العرب والهند والفكرة الديمقراطيّة

أفق – نبيل علي صالح*

تبقى الدولة المدنيّة، دولة القانون والعدل والمؤسّسات، حلماً للفرد العربيّ يسعى إليه في بلدانه. لكنّ هذا الحلم لا يُمكن أن يتحقَّق في ظلّ هَيْمَنة قواعد الغلبة السياسيّة والعصبيّات الاجتماعيّة. يتحقّق فقط عبر آليّات الديمقراطيّة كأفضل وأرقى شكلٍ تنظيميّ للعمل السياسيّ توصَّل إليه الإنسان في حركته التاريخيّة.

وبطبيعة الحال، فإنّ الديمقراطيّة كمناخٍ سياسيّ يوفِّر فرصاً وخياراتٍ واسعة لنموّ دولة القانون والمؤسّسات، ليست حلّاً سحريّاً من فَوق لمشكلاتنا وأزماتنا العربيّة الوجوديّة المُقيمَة منذ أمدٍ غير قصير في عالَمنا العربيّ، والتي تبدأ من الاستبداد السياسيّ إلى الاقتصاد “الريعيّ”، مروراً بحالة التخلّف التقنيّ والفجوة العلميّة الكبيرة مع الآخر..

الديمقراطيّة كفكرة ناجِحة ومُثمِرة نجَحت تطبيقاتها في بلدان كثيرة نجاحاً باهراً، تحتاج في مجالنا الاجتماعيّ والسياسي إلى تهيئة المناخ والتربة الثقافيّة والمعرفيّة المُلائمة للنموّ والتراكُم ومن ثمّ الاستثمار.

وقد يقول البعض إنّ مجتمعاتنا متأخّرة زمنيّاً وثقافيّاً عن الأخذ بالديمقراطيّة بكلّيتها مباشرة.. وهي ربّما لا تتحمّل، أو هي غير مؤهَّلة، أو أنّ بنيتها الفكريّة والتاريخيّة “بالية” و”عَفنة”… إلخ. ولكنْ، مع قناعتنا بوجود معيقات ومضادّات ثقافيّة للفكرة الديمقراطيّة، نعتقد بأنّ كثيراً من النُّظم العربيّة الحاكِمة لا تحبِّذ هذه الفكرة ولا تنفتح عليها، بل قد تَمنع الناسَ من بناء خياراتهم وقناعاتهم وتطويرها، وإظهار قدراتهم واستثمار طاقاتهم.

وحتّى لو اعترفنا بتخلّفنا الاجتماعي والسياسي والثقافي، وهَيمنة ثقافة تقليديّة علينا منذ قرون عديدة، يجب أن نعلم أنّ الناس في مجتمعاتنا ليسوا أسوأ حالاً – على هذا الصعيد- من مجتمعات أخرى متخلّفة أصلاً كالمجتمع الهندي مثلاً.

فقد قدَّم الهنود نموذجاً فريداً في العمل السياسي الديمقراطي التعدّدي السِلمي، مع بقاء ثقافاتهم وقناعاتهم وعاداتهم التاريخيّة القديمة كما هي. بالعكس لقد برزت الحاجة إلى الديمقراطيّة – كنظامِ تسالُمٍ وتصالُحٍ سياسي مجتمعي سِلمي لفضّ النزاعات والخصومات واحتواء الخلافات أو السيطرة عليها عبر إيجاد قنوات سلميّة للتنفيس عنها- نتيجة رغبة الناس (على تنوّعاتهم الثقافيّة والحضاريّة الهائلة) بالتعبير السلميّ الحضاريّ عن تلك الاعتقادات والانتماءات التقليديّة بلا عنف ولا عصبيّة ولا فوضى ولا احترابات داخليّة. ففي الهند قوميّات كثيرة، وإثنيّات لا حصر لها، وفيها أيضاً أعراقٌ ومذاهب وأديان وطوائف ومُعتقدات وطُرق صوفيّة وباطنيّة وأحزاب سياسيّة من الصعب إحصاؤها. لكنْ انظروا إلى ديمقراطيّتها السلميّة المُثمِرة والمُنتِجة.. كلّ نزاعاتهم وخلافاتهم أخضعوها للقانون والدستور والديمقراطيّة ولا مجال للتغلّب والهَيمنة والاستئساد.

