كورونا “وإعادة اكتشاف معنى الزَّمن

أفقصلاح سالم*

تنمو الذّات الإنسانيّة بحريّة الإرادة، والشعور بالقدرة على الاختيار من بين مُمكناتٍ عدّة، فعندئذ تصير الذّات موجوداً حقيقيّاً. أمّا الشعور بالجبْرِ والاضطّرار، وغياب المُمكنات، فيُلغي الحريّة، ومن ثمّ الذّات الإنسانيّة التي لا تفنى تماماً أو تُواجِه العدم حتماً، بل يكفي أن تذبل وتتوارى وتضمر. نعم تبقى حيّة، تنطوي على مُمكنات، ولكنْ ما قيمة ذلك، وهي عاجزة عن تفعيل مُمكناتها والاختيار من بينها؟

إنّه الواقع الذي قادنا إليه فيروس كورونا الشرّير، طائر الموت المُحلِّق، والذي لا بدّ أنّه قد أصابنا جميعاً بأقدارٍ مُختلفة من المَلل والقلق، بالخَوف على أنفسنا ومن حولنا، ونحن أسرى الحجْر الصحّي والتباعُد الاجتماعي. لقد احتبسَنا الفيروس فضيَّق عالَمنا واختصرَ الحيّزَ المَكانيّ الذي يتحرّك فيه أغلبنا إلى حجْم المَنازِل والبيوت، عشرات أو مئات الأمتار على الأكثر. ومع ضيق المكان، بَدَأ الشعور بركود الزمان. 

تفسير ذلك أنّ الوجودَ الإنسانيّ زمانيٌّ أساساً، بقدر ما أنّه مَكانيّ أصلاً، يرتبط بخرائط الجغرافيا وحركة البشر، فلا يُمكن فهْم شخصيّة إنسان إلّا بإدراك المكان الذي تحرّك فيه، والزمان الذي عاش خلاله، فكلاهما بمثابة الإحداثَين الرئيسَين: الأُفقي والرأسي اللّذَين يُحيطان بالكائن البشري، ويؤطِّران وجوده، فالمَكان الكَونيّ المُمتدّ بلا نهاية يُشكّل التوالي الأُفقي الذي يتناثر عليه البشر مُتجاوِرين جغرافيّاً، والزمان الكَونيّ المُمتدّ من الأزل إلى الأبد، يُشكِّل التعاقُب الرأسي الذي يوجد فيه البشر متوالين زماناً، وبإدراك مَوقع الشخص على خرائطهما معاً يُمكن تفهُّم مغزى وجوده.

تحدَّثت أساطير الخلْق والتكوين لدى الحضارات الكلاسيكيّة، وخصوصاً البابليّة والفارسيّة والهنديّة عن دوراتٍ تاريخيّة بملايين السنين يدور العالَم في فَلكِها، يرتبط أغلبها بحياة الإله الخالِق. غير أنّ فلاسفة اليونان كانوا أوّل مَن تعقَّل ظاهرة الزمن، عندما تحدّثوا عن نوعَين رئيسَين له: أوّلهما مُطلَق، وثانيهما نِسبي. الأوّل أكّد عليه أفلاطون ومن بعده أفلوطين، ويكاد يعني الزمن الإلهي، الذي لا يُقاس ولا يتجزّأ ولا يقطعه شيء ولا يرتبط بحركة، يتدفّق مستقلّاً عن الكون والإنسان معاً، وهو في امتداده المُطلَق يُشبه السكون المُطلَق. إنّه الزمان الذي يُثير إشكاليّات عدّة حول علاقة الخلق بالأزل، هل كان الخَلْق في زمان، أم أنّ الزمان سابق على الخَلْق، وهل يستمرّ الزمان بعد نهاية الخلْق، ومن ثمّ علاقة الأزل بالأبد عبوراً بالسرمديّة.. إلخ. والثاني ركَّز عليه أرسطو، وهو الزمان الفيزيائي/ الطبيعي، الذي يُقاس بالساعات والأيّام والشهور. إنّه الزمان الذي يتدفّق بانتظامٍ مُستقلّاً عن الإنسان، فيما يتحدّد بحركة الأجرام والكواكب في مجرّتنا الشمسيّة. وهو الزمان “الفَلَكي” الذي وضع إسحق نيوتن على أساسه القوانين الثلاثة التي أَحدثت قفزة كبرى في مَسيرة العِلم الحديث، عندما صوّرت لنا الكون كآلة ضخمة تتحرّك بمعقوليّة، تفضي كلّ حركة إلى ما بعدها مثل حلقاتٍ مُتتابعة في سلسلة العليّة، ولذا كان ثمّة إمكانيّة للتنبّؤ بحركة الكواكب والأجرام وفهْم بناء العالَم الطبيعي الذي صار عالَماً استاتيكيّاً محكوماً بنَوعٍ من الحتميّة. 

