ربيع الدّبس*
ما المجتمع المدنيّ؟ مُصطلحٌ أم نهجُ حياة؟ هل هو استحقاقٌ أم واجبٌ؟ وما علاقته بالدولة؟ هل المجتمعات العربيّة مهيَّأة لمُواصفات هذا المجتمع… سياسيّاً واقتصاديّاً وأخلاقيّاً ومعرفيّاً؟ ما من ريب في أنّ “المجتمع المدنيّ” مفهومٌ غربيّ النشأة يعلو المذاهبَ والقبائل والعشائر، لأنّه فوق الانتماءات الابتدائيّة والولاءات الضيّقة والعصبيّات المريضة. إنّه يقوم على قواعد التعدّديّة والسِّلميّة واللاّربحيّة، كما يشكِّل قوّة اقتراح للدولة؛ ثمّ إنّه يعبِّر عن مصالح المجتمع تعبيراً تنوّعيّاً لا عنفيّاً، ويُعنى بحقوق الإنسان من دون أن يعني ذلك أنّه خالٍ من الإشكالات، وخصوصاً على المستوى الفكري – الثقافي حيث ينحاز إيديولوجيّاً إلى هذا الفريق أو ذاك مهما ادّعى الموضوعيّة. لكنّ المطلوب أن يرتقي المجتمع المدني إلى المزيد من المهنيّة والحرفيّة على حساب المستوى السياسي، باعتبار أنّ مهمّته الأساس تكمن في الشراكة والرقابة والتنمية، وفي البناء على المُواطَنة.
ثمّة إشكاليّة في مصادر تمويل المجتمع المدني، لدرجة أنّه متّهم بالتبعيّة لبعض السفارات الغربيّة، على أنّ المطلوب هنا مساعدة الحكومات المحليّة والمؤسّسات الموثوق بمدبّريها مع المُطالبة بالشفافيّة والوضوح في تبيان المداخيل والنفقات. علماً أنّ الدّول التي تعزِّز المجتمع المدني هي بلدان مصنَّفة دولاً متقدّمة، والعكس صحيح. أمّا التطوّر فيحصل تدريجيّاً، مترافقاً مع عمليّة تأهيل قطاعات الإنتاج كالمِهن الحرّة ومؤسّسات الطفولة والإعاقة والبنى الأخرى التي تتخطّى النمط الاستهلاكي إلى الفعل الإنتاجي. ولعلّ قيمة أيّ جهد من هذا القبيل هي أن يتحوّل إلى قوّة – قوّة اقتراح واحتجاج ونقد.
يرى فيلسوف القرن العشرين كارل بوبر في كِتابه “المجتمع المفتوح” أنّ الحضارة الإنسانيّة لم تُفِقْ بعد من صدمة ميلادها التي هي صدمة التحوّل من المجتمع القَبَلي المُغلق (بما في ذلك تأثير القوى السحريّة) إلى المجتمع المفتوح الذي يُطلِق القوى النقديّة لدى الإنسان، ويجعل من ثقافة الشكّ الجذر الرئيس للمعرفة كلّها. لكنّ السؤال المركزيّ الذي يفرض نفسه في حيّزٍ عمرانيّ كمجتمعنا نحن هو: لماذا تأخّر طرح المجتمع المدني لدينا ثلاثة قرون عن أوروبا؟ ألَم تُخرِج أرضُنا نظراءَ لهوبز ولوك وروسّو ومونتسكيو؟ أم أنّ مجتمعنا نبذهم كما فعلت المؤسّسة الدينيّة الأندلسيّة بابن رشد، والمؤسّسة الأزهريّة بعلي عبد الرازق ونصر حامد أبو زيد، والمؤسّسة القذافيّة بالصادق النيهوم، والمؤسّسات العربيّة الأخرى بالمفكّرين الخلاّقين الذين لولاهم لما كان اختراقٌ ولا كانت حضارة؟
هل تخلّفنا إلى هذا الحدّ عن مواكبة ركب التقدّم؟ وهل يصلح الاكتفاء الشعاراتي بالدعوة الخجولة إلى مجتمع مدني لقيط مجهول الأب والأم والبيئة؟ أليس هو نهج حياة نابعاً من البيئة وصابّاً في مصلحتها؟
ربّما كانت نقطة الانطلاق إلى إحداث تغييرٍ جذريّ بل نقلة انقلابيّة في مسيرة المراوحة في بعض الأقطار، ومسيرة التخلّف في بعضها الآخر، أن ينشأ تيّارٌ فاعل مهمّته الأولى تأسيس الاعتقاد بجدوى التقدّم، وبأنّ سنّة الحياة التطوّر. هذا العنوان هو الذي شكّل الانعطافة المعرفيّة الكبرى في التاريخ الأوروبي، بصرف النّظر عن مدى إسهام الأفراد في تحقيق الإنجاز الكبير. وهذا الإنجاز لا ينحصر مطلقاً في تثبيت ثقافة المجتمع المدني فقط، بل إنّه يبدأ بالخروج من ذهنيّة توقير الأسلاف حتّى العبادة، وبالتالي إعادة النّظر في اليقينيّات الكلاسيكيّة فكراً وعِلماً وتربية ومناهج.