وهكذا فالعرب والمسلمون عموماً ليسوا بدعاً من المجتمعات والأُمم والحضارات والثقافات. وهُم أيضاً ليسوا كائنات غير بشريّة قادِمة من عوالِم وكواكب أخرى، هُم أناس وبشر مثل الهنود، ومثل باقي خلق الله، من لحمٍ ودمٍ وشعور وإحساس وعقل وتفكير، فقط هُم يحتاجون إلى صيغة سياسيّة وفضاءٍ سياسيّ حرّ (مع إرادة تطبيق فاعِلة) بما يسمح لهم بالتعبير عن أوضاعهم سلميّاً وتعدّدياً بلا عنف ولا تخويف ولا إقصاء، ويأملون من خلاله نَيل حقوقهم وتأمين متطلّبات عَيشهم الآدميّ البسيط رمزيّاً وماديّاً.. وذلك بصورة سلميّة تداوليّة حضاريّة ولو بعد حين، لتكون هذه الصيغة قادرة على أن تحرِّض أجمل ما عندهم من طاقات العمل والإبداع والإنتاج.

وحتى لا نُتّهم بأنّنا نجلد الذّات ونتهكَّم على واقعنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي العربي أمام الآخرين، نقول إنّ بعض بلداننا العربيّة حقَّقت نتائج طيّبة في قضيّة الانفتاح والديمقراطيّة، وبعض النتائج الطيّبة في التنمية ومُكافحة الفقر، والتقدّم بعض الشيء على سلّم النجاح الاقتصادي والاجتماعي.

لكنّ المشكلة أنّ هذا النجاح لم يأتِ نتيجة تجذُّر فكرة الديمقراطيّة، أو نتيجة توطين المَعرفة والعِلم وقيَم الحداثة العقليّة والفلسفيّة، بل جاء نتيجة شراء أفكار ومكتشفات ومخترعات ومنتجات الآخر (المتقدِّم والمتطوِّر) ومحاولة نقلها بالشكل والصور (دون المضمون الفكري والثقافي الذي أنتجها) إلى بيئتنا الاجتماعيّة العربيّة. فعاشت تلك الدول نوعاً من الحداثة الشكليّة المظهريّة، والتي نسمّيها بالحداثة القشريّة الكسيحة الهزيلة، لا الحداثة الحقيقيّة المزروعة والمُستنبَتة في الأرض العربيّة.

عموماً هناك تخلّف عربي عامّ. هذا أمرٌ مفروغ منه، ومعروف للجميع بالإطار العامّ من دون معرفة التفاصيل الكثيرة المعروفة هي بدَورها للمتخصّصين من أصحاب الشأن. ولكنْ، في الإطار العامّ، هناك أسباب واضحة للتخلّف العربي، فما هي؟ ولماذا وصلت معظم الدول العربيّة إلى ما هي عليه من انحطاطٍ سياسي واقتصادي وعطالة عمليّة في حضورها ودَورها، دفعتها مجتمعةً لتكون في مراحل متأخّرة ودرجات دنيا على سلّم التنمية والتقدّم المعروف دوليّاً؟!

بالتفصيل نقول:

1- رفضت كثيرٌ من النُّظم والحكومات السياسيّة الرسميّة العربيّة المُتعاقِبة، بناء مناخٍ سياسي يقوم على فكرة المُواطَنة والحُكم الصالح، يُمكن من خلاله للفرد أخذ حقوقه الفكريّة والسياسيّة، بل لقد منعته حتّى من التفكير خارج السرب الرسمي. أي أنّها صاغته وأدْلَجَتْه وفقاً لمنظومتها الحزبيّة والتفكيريّة والسياسيّة ككائنٍ “حزبوي” مُغلق لا وطني، ولاؤه للحزب والقائد، وليس للأوطان والبلدان وأبناء المجتمع.

