أفق – إميل أمين*
أَلقت حادثة مسجدَيْ مدينة “كريست تشيرش” في نيوزيلندا في منتصف آذار(مارس) 2019 بتساؤلات عدّة عن جذور العنصريّة، عطفاً على فروعها، وعمّا إذا كنّا أمام ظاهرة حديثة لم تَعرفها الإنسانيّة من قبل أو أنّنا إزاء فعلٍ متكرِّر عبر التاريخ، وإنْ بأثواب مُختلِفة؟
المؤكَّد أنّ الأيديولوجيّات والمُمارسات العنصريّة ليست وليدة الأمس، بل هي متأصِّلة في الجنس البشري منذ البدايات الأولى للخليقة، الأمر الذي يتبدّى لنا جليّاً من قصّة ابنَي آدم عليه السلام.
تاريخيّاً، الادّعاء العنصري بمعناه الحصري، أي من حيث هو شعور بالتفوّق البيولوجي لعرقٍ أو لإثنيّة على أخرى، قد نما خصوصاً منذ الاستعمار والاستعباد الذي مورِس في مطلع العصر الحديث؛ فإذا ما استعرَضنا تاريخ الحضارات الكبرى السابقة، سواء في الغرب أم في الشرق، في الشمال أم في الجنوب، لا بدّ من أن نلحَظ، منذ ذلك الحين، سلوكيّات ومُمارسات اجتماعيّة مُجحفة وعاملة على التَّفرقة والتشرذم.
هل الذي جرى في نيوزيلندا هو أمر على علاقة بالعنصريّة فقط أو أنّ هناك أبعاداً أخرى تكشف عنها مُلابسات تلك الجريمة ومَشاهدها في حال جرى تفكيكها؟
يُمكن القطع بأنّ هناك بُعداً آخر، هو الرّهاب من الإسلام أو الإسلاموفوبيا، اتَّضح بشكلٍ مؤكَّد من خلال الأوراق التي تركها السفّاح، وكأنّها مانيفستو للدّفاع عن توجّهاته العنصريّة الممزوجة بكراهيّةٍ تاريخيّة للإسلام والمُسلمين.
على أسلحته الفتّاكَة كتبَ الإرهابي “برينتون تارانت” أسماءً قد تبدو ضرباً من ضروب اللّوغاريتمات بالنسبة إلى العوام، لكنّ الذين لديهم عِلم، من كُتّاب التاريخ الإنساني، يُدركون معنى الاستشهاد بها ومَبناها.
استحضر من التاريخ القديم اسم “شارل مارتيل”، أحد ابرز القادة العسكريّين الفرنسيّين الذي لمع نجمه في القرن الثامن الميلادي عبر معركة “بواتييه الشهيرة” والمعروفة باسم “بلاط الشهداء”، تلك المعركة التي أوقفت الفتوحات العربيّة في أوروبّا.
استخدمَ أيضاً اسم “فيليكس كازيميرز بوتوكي”، النبيل البولندي والقائد العسكري الذي خاضَ عدداً من الحروب ضدّ التتار والأتراك، كما شاركَ في معركة فيينا في العام 1683 وقاد الشعب البولندي فيها.
توقَّف كذلك عند الرقم 1683، حيث يخبرنا التاريخ بوقوع معركة بين الدولة العثمانيّة وتحالُف أوروبي مسيحي تشكَّل ساعتها من القوّات البولنديّة والألمانيّة والنمساويّة، وحاصرَ فيها العثمانيّون فيينّا مدّة شهرَين، إلّا أنّ فرنسا أرسلت دعماً عسكريّاً لذلك التحالف وانتهت المعركة بهزيمة العثمانيّين.
عرَّج إرهابيّ نيوزيلندا أيضاً على حروب “الفرنجة”، كما سمّاها العرب، أو الحروب الصليبيّة، كما ردَّدها الغرب، وتوقَّف عند واحدة من الحملات ذات الدلالات الكبرى، كانت تلك الحملة الثالثة 1189، بقيادة فريدريك بربروسا إمبراطور ألمانيا، وفيليب الثاني أغسطس ملك فرنسا، وريتشارد قلب الأسد ملك إنكلترا.
هَدفت الحملة إلى إعادة السيطرة على الأرض المقدَّسة بعدما عاد ليُسيطر عليها الأيوبيّون بقيادة صلاح الدّين الأيّوبي في العام1187، وأسفرت عن استرداد الصليبيّين السيطرة على عكّا وفشلهم بالسيطرة على القدس.