نحن لا نحتاج في عمليّة البحث عن المعرفة، إلى استنطاق الفلاسفة المحدثين فقط، وخصوصاً في أوروبا، حَسْبنا أن نمسك بيدنا مُحاوَرة ” طيماوس” لأفلاطون المكتوبة منذ أكثر من ألفَي سنة، ونقرأ فيها ما يلي: ” لو كنّا لم نَرَ النجوم والشمس والسماء، لما نطقنا بكلمة واحدة ممّا قلناه في الكون. أمّا الآن، فإنّ مرأى اللّيل والنهار، وتعاقب الأشهر، ودَورات السنين، قد خَلقَت الأعداد ومنحتنا فكرة الزَّمن، وقدرة البحث في طبيعة الكون… من هذا المصدر استتبعنا الفلسفة، وهي الخير الذي لَم يهب الآلهة الإنسانَ الفاني، ولن يهبوه، خيراً أعظم منه”.
والفلسفة في مقالتنا هذه هي الفلسفة السياسيّة التي جعلت روّاد أطروحة المجتمع المدني يركّزون على المُواطنة باعتبارها ثقافة ومناقب في الدرجة الأولى، كما أنّها، عمليّاً، التزام المواطن تجاه وطنه بالحقوق والواجبات. وثمّة قيَم مفصليّة أربع ترتكز عليها المُواطنة هي:
1- المساواة.
2- الحريّة.
3- المُشارَكة.
4- المسؤوليّة الاجتماعيّة.
يعني مفهوم المواطَنة، في الرؤية الجامِعة، تكريس دولة الإنسان المُوازية في أبعادها لدولة القانون، أي دولة العدالة. ويتطلّب ذلك حَسْم جملة حريّات كحريّة المرأة (أي الحدّ من سلطة المجتمع الأبوي)، والحرّيّات السياسيّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، كما يتطلّب التربية على أنماط سلوكيّة حضاريّة. ومن لوازم دولة المُواطَنة تعميم مؤسّسات المجتمع المدني، وتعميق فكرة الدولة، إذْ لا مُواطنة فعليّة بمعزل عن وجود الدولة الوطنيّة. من هنا التناقض الفاضح بين المُواطنة من جهة والطائفيّة من جهة أخرى.
ثمّة إجراء لا بدّ منه، وهو خروج المسؤولين الرسميّين ومسؤولي المنظّمات غير الحكوميّة من واقع تسليع المُواطَنة في أسواق الإعلام والسياسة والاستهلاك اللّفظي، إلى مرتجى جعلها خارطة طريق وأولويّة وطنيّة – سياسيّة – تربويّة، واجِبة الاعتماد، بحيث يتمّ تغليب الانتماء إلى الوطن على أيّ انتماء جزئيّ آخر. وهكذا يتعذّر فصْل المُواطَنة عن حقوق الإنسان وعن واجباته في آنٍ واحد، لأنّ من وظائف المُواطَنة تعزيز التماسك الاجتماعي وبناء أساس أخلاقي جمْعي لصرح المُواطَنة.
أمّا الدولة المدنيّة المُنبثِقة عن عقدٍ اجتماعي أو ميثاق وطني أو دستور وضعي، فهي في جوهر ذلك العقد أو الميثاق أو الدستور الذي تقوم فذلكته على فكرة الخروج من شريعة الغاب إلى رحاب الدولة التي يتخلّى فيها المواطن عن نزواته الفرديّة ونوازعه الطائفيّة ليندمج في الإرادة العامّة المعبِّرة عن المصلحة العامّة.
إنّ المجتمع المدني ليس مقولة ساكِنة جاهزة للتوظيف، بل هو صيرورة فكريّة وتاريخيّة. وقد تطوّرت هذه المقولة في معناها المُعاصِر لتشمل فئات المجتمع المدنيّة كافّة. وربّما كان الفيلسوف الألماني المعاصر يورغان هابرماس، وخصوصاً في كتابه الخصب “الحقّ والديمقراطيّة بين الوقائع والمعايير”، قد أضاف إلى مواصفات المجتمع المدني المحدَّدة من سابقيه، التركيز على وظيفة الاندماج الاجتماعي التي يضطّلع بها المجتمع المدني من خلال المشروعيّة التي يمنحها لقرارات الدولة وقوانينها. والقرارات تلك لا تتحقّق، في رأي هابرماس، إلاّ إذا كانت القوانين نتاج تداول عقلاني ينطلق من المجتمع إلى مراكز القرار المتمثّلة بمؤسّسات الدولة.