من جانبه، أقام العظيم كانط نَسقه الفلسفي على قاعدة فيزياء نيوتن الاستاتيكيّة، ولكنّه قلَّل من حتميّتها، عندما قدَّم نقده التنويري “النظري” لدَور العقل في عمليّة المَعرفة، مؤكِّداً قدرته على إدراك ظاهر الشيء، وليس الشيء في ذاته. ولديه، فإنّ المكان والزمان بمثابة صورتَين قَبليّتَين للوعي، تتحدّد في ضوئهما قدرة الإنسان على المَعرفة، فكلاهما معطى سابق على التجربة، يُمثِّل شرطاً أوّليّاً لها، يسعى العقل من خلالهما إلى تأمُّل حدوسه التجريبيّة، ووضْعها في انتظاماتٍ معقولة تجعلها قابلة للتفسير والفهْم، بعد أنْ يُعمِل فيها قوانينه ومبادئه الكليّة، فلم تعُد المَعرفة مُطلَقة ولا حتميّة كما تصوَّرها نيوتن، وإنْ استمرَّت مُمكنة بحسب التجربة، وفي حدود قُدرات العقل.

إنّه الفهْم “اللّاحتمي” الذي تكاتفت نظريّات الفيزياء المُعاصِرة في تبريره والتأكيد عليه، وخصوصاً نظريّة النسبيّة كما صاغها أينشتاين، ومبدأ اللّاتحدُّد كما صاغه هايزنبرغ، حيث جرى ربْط الزمان بالمكان على نحوٍ لم يعُد مُمكناً معه تصوّر أيّ منهما بعيداً عن الآخر؛ فلا زمان مُطلق، بل زمان قياساً إلى المكان، ولا مكاناً مُطلقاً، بل مكان منسوباً إلى الزمان، إنّه “الزمكان” الذي ينطوي على البُعدَين معاً. وهنا لم يعُد مُمكناً، بحسب هايزنبرغ، أن نعرف مَكان الجسيم الدقيق (الإلكترون) وأن نقيس سرعته بدقّة مُطلَقة في الوقت ذاته، ففي لحظة قياس أيٍّ منهما يكون الآخر قد تغيّر. ومن ثمّ وُلِد فهمُنا المُعاصِر لكَونٍ ديناميكي، لا يتوقّف عن التغيّر، وجرى التأكيد على الزمان النسبي، فيما توقَّف الحديث عن الزمان المُطلَق الذي ارتبط بالفكر اليوناني، والذي سمّاه نيوتن بالزمن الرياضي الخالِص.