2- لم تكترث الحكومات العربيّة عموماً لأهميّة السَّير على الطريق التعدّدي الديمقراطي – الذي سارت عليه كلّ الأنظمة الناجحة والمتقدّمة في العالَم المعاصر- كنظامٍ إجرائي لبناء أُسس دولة مدنيّة مؤسّسيّة قادِرة وفاعِلة ومُنتِجة، على الرّغم من وجود نماذج هائلة أمامها من دول ديمقراطيّة ناجِحة ومُنتِجة في كلّ المجالات.

3- لم تهتمّ النُّظم العربيّة مطلقاً بتكريس قيَم الحريّة والعدالة والتنمية الاقتصاديّة والإنسانيّة المُتوازنة، ولو بتدريبِ الناس وتأهيلهم عليها ثقافيّاً وسلوكيّاً. ولنا أن نتخيّل هنا أنّ مَناهج التعليم العربي كلّها تفتقد لثقافة (أو حتّى لبعض مصطلحات وأفكار) الحريّة والكرامة والعدالة وأبسط مبادئ حقوق الإنسان المعروفة حيث تتمّ تنمية مَداركه على الإكراه والتلقين والولاء الأعمى منذ نعومة أظفاره.

4- صَرفت الدول العربيّة عموماً النظر عن قضيّة مهمّة هي التلازُم العضوي بين الحريّة من جهة والتنمية من جهة ثانية، لأنّ الإنسان صاحب الفكر الحرّ هو صاحب المُبادرة والمُبادأة، وبالتالي هو الأكثر قدرة على العمل الفعّال والإنتاج الحقيقي، والمُشارَكة المؤثِّرة والمسؤولة في عمليّة التنمية الصحيحة.

5- عجزت الدول العربيّة عموماً عن تنفيذ إجراءاتٍ صارِمة بحقّ الفساد والمُفسدين، ما أدّى إلى زيادة معدّلاته ودرجاته وأعداد المُنتسبين إلى “نادي الفساد”.

6- فشلت الدول العربيّة في الفصل بين المسألة السياسيّة والمسألة الدينيّة لا بمعنى الفصل النهائي الحاسِم بين الدّين والمجتمع، بل بمعنى منْع تدخُّل رجالات السياسة بالدّين والعكس صحيح.

7- فشلت الدول العربيّة في بناء المُواطن السليم الحديث المُعافى، ولم تعمل على صياغته وبنائه على أُسس المُواطَنة والحداثة الفكريّة والعقليّة وقيَمها. الأمر الذي سمح لعادات المجتمعات العربيّة التقليديّة وأعرافها وقيَمها، من مختلف المكوّنات والبنى ما قبل الوطنيّة الحديثة، من الانتصار الساحق والماحق على قيَم المدنيّة المُعاصِرة، ما أجَّج العصبيّات العتيقة، وفجَّر العنف الطائفي وغير الطائفي بين المجتمعات والدول.

8- الفشل الذريع في الموضوع الاقتصادي، فالبلدان العربيّة عموماً هي من أكثر البلدان في العالَم معاناة من البطالة والعطالة وعدم الإنتاج. فالفقر، والتخلّف الاجتماعي، والانفجارات الديمغرافيّة والسكّانيّة، وترييف المُدن، وتخلّف المرأة، وانتشار الأميّة الثقافيّة والتعليميّة، هي من أهمّ مظاهر هذا الفشل الاقتصادي والاجتماعي.

وبالنَّظر إلى ما تقدّم، لم يعُد الإنسان العربي قادَراً على الصمود أكثر في مُواجَهة تحدّياته المعيشيّة والحياتيّة عموماً. وهو لا يريد مزيداً من التحليلات والبيانات والأرقام التي باتت معروفة للجميع، كما أنّ الوعود باتت معزوفة تُثير في نفسه الغثيان بعد عقودٍ طويلة من إلقائها جزافاً هكذا بلا أمل ولا واقعيّة.

لقد شبع هذا الإنسان العربي من تلك الشعارات والوعود الفضفاضة، وشبعنا جميعاً منها إلى درجة التخمة.

