د. رفيف رضا صيداوي*
“الولايات المتّحدة. ترامب يعاقِب الفقراء”، هو عنوان حوار نشرته دوريّة “الكورييه إنترناسيونال” الفرنسيّة في عددها الصادر في 21- 27 حزيران (يونيو) 2018 – العدد 1442، أجرته الكاتِبة والصحافيّة الأميركيّة جيني جارفيJennie Jarvy مع المقرِّر الخاصّ للأمم المتّحدة فيليب ألستون Philip Alston، المعنيّ بشؤون الفقر المُدقع وحقوق الإنسان، حول الفقر في الولايات المتّحدة. وقد اختارت نشرة “أفق” أن تتولّى ترجمةً غير حرفيّة لمضمون هذا الحوار الذي أجرته صحيفة لوس أنجلوس تايمز مع ألستون، ونشرت دوريّة الكورييه إنترناسيونال مقتطفات منه.
كان فيليب ألستون، أستاذ القانون في جامعة نيويورك، قد قدّم تقريره عن أحوال الولايات المتّحدة في 21 حزيران (يونيو) الفائت أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأُمم المتّحدة في جنيف، بُعيد زيارته الولايات المتّحدة في نهاية العام 2017. وكان قد اتَّهم في تقريره هذا حكومة الرئيس ترامب بتعميق اللّامساواة في الولايات المتّحدة الأميركيّة من خلال مكافأة الأغنياء ومُعاقبة الفقراء، قائلاً: ” الحُلم الأميركي هو في صدد التحوّل بسرعة إلى الوهم الأميركي”.
من أبرز ما أورده في هذا المجال قوله عن الولايات المتّحدة: إنّ “المساواة في الفُرص فيها، المألوفة جدّاً من الناحية النظريّة، ليست سوى أسطورة من ناحية المُمارَسة، ولاسيّما بالنسبة إلى الأقلّيات والنساء، وأيضاً بالنسبة إلى أعداد كبيرة من العاملين البيض المُنتمين إلى الطبقة الوسطى”.
وعندما سُئل المقرِّر الخاصّ للأُمم المتّحدة عمّا إذا كان قد فكَّر ذات يوم بأن تكون الولايات المتّحدة من بين خارطة البلدان التي سيغطّيها تقريره، أسوة بالبلدان التي كتب تقاريره عنها منذ تولّيه مَهامّه في الأُمم المتّحدة، شأن هاييتي والصين وغانا، أجاب بالنفي؛ إذ كان يظنّ أنّ مشكلات الفقر أعمق في بلدان أخرى، ثمّ سرعان ما أدرَك مع مرور الوقت أنّ الولايات المتّحدة هي أرض التناقضات، وأنّها تُركِّز الثروات كلّها في بعض المناطق، فيما تركِّز فقراً مُذهلاً في مناطق أخرى.
أمّا أبرز تجسيد لهذه الصورة، فهو في تلك التناقضات القائمة بين حيّ الأعمال وحيّ المشرّدين “سكيد روو Skid Row ” في مدينة لوس أنجلوس. فعلى الرّغم من إمكانيّة رؤية ترف الأحياء المُجاوِرة، انطلاقاً من حيّ المشرّدين، إلّا أنّ هذا المجال الجغرافي يأوي حشداً من الناس الذين يفتقرون إلى المَوارد وغير المجهّزين حتّى بحمّامات عامّة. الطرقات “يفوح منها البول واليأس”، لأنّ السلطات العامّة تأبى الإتيان بإنفاقٍ ذي حجم من شأنه مُعالَجة المشكلة.
وتابع ألستون سرد مشاهداته بعدما جاب الولايات المتّحدة لمدّة اثنَي عشر يوماً، مُشيراً إلى المُشرّدين في كاليفورنيا، والتفاوت العرقي في ولاية ألاباما والنقص في الخدمات الأساسيّة، مثل إزالة القمامة من ضواحي المُدن الكبرى، ناهيك بغياب شبكات الصرف الصحّي. أمّا إقليم بورتوريكو، التّابع للولايات المتّحدة، من دون أن يكون مُدمجاً فيها، فكان سيغدو البلد الأفقر في أميركا لو كان دولة مستقلّة(…).
المحطّة التالية بعد بورتوريكو كانت فرجينيا الغربيّة، حيث لاحَظ المقرِّر الخاصّ للأُمم المتّحدة أنّ أعداداً كبيرة من السكّان هناك تفتقر إلى تأمين صحّي، إلى جانب الشحّ الكبير في الخدمات المقدَّمة من السلطات العامّة، سواء في قطاع الصحّة أم في قطاعات أخرى مثل الوصول إلى الإنترنت وغير ذلك…
الحكومة الترامبيّة والفقراء
من ناحية ثانية، وعندما سُئل ألستون عن التدابير الجديدة التي اتّخذتها حكومة ترامب، ولاسيّما منها تلك التي من شأنها أن تُهدِّد الفقراء، أجاب: ” المشروع الرئيس لحكومة ترامب هو نشر فكرة أنّ الذين يستفيدون من معظم الإعانات يُمكنهم- ويجدر بهم- أن يعملوا. وهذا الكلام يُترجَم بالجهود المنصبَّة لإلحاق المساعدات الاجتماعيّة المُختلفة بعملٍ ما، أو بنشاطٍ تطوّعي، أو بمتطلّبات تدريبيّة؛ بحيث بدأت هذه التدابير الجديدة تؤثِّر على بَرنامج المساعدة الطبّية [ البرنامج الفدرالي للتأمين الصحّي للأشخاص محدودي الدخل]، وعلى المساعدات الحكوميّة للسكن وبطاقات التغذية”.
في رأي ألستون، سوف تؤثِّر هذه التدابير سلباً على ملايين من المُستفيدين، إذ ” تزعم الحكومة أو تدّعي أنّ الوظائف بدوامٍ كاملٍ مُتوافِرة على نطاقٍ واسع في البلد، وأنّ هؤلاء الناس جميعهم يُمكنهم العمل متى شاؤوا. لكنْ في الواقع، ثمّة عددٌ كبيرٌ من العاملين الذي لا يتقاضون أجراً كافياً يَسمح لهم بالبقاء، وهُم يحتاجون إلى بطاقات تغذية وتأمين صحّي”. ويضيف: ” ليس بالعمل بشكلٍ تطوّعي إلى حدود 30 ساعة في الأسبوع، (بحسب الكلام الذي يتمّ في ضوئه تشجيعهم على العمل)، يُمكن لهؤلاء الناس أن يتدّبروا حاجاتهم وكفايتهم”.
في الولايات المتّحدة الآن ثمّة خياران بحسب ألستون: إمّا تخفيض قيمة الضرائب الذي يُسهِم في إثراء الأغنياء، لكنّه يُضعِف الميