريق الصدق والصواب في ما ينقلونه. وهذا هو غرض هذا الكِتاب الأوّل من تأليفنا..” اعتماداً على منهجيّة قانون المُطابَقة في تمييز الحقّ من الباطل، نرجو أن يكسب تحليلنا الرّهانَ أو يقرب منه في بيان إمكانيّة تحقيق نجاح الناس أو فشلهم في إقامة علاقة سليمة مع لغاتهم. 

أ- العلاقة الطبيعيّة مع اللّغة 

يجوز القول إنّ النظريّة اللّغوية التي نطرحها هنا هي نظريّة ترتكز على أبجديّة بسيطة لإقامة الناس لعلاقة طبيعيّة / سليمة مع لغتهم. نستعمل في هذه المقالة كلمتَيْ طبيعيّة وسليمة كنَعتَين مترادفَين. 

نعتقد أنّ أبجديّة منهجيّتنا تتضمّن مَعالِم جديدة في الطَّرح تجعل الحُكم بشفافيّة وبساطة سهلاً على وجود أو فقدان علاقة سليمة للناس والمجتمعات مع لغاتهم. تؤكِّد هذه الأبجديّة وتقول إنّ العلاقة الطبيعيّة بين الناس ولغتهم تتمثّل في أربعة مَعالِم تندرج في ما يسمّيه العُلماء القوانين الطبيعيّة التي تشمل كلّ الموجودات في الطبيعة. تُعرَّف القوانين الطبيعيّة على أنّها التّناسق والانتظام في مَعالِم الطبيعة. ووفقاً لرؤية منهجيّتنا، يتمثّل سلوك التناسق والانتظام الطبيعيَّين في التعامل الطبيعي مع الّلغة الأمّ أو الوطنيّة في سلوكيّات الناس اللّغويّة التالية: 1- استعمالهم لها شفويّاً في كلّ شؤون حياتهم الشخصيّة والجماعيّة و2- استعمالهم لها في الكتابة إن كانت للّغة حروفها أو إن استُعملت حروفُ غيرها من اللّغات الأخرى للكتابة. 3- من المسلّمات أنّ استعمال اللّغة بطريقة سليمة يتطلّب معرفتها الوافية والمتمثّلة في معرفة مفرداتها والإلمام بقواعدها النحويّة والصرفيّة والإملائيّة وغيرها لاستعمالها بطريقةٍ صحيحة في الحديث والكتابة. يمثّل هذا السلوك اللّغوي الشفوي والكِتابي الأرضيّة الأساسيّة الطبيعيّة التي يُقيم بواسطتها الأفراد والمُجتمعات علاقة سليمة مع لغة الأمّ أو اللّغة الوطنيّة في المجتمعات.4 – تنشأ عن هذه العلاقة الطبيعيّة التفاعليّة مع اللّغة ما نسمّيه “العلاقة الحميمة” مع تلك اللّغة، والتي تتجلّى أساساً في المواصفات النفسيّة والسلوكيّة التالية: حبُّ اللّغة والغيرة عليها والدِّفاع عنها والاعتزاز بها قبل أيّ لغة أو لغات أخرى يُمكن أن يتعلّمها الأفراد في مجتمعاتهم.

وبناءً على تلك المَعالِم الأربعة يسهل التعرّف إلى نوعيّة العلاقة التي يُمارسها الناس مع لغاتهم. فالذين يلبّون بالكامل تلك المعالَم الأربعة مع لغاتهم هُم قوم يتمتّعون بعلاقة طبيعيّة / سليمة معها. أمّا الذين لا يلبّونها، فهُم أصنافٌ متنوّعة بحسب مدى تلبيتهم لأيّ عددٍ من المَعالِم الأربعة في التعامل مع لغاتهم.