إنّ الذي يحرِّك الشعوب والمجتمعات نحو تحقيق الشعارات والأهداف العليا من تنمية وازدهار ورفاه اجتماعي، هو بالأساس إعطاؤها حقوقها (حرّيات- عدالة- مُشارَكة)، بلا منّة ولا مُزاوَدة من أحد، وإفساح المجال العامّ أمامها للمُشارَكة الفاعلة في صنْع مصيرها ومستقبلها. الناس باتت تعرف كلّ الحقائق، صغيرها وكبيرها كما قلنا. العِلم والتقنيّة واستثمار شبكات التواصل الاجتماعي اخترقت الأسرار الدفينة، وعرّت الدول والأنظمة أمام شعوبها، وهي التي كانت تُفاخِر دوماً ببناء كلّ وجودها على السرّ والعمل بالخفاء، وتَبني كلّ سياساتها وترسم كلّ استراتيجيّاتها وراء الكواليس وتحت الأقبية. لكنْ، كلّ شيء افتضح، وبات اللّعب على المكشوف كما يُقال، ولغة الأرقام والإحصائيّات المتعلّقة باقتصاد كلّ دولة وتنميتها صار أمراً مُتاحاً، وبالتالي معروفاً للجميع، في أقاصي المعمورة كلّها.

من هنا نقول ونؤكّد على أنّه في حال عدم توافر الوقود والطّاقة المُحرِّكة، فإنّ الناس عاجزون عن فعل أيّ شيء. فهل يُمكن أن تطلب من ابنك النجاح في صفّه والتفوّق على أقرانه، وأنتَ تُعامله معاملةً سيّئة، وتضربه وتهينه، وتذلّه، ليس جسديّاً فحسب، بل حتّى على مستوى عدم توفير أجواء النجاح والتفوّق له؟

وهكذا لا يُمكن للدولة أن تكون قادرة على مُواجَهة أيّ تحدٍّ، داخلي أم خارجي، مع بقاء مواطنها و”ابنها” مذلولاً مُهاناً بلا كرامة، عاطِلاً عن العمل (عطالة حقيقيّة أم مقنَّعة) وعارياً من كلّ شيء..!!

والناس عندنا – في واقعنا العربي- بسيطون وطيّبون على وجه العموم، وليست لديهم غايات مُطلقة غير قابلة للتحقّق، أمانيهم (على قدّهم كما بالعاميّة) والتعامل معهم سهل وغير مركَّب، القضيّة تحتاج فقط إلى وعي وإدارة وإرادة جديّة. والدلالة على طيبتهم وحُسن نواياهم، لِننظر فقط إلى ما فعله الاستبداد بهم، وما ارتكبه بحقّهم الاستبداد الدّيني، (أي ما فعلته بهم التيّارات الأصوليّة). لقد تحمّلوا القهر والعذاب والاستبداد السياسي عقوداً طويلة من الزمن منذ عهود الاستقلال الشكلي عن الاستعمار الخارجي، ومَنحوا أنظمتهم الحاكِمة فرصاً كبيرة للتغيير والإصلاح بلا تكاليف ولا عنف. ولكنْ لم يتحقّق شيء مطلقاً.

وهكذا الأمر ذاته بالنسبة إلى الإسلاميّين. فهل تعلمون لماذا يُسيطر الإسلاميّون الدجّالون الكاذبون على أبناء مجتمعاتنا؟! الجواب هو: لأنّهم يستغلّون طيبتهم وحُسن سريرتهم، ومحبّتهم للدّين وقيَم التديّن، ويستغلّون أيضاً جهلهم الفاضح بقيَم الدّين الحقيقيّة الأصيلة السمحة والإنسانيّة. ويستثمرون في مسألة خوفهم من الله، كخوفٍ مَبني على ثقافة الحلال والحرام وعقليّته. وهو ما يجب أن يزول من خلال تحويل هذا الخوف إلى محبّة لله وليس خوفاً منه.

*كاتب وباحث من سوريا

قم بكتابة اول تعليق

أترك لنا تعليق

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


− 1 = 1