عندما يذبل الوجود

فضلاً عن هذَين النوعَين من الزّمن، ثمّة ثالث باطني/ ذاتي يرتبط بإدراك الفرد الخاصّ، وإحساسه الاستثنائي، تمّ التعبير عنه بصورة أوّليّة في التجارب الصوفيّة داخل الأديان، وخصوصاً السماويّة. فالصوفي لا يكترث بالمَعرفة العِلميّة، التي تقوم على التحليل والتجزيء، وقياسات الكمّ والكَيف، بل يُعوِّل على مَعرفةٍ كليّة، يتعانق فيها الذَّوْقُ مع العقل، لإدراك الذّات الإلهيّة عن طريقِ حدسٍ كلّي، باعتبارها الحقيقة المُطلَقة التي تتراجع أمامها كلّ الحقائق النسبيّة والمَعارِف الجزئيّة. ومن ثمّ يُدرِك الزمان إدراكاً باطنيّاً، فلا يرى فيه وحدات القياس المعروفة بالدقائق والساعات، بل تيّاراً متدفّقاً يسيل على جوانب الأبديّة في انتظار اللّقاء بالمحبوب الأعظم والفناء فيه. وهنا ينتفي إيقاع الزمان بانتفاء الحركة، ففي الذوبان والتلاشي نَوعٌ من السكون، يأخذ ظاهريّاً شكل العدم على الرّغم من أنّه يُشكِّل، جوهريّاً، روحَ الوجود وعُمقه الذي لا يتناهى، كونه لقاءً بالموجود الأعظم. إنّه الزمان نفسه، تقريباً، الذي يعيشه العاشق، فما قبل الوصال أو بعده، ليس إلّا انتظار مرير، تطول فيه الثواني إلى ساعات، أمّا ساعات الوصال مع المحبوب، فتتلاشى كلحظاتٍ تكاد تخلو لقصرها من البدايات والنهايات. 

هذا الزمان الباطني/ الذّاتي اصطبغ في الفكر المُعاصِر بالفلسفة الوجوديّة التي أعادت اكتشاف الخبرة الصوفيّة التقليديّة التي سمّاها برغسون “الوجود الساكن”، حيث يكتفي الصوفي خلالها بـمجرّد “الوجود في العالَم” من دون رغبة أو قدرة على التأثير فيه. 

أمّا الوجوديّة، فمَنحتها جرعة ديناميكيّة تُواكِب الحداثة الفكريّة، أكَّدت على ضرورة “الوجود داخل العالَم”، وخصوصاً لدى مارتن هيدغر الذي أطال في تحليل علاقة الوجود بالزمان، مُعتبِراً أنّ الإنسان هو ذلك الكائن المُريد، المَعنيّ بترقية الوجود عبر صيرورة دائمة للتعلُّم والتحرُّر يُسمّيها “التصميم”، كفيلة بأن تحيله من “دازين Dasein”، مجرّد كائن مُلقى به في العالَم، إلى موجود داخل العالَم، قادر على أن يتخلّص “كفَرْدٍ” من سطْوة “الجماعة”، لتنمو ذاته، ويملأ الزمان بحضوره، ويصير معه الحاضر أو “الآن”، هو مَركَز الزمان، وهنا يمتلك “أنيّته”، أي ذاته الفاعلة في الوجود والزمان. ولكنْ ما علاقة كلّ هذا بـ”كورونا”؟ 

أَوجُه الحياة العديدة

لقد حاصَرنا الفيروس في حيّزٍ مكاني محدود للغاية، ولأنّ الشعور بإيقاع الزمان ينبع من تعاقُب الأحداث وجريانها في العالَم، أي في الفضاء المُحيط بنا، فقد أفضى ضيق المكان، الذي نتحرّك فيه، وتشابُه الأحداث التي ننشغل بها، وتكاد تدور حول موضوعٍ وحيد، إلى شعورٍ فاتر بالزمن. لقد بدا عالَمنا راكداً يخلو من الصراعات المُعتادة، من الجدل الطبيعي بين المَواقف والنقائض، فانكمشَ زمانُنا بانكماشِ مَكاننا وتنميط أحداث عالَمِنا. وحتّى الذين كانوا يبقون في بيوتهم طويلاً قبل كورونا من دون شعورٍ بالمَلل، سواء من الكِبار والمُقعَدين أم حتّى من أرباب المزاج الخاصّ، فقد باتوا جميعاً يشعرون بالركود والمَلل في ظلّ كورونا، إذ لم تعُد حركةُ الحياة تتدفّق حولهم، ولم تعُد لديهم خريطةٌ للفرجة على أحداثٍ جديدة مُبهجة من قبيل حركة الفنون، والرياضة والأزياء والسياحة، النشاط الكروي، اللّهم إلّا تلك الأحداث المُسجَّلة، التي لا جديد فيها، وهنا تذبل الإرادة بغياب الاختيار، ثمّ يذبل الوجود بغياب الإرادة، لأنّ المكان تقلَّص بحِصار الفيروس، والزمان صار راكداً بتقلّص المكان. 