والواضح من خلال هذه المرحلة الطويلة من تبلْور مفهوم المجتمع المدني، وظيفته السياسيّة؛ إذْ ليس من معنى للمجتمع المدني خارج سياق المعركة من أجل الحريّات والمُواطَنة والديمقراطيّة والعدالة والمساواة. كما أنّ محاولة فهمه خارج هذا السياق السياسي هي تفريغ له من حوافزه النقديّة المحرّكة للبنى الاجتماعيّة المتطلّعة إلى التغيير. لكنّ هذا التغيير لا يُمكن أن يأتي على حطام الدولة، فمعركة المجتمع المدني هي معركة ضدّ الاستبداد والتسلّط لا ضدّ الدولة، ويستحيل، في الأحوال كلّها، تصوّر مجتمع مدني خارج الدولة أو من دونها (أنظر: مصطفى إن شاء الله، المجتمع المدني: حدود المفهوم عند يورغن هبرماس، 2017).
إنّ دَور هابرماس الأخير، ودَور المتقدّمين عليه من الفلاسفة البريطانيّين والفرنسيّين الذين سبق ذكرهم، يجب ألاّ يُنْسيانا دَور الفيلسوف الناقد للعقل المحض. فقبل كانط، كان ثمّة توجّه إلى الفصل بين الأخلاق والسياسة، حيث كان الخروج من اضطراب الحروب الدينيّة إلى سِلْم المجتمع المدني يفرض دفع ثمنَيْن: تركيز السلطة في يد الحاكِم، وتحييد المُعتقدات عن المجال العامّ وحصرها في الشؤون الخاصّة. لكنْ بعد قرنَين من هوبز Hobbes، أعاد كانط إحياء دَور الأخلاق في السياسة بمنحها مرتبة العقل العمليّ، الذي على تشريعات الدولة أن تخضع له أخلاقيّاً.
أمّا جون لوك Locke، فأراد كتابه “في الحُكم المدنيّ” أن يجعل من الدولة حامياً لحريّات الأفراد وحقوقهم الطبيعيّة الأولى، فلا تظلّ سلطتها مشروعة وطاعتها واجبة إلاّ بقدر حرصها على صيانة تلك الحريّات والحقوق، وإلاّ فمقاوَمتها مشروعة وواجِبة (أنظر محمّد بدوي، أمّهات الأفكار السياسيّة الحديثة وصداها في نُظُم الحُكم، 1958). وفي إطلالة على بعض الطرح الحديث في الولايات المتّحدة، يسترعي الانتباه كِتاب “الجمهوريّة المُمزّقة” (تجديد المجتمع المدني الأميركي في عصر الفرديّة). كما يتّضح لنا تقاطُعُ الأطروحة الأميركيّة مع قَول المؤلّف يوڤال ليڤن إنّه عبر معانقة التعدّديّة، ورفض التطرّف والحنين إلى الماضي الغابر فقط، يُمكن النهوض بالمجتمع واستعادة التماسك الاجتماعي والحيويّة الشعبيّة (Levin, Yuval, The Fractured Republic,2016).
لا ريب أنّ في دُول العالَم الثالث كيانات محليّة تطفو على سطحها زُمَرٌ تظهر بمظهر مرجعيّة طائفيّة تفرض على أعضائها التزام العقيدة ومُمارَسة الشعائر، أو على الأقلّ التظاهر بهما، بصرف النّظر عن اقتناعاتهم الشخصيّة، وذلك تعبيراً عن ولائهم لها. ويعني هذا أنّ الزمرة المرجعيّة – كما يقول روبير بندكتي – وهي القِبلة لهذا الولاء المدني – المذهبيّ المُندمج، تضفي على أعضائها هويّة مدنيّة ومذهبيّة، حيث يتوقّف الانتماء المدنيّ إلى البلدة على الانتماء المذهبيّ، علماً أنّ أعضاء هذه الزمرة المرجعيّة الطائفيّة لا يميّزون بين هذَين البُعدَين، إذْ لا يتصوّرون استقلال المجتمع المدني عن الجماعة المذهبيّة، لأنّ هذَين البُعدَين يظلاّن مُرتسمَين في صورةٍ ذهنيّة واحدة، وكأنّهما يترابطان بعلاقات الاحتواء المُتبادَل( روبير بندكتي، الهويّة بين المجتمع المدنيّ والجماعة الطائفيّة، 2012).
لقد آن الآوان في المجتمعات غير المدنيّة لإحداث الصدمة الإيجابيّة الكبرى التي سبق لمنظّر الحداثة الكبير علي أحمد سعيد أن دعاها “صدمة الحداثة”، من دون أن يعني ذلك أنّ الدولة المدنيّة مجرّد استحقاق عابر، نستنسخ من خلاله النموذج الغربي. إنّ مجرّد تحقيق المجتمع المدني لا ينقل هذه الكيانات من العالَم الثالث إلى العالَم الأوّل، لأنّ النقلة الحضاريّة بنية ذهنيّة وإجرائيّة – وهي حتّى بعد حصولها – تتطلّب عقوداً للّحاق بركب التقدّم الهائل، فضلاً عن أنّها قد تأتي متأخّرة ليس لعقودٍ بل لقرون. ولكنْ أنْ نؤتاها متأخّرة خير من ديمومة الخسران.
*أستاذ الفلسفة والحضارات في الجامعة اللّبنانيّة
قم بكتابة اول تعليق