استخدمَ القاتل كذلك أسماء عدد من الإرهابييّن المُحدثين الذين قاموا بأعمال عنف وإرهاب أدَّت إلى إزهاق أرواحٍ في كلّ من كندا وإيطاليا وغيرها من الدول الأوروبيّة.
هنا يطفو تساؤلٌ على السطح: “هل هذا قاتل وسفّاح عشوائي أو أنّه رجل يفكّر ويعي التاريخ، وإن بشكلٍ عنصري، ويتوقّف كثيراً عند نقاط الصّدام التاريخيّة بين الإسلام والغرب ويَسعى جاهداً لإثارة الأحقاد والضغائن التاريخيّة التي يسعى الجميع الآن، شرقاً وغرباً، إلى تجاوزها، ومحاولة بناء عالَم إنساني من السلام والأمن والطمأنينة؟
لم يكُن عملاً فرديّاً
الحادث المُدان من الجميع لم يُكن، حُكماً، عملاً فرديّاً. فدقّة التخطيط وحبكة الإخراج الإرهابي، ناهيك بالقتل بدم بارد..، هذه التصرّفات كلّها تؤكِّد أنّنا أمام رؤية منظَّمة، وغالباً ما خرجت من بنات أفكار المُصابين برهاب الإسلام، الذين يرون أنّ المُسلم إرهابي بالضرورة، وفي أفضل الأحوال هو مشروع إرهابي، ولهذا ربّما يتوجَّب الخلاص منه، أو اتّباع النَّهج الأميركي القديم مع الهنود الحمر، طريق الأرض المحروقة والمُطهَّرة من البشر والحجر لدفعهم خارج الأُطر والسياقات الديموغرافيّة للرجل الأبيض وحيثما وُجِد.
وبالنّظر إلى مساحة الأرض في نيوزيلندا، وقلّة عدد السكّان، يبدو أنّه ليس هناك مسألة تزاحُم على الثروات المحدودة، إنّما هناك ضيق الأصوليّات الذي ينشأ بداية في العقول، ثمّ يتسرَّب منها إلى الأفئدة، ليتبلور لاحقاً في رصاص الكراهيّة وطعناتها.
ولعلّ التعاطي بهذا القدر من الكراهيّة مع الهجرة والمُهاجرين، مع الأخذ بعَين الاعتبار أنّ القاتل هنا مُهاجرٌ بدَوره ، وأنّ أهل الأرض الحقيقيّين من جنس الأبورجونيز أضحوا ندرة تُعرض في متاحف بشريّة مفتوحة حتّى الساعة، لعلّ ذلك يقودنا إلى كارثة عنصريّة تتمثّل في فكر “الإتنوسنتريّة”، ويُلامِس حدود الإكزينوفوبياً أي رهاب الأجانب، وهي حالة كثيرة الشيوع، قوامها جنوحٌ طبيعي عند شعب ما إلى الذّود عن هويّته بالطعن في هويّة الآخرين، حتّى لينكر عليهم، ولو رمزيّاً، كمال صفتهم البشريّة؛ مثل هذا التصرُّف يعكس بلا مراء عند أصحابه حاجة غريزيّة إلى حماية القيَم والمُعتقدات والعادات المَرعيَّة عندهم، ويشعرون أنّها مهدَّدة في مُواجَهة الحضارات الأخرى.
هل يُمكن لتيّار “الإتنوسنتريّة” أن يَستجلب مَوجات دمويّة كما رأينا في نيوزيلندا؟
يبدأ الأمر من خلال ظاهرة عنصريّة عفويّة نلاحظها عند سكّان البلاد التي يقصدها المُهاجرون واللّاجئون في علاقتهم بالغرباء، وخصوصاً إذا كان هؤلاء من غير إثنيّتهم ومن غير دينهم.
لكنْ رويداً رويداً وبفعل ضغوطٍ من بعض رجالات السياسة وأصحاب المَصالِح وألاعيبهم، تسود نظرة سوداويّة مقصودة تجاه المُهاجرين، تَظهر في البداية بمَظهر القوميّة المتطرّفة التي تتخطّى حدود الاعتزاز المشروع بالوطن، وحتّى حدود التعصُّب السطحي، وتتحوّل بكلّ تأكيد وتحديد إلى “إكزينوفوبيا” أشدّ هَولاً من الإسلاموفوبيا، بمعنى عنصريّة طارِدة لكلّ أجنبي، مهما يكُن لونه أو جنسه، عرقه أو دينه، ويتذكَّر المرء أنّ أوّل ضحيّة لانتقامٍ عرقيّ من الأجانب جرت في الولايات المتّحدة الأميركيّة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) كان مصريّاً قبطيّاً؛ فقد نظرَ إليه اليمينيّون الأميركيّون بوصفه عربيّاً وأجنبيّاً ومُهاجراً، والضحيّة التالية كانت مُهاجراً من الهند، ينتمي إلى السيخ بشكله ومَلامحه المميّزة التي لم يدركها المتطرّفون، فأردوه قتيلاً من منطلق أنّه مُلسم شرق أوسطيّ.