فضلاً عن ضيق المكان وركود الزمان، ثمّة أيضاً غياب الإطار المُحيط بهم، أي المرجعيّات التي كانوا يقيسون بها أنفسهم ووجودهم، وتلك حقيقة مهمّة تقع في صميم الوجود البشري، حيث الآخر المُختلف جدّاً عنك، قد يكون من الأهميّة لك بقدر لا تتصوّره من دون أن تدري، فهو نقيض تتحدّد به ذاتك، وهو آخر ترى فيه هويّتك، وهو مرآة ترى فيها وجهك. إنّنا دوماً بحاجة إلى معايير خارجة عنّا نُقيِّم بواسطتها ذواتنا وأفعالنا، نقاط ثوابت نتحرّك نحن على هدْيها، ونقيس مقدار حركتنا إليها.

غير أنّ الحياة علّمتنا أنّ لها أوجهاً عديدة، ينطوي كلٌّ منها على نقيضه. فمِن فلسفة اليِنْ واليانغ الصينيّة القديمة، نُدرِك أنّ كلّ شيء ينطوي على نقيضه، وأنّ ذروة الحركة تنطوي على نهايتها، وأنّ الهبوطَ حتميٌّ بعد الصعود. ومن علوم السياسة نتعلّم أنّ في باطن المَخاطر تكمن دوماً الفُرص، وأنّ التحدّيات الكبرى تفرض استجابات من مستواها قد تفتح الباب على طُرقٍ ومَسالِكَ جديدة لم تكُن متخيّلة قبلاً. ولأنّ هذه الأنساق جميعاً لا يمكنها أن تستثني فيروس كورونا من منطق عملها، ولا من منهج جدلها؛ فالبادي أنّ طائر الموت الذي احتجزنا عن الحيّز الطبيعي المعتاد لنا، هو نفسه الذي سيفتح عيوننا على حيّز آخر لفت الكثيرين حتى الآن، وأرجو أن يتوقف عنده الجميع. إنّه الحيّز اللّصيق بنا أو حتّى الكائن داخلنا، ففي تيّار الأحداث الدافق، حيث يتمدّد المكان ويتسارَع الزمان، لم يدرك الكثيرون منّا قيمة الأسرة الثاوية في المكان نفسه، فمِن فرْط القرب غابت الصورة وغامت الرؤية، فلم يفهَم بعضُنا البعضَ الآخر، أزواجاً وزوجات، آباء وأبناء. لكنْ مع ضيق المكان وركود الزمان، تحرّك نظر هؤلاء إلى المجال الخفيّ لفرْط قربه، فصار على الأغلب مجالاً مُدرَكاً بعدما صار محسوساً، فالمكان الذي ضاق من خارج، سرعان ما ينفتح على الداخل، بل سرعان ما ينقسم إلى نِطاقات، وهنا صارت العائلة التي كانت مُضمَرة في نِطاق الذّات، ولا تستحقّ تأمّلاً، مجالاً مُستعاداً، مَوضِعاً للفحْص والتأمّل والإدراك، ما قد يُمثِّل مَدخلاً لإعادة اكتشاف الحُبّ أو لزيادة الانسجام المُجتمعي؛ بل إنّ الذّات الفرديّة، التي توقّفت عن تأمُّل نفسِها في الزمان المُتدفِّق، سرعان ما سوف تكتشف داخلها أناها العميقة، وقد تأخذ في مساءلتها، وتعْرية المسكوت عنه لديها، المَخفيّ كليّاً أو جزئيّاً، تحت ضغط الزمان اللّاهِث، وهنا يصير الإنسان، بتعبير كانط، ذاتاً مُتعالية، وقادِراً على أن يُحيل نفسه إلى موضوعٍ لمَعرفته، فيتجاوَز قصوره ويَسمو بذاته.

*كاتب من مصر

قم بكتابة اول تعليق

أترك لنا تعليق

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


− 5 = 2