ب- أبجديّة فهم العلاقة الحميمة مع اللّغة 

يساعد منظور عِلم اجتماع المعرفة على فهْم العلاقة الحميمة التي تربط الناس باللّغة إن هُم استعملوها هي فقط بالكامل شفويّاً وكتابةً (1+2) في كلّ شؤون حياتهم الفرديّة والجماعيّة منذ الطفولة وعرفوا مفرداتها وقواعدها النحويّة والصرفيّة وغيرها (3). يجوز القول بكلّ بساطة إنّ تلك العلاقة الحميمة (4) مع الّلغة الأمّ أو اللّغة الوطنيّة هي نتيجة عمليّة التفاعل/الاستعمال المكثّف معها ولها الذي يُنتظر أن يُنشئ مثل تلك العلاقة النفسيّة القويّة التي تخلق علاقة وثيقة ومتينة، أي حميمة مع اللّغة. وبعبارة عِلم الاجتماع، فمثل ذلك التفاعل الشديد الكثافة والتواصل والاستعمال للّغة يؤدّي إلى ما يسمّيه هذا العِلم بالعلاقة الأوّلية مع اللّغة. وهي علاقة نَدِّية بالعواطف والشعور والتحمّس لمصلحة اللّغة. ذلك كلّه هو حصيلة تنشئة لغويّة اجتماعيّة طبيعيّة منذ الصغر تقتصر على استعمال لغة الأمّ أو اللّغة الوطنيّة على المستويَين الشفوي والكِتابي ووفقاً لمفرداتها وقواعدها النحويّة والصرفيّة الصحيحة في كلّ شؤون الحياة الفرديّة والجماعيّة في المجتمعات. يُمكن صياغة مقولة طرحنا النظري بخصوص نوعيّة العلاقة مع اللّغة في مُعادلتَيْن شبه حسابيّتَين: 1- الالتزام الكامل بالمَعالِم الأربعة (1+2+3+4 )= علاقة سليمة مع اللّغة و2- الالتزام الجزئي أو عدم الالتزام الكامل بالمَعالِم الأربعة (1+2+3+4) = علاقة غير سليمة كثيراً أو قليلاً أو ما بينهما مع اللّغة.

ت- الأوروبيّون وعلاقاتهم الطبيعيّة مع لغاتهم 

تجعل معظم أنظمة التعليم في أوروبا تعلّم لغة أو لغتَين أجنبيّتَين أو أكثر أمراً واجِباً على كلّ المتعلّمين، بخاصّة في المرحلتَين الإعداديّة والثانويّة. لكنّ عمليّة التعلّم هذه للّغات الأجنبيّة في المجتمعات الأوروبيّة لا تفسد العلاقة السليمة مع لغاتها الوطنيّة. أي إنّ هذه الأخيرة تظلّ هي وحدها لغات الاستعمال الشفوي والكتابي في كلّ ميادين الحياة في تلك المجتمعات، بما فيها استعمال اللّغات الوطنيّة في قطاعات التدريس في جميع مَراحل التعليم. وهي سياسة لغويّة بعكس ما هو مُتداوَل في معظم أنظمة التعليم في المجتمعات العربيّة المُعاصِرة التي تدرِّس أغلبيّتُها العلومَ بغَير لغتها الوطنيّة (العربيّة) أي بالإنكليزيّة أو بالفرنسيّة في معاهد التعليم العالي والجامعات، ناهيك بتدريس العلوم باللّغة الأجنبيّة عوضاً عن اللّغة العربيّة/الوطنيّة حتّى في المَراحل الثانويّة مثلما هو الحال في تدريس العلوم في تلك المراحل باللّغة الفرنسيّة في المدارس التونسيّة.

ث- تقييم علاقة أنظمة التعليم بلغاتها الوطنيّة 

يُمكن استعمال المُعطيات السابقة في معرفة طبيعة علاقة خرّيجي أنظمة التعليم مع الّلغة الأمّ أو اللّغة الوطنيّة. يجوز القول بهذا الصدد إنّ الكثير من مجتمعات العالَم الثالث ليست متخلّفة اقتصاديّاً وصناعيّاً وعلميّاً… فقط وإنّما هي متخلّفة أيضاً في استعمال لغاتها في الحديث والكتابة بطريقةٍ سليمة. وهو ما نسمّيه ظاهرة التخلّف الآخر. إنّ مجتمعات القارّة الأفريقيّة هي الأكثر عرضةً اليوم للتخلّف الآخر ممّا قسّمها إلى قسمَين بسبب استعمالهما الطّاغي للغتَين أجنبيّتَين الإنكليزيّة والفرنسيّة. فسُمّي جزءٌ من القارّة أفريقيا الفرنكوفونيّة، وأُطلق على الجزء الآخر أفريقيا الأنكلوفونيّة. ويعني ذلك في نهاية المطاف أنّ المُجتمعات الأفريقيّة ليست لها علاقة سليمة مع لغاتها الوطنيّة وفقاً لمُعادلة العلاقة السليمة المذكورة سابقاً. وليست مجتمعات شمال أفريقيا استثناءً لذلك الوضع. ويجوز القول أيضاً إنّ معظم المُجتمعات العربيّة تشكو هي الأخرى من انعدامِ وجود علاقة سليمة (التخلّف الآخر) ليس مع العربيّة الفصحى لغتها الوطنيّة فقط، بل وكذلك مع لهجاتها العربيّة بخاصّة في مجتمعات المغرب العربيّ، حيث يُهيمن الحديث بالفرونكوأراب على كلام الناس. وبالنسبة إلى فقدان العلاقة السليمة مع اللّغة العربيّة الفصحى كلغة وطنيّة، فإنّ معظم الجامعات العربيّة لا تدرّس العلوم بها، كما ذكرنا.