العنصريّة وانتخابات البرلمان الأوروبيّ
هذه المَواقف الذميمة تنبع من الخوف الغريزي الذي تولِّده غالباً مُواجهة الغير ومُجابهة التبايُن، ويكون إذ ذاك غرضها المُعلن أو المكتوم أن ينكر على الغير حقّه في أن يكون هو ذاته، أو في كلّ حال، أن يكون هو ذاته “عندنا”.
أفرزت المتغيّرات السياسيّة والتطوّرات أو التدهورات الاقتصاديّة حول العالَم أجنحة متطرّفة عديدة، ولا نوفِّر هنا الاتّهام لأقطابٍ دوليّة تلاعَبت بالأديان وبأتباعها في معاركها المُختلفة، ولاسيّما داخل دائرة صراع الأيديولوجيّات الذي دار في القرن الماضي. وها هو العالَم يجني بعضاً من ثمار العزف على أوتار المُطلقات، الأمر الذي لا يجوز في الحال أو الاستقبال، بل يولِّد كوراث ويَستحضر ذكريات مؤلِمة تؤجِّج النيران في الصدور والعقول.
منذ منتصف خمسينيّات القرن الماضي، نسجت الولايات المتّحدة الأميركيّة شباكها على جماعة الإسلام السياسي كأداة لوقْف الزحف الشيوعي في الشرق الأوسط، لكنّ ذلك أفرزَ تيّاراً أصوليّاً راديكاليّاً أَنتج “القاعدة” وتالياً “داعش”، اللّذَين قاما بعمليّات إرهابيّة انتقاميّة في أوروبا وأميركا وأستراليا، وكان لا بدّ من ردّات فعل قوميّة وأصوليّة يمينيّة، وها هي الدائرة المُهلِكة بين الفعل والردّ عليه تمضي في غير هدى، ويخشى المُراقبون أن تاتي انتخابات البرلمان الأوروبي في شهر أيّار (مايو) المقبل بأغلبيّة من أنصار القوميّات والشوفينيّات الأوروبيّة الكفيلة بجعْل علاقة القارّة القريبة من العالَم العربي في واحدة من أسوأ مراحلها التاريخيّة.
وما بين الإسلاموفوبيا والـ”إكزينوفوبيا”، تبقى علامة الاستفهام الأخيرة قبل الإجابة عن سؤال: ما هو الحلّ؟
لا مناصّ من أن تموت العنصريّة في القلوب بادئ ذي بدء، وحال حدوث ذلك، سوف تختفي تلقائيّاً من النصوص القانونيّة، ولكنْ لا بدّ من العمل أيضاً بطريقة مباشرة على صعيد التشريعات الأمميّة والإقليميّة والمحليّة، فحيث لا تزال قائمة قوانين الفرقة، يجب على المُواطنين الذين يدركون خبث مثل هذه الإيديولوجيا أن يضطّلعوا بمسؤوليّاتهم كي يتمّ التناغُم، بالطُّرق الديمقراطيّة، بين القانون والشريعة الأدبيّة. فمن ضمن حدود الدولة الواحدة، يجب أن يكون القانون مُتساوياً بين جميع المواطنين بلا تمييز، ولا يسوِّغ لفئة سائدة، في أيّ حالٍ من الأحوال، سواء أكانت أكثريّة عدديّة أم أقليّة، أن تتحكَّم على هواها بالحقوق الأساسيّة للمجموعات الأخرى. ومن المهمّ أن يعترف للأقليّات الإثنيّة أو اللّغويّة أو الدينيّة القاطنة داخل حدود البلد الواحد، بالحقوق الرّاسخة ذاتها التي يتمتّع بها سائر المُواطنين، ومن ضمنها حقّ العيش بعضهم مع بعض طبقاً لخصوصيّاتهم الثقافيّة والدينيّة؛ وأمّا اندماجهم في محيطهم الثقافيّ، فيجب أن يتمكّنوا من تحقيقه بملء حريّتهم.
الخلاصة العنصريّة لا تفيد …. الحوار والجوار هُما الحلّ في عصر الجائحات الدمويّة داخل نيوزيلندا وخارجها.
*كاتب وباحث من مصر
قم بكتابة اول تعليق