التعليم التونسيّ وإفساد العلاقة مع العربيّة 

استنادا إلى المبادئ الأربعة المذكورة أعلاه لإقامة علاقة سليمة مع اللّغة، نودّ استعمال تلك المبادئ في تشخيص نوعيّة العلاقة مع اللّغة الوطنيّة/العربيّة لدى خمسة أصناف من المتعلّمات والمتعلّمين التونسيّين في فترتَيْ الاحتلال والاستقلال. فقد عرف المجتمع التونسي أثناء الاستعمار الفرنسي ثلاثة أنواع من نُظم التعليم الابتدائي والثانوي هي: 1ـ المدرسة الصادقيّة الثنائيّة اللّغة ( الفرنسيّة والعربيّة)، حيث هَيمنَت اللّغة الفرنسيّة كوسيلة لتدريس التلاميذ التونسيّين المَواد المُختلفة بما فيها تدريسهم بها أحياناً حتّى النحو العربي.2- مدارس البعثات الفرنسيّة التي هُمِّش فيها بطريقةٍ شبه كاملة تدريس العربيّة وثقافتها واستعمالهما. فالتعليم في كلّ من مدارس البعثات الفرنسيّة والمدرسة الصادقيّة هو تعليمٌ بعيد كلّ البعد عن سلامة علاقته باللّغة الوطنيّة/ العربيّة كما عرفنا العلاقة السليمة/الطبيعيّة مع اللّغة.3- يمثّل التعليم الزيتوني النَّوع الثالث من نظام التعليم التونسي في عهد الاستعمار ومطلع الاستقلال. فاللّغة العربيّة هي سيّدة الموقف لدى المتعلّمات والمتعلّمين والمدرّسين الزيتونيّين. 4- أمّا الصنف الرّابع من نظام التعليم التونسي في مطلع الاستقلال فهو نظام شعبة(أ) الذي يَدرسُ فيها التلاميذُ المَواد كلّها باللّغة العربيّة فقط من السنة الأولى للتعليم الابتدائي حتّى السنة الأخيرة من التعليم الثانوي /البكالوريا.5- ويحقّ اعتبار نظام التعليم التونسي العامّ الثنائيّ اللّغة (ب) (الذي يدرِّس المَواد التعليميّة بالعربيّة والفرنسيّة قبل نهاية التعليم الثانوي) الصنف الخامس من النظام التربوي التونسي منذ الاستقلال الذي كرَّس ويكرِّس تواصُل الثنائيّة اللّغويّة لدى خرّيجيه بعد الاستقلال والثورة.

تفيد المؤشّرات المتنوّعة أنّ نمط تعليم شعبة(أ) يتميّز عن نظام تعليم شعبة (ب) بعد الاستقلال في أنّ خرّيجيه، حتّى بعد دراستهم بالفرنسيّة وغيرها من اللّغات الأجنبيّة في الجامعات التونسيّة أو الأجنبيّة يظلّون أكثر الخرّيجات والخرّيجين التونسيّين اتّصافاً بما نسمّيه التعريب النفسي أو العلاقة الحميمة مع اللّغة العربيّة.

يتجلّى من هذا التحليل المُختصر أنّ جميع خرّيجي الأصناف الخمسة من التعليم التونسي قبل الاستقلال تعرّضوا بتساوٍ إلى ما نسمّيه الاستعمار المادّي (الاحتلال العسكري والسياسي والفلاحي) لكنّهم لم يكونوا متساوين في تعرّضهم إلى الاستعمار غير المادّي (اللّغوي والثقافي) قبل الاستقلال وبعده. تشبه معادلة المبادئ الأربعة لسلامة العلاقة مع اللّغة قانون المُطابَقة لابن خلدون الذي يقول إنّ الأحداث التاريخيّة التي ينقلها المؤرّخون تكون كاذبة إذا لم يؤيِّد واقعُ العمران البشري إمكانيّةَ حدوثها. وبالمثل، فليس من الصدق انتظار وجود علاقة كاملة سليمة مع اللّغة الأمّ أو اللّغة الوطنيّة لدى معظم المُواطنات والمواطنين التونسيّين والحال أنّهم لا يلبّون بالكامل المبادئ الأربعة في المُعادلة التالية: (1+2+3+4 ) التي وقع شرحها سابقاً.

*عالِم اجتماع من تونس

قم بكتابة اول تعليق

أترك لنا تعليق

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


20 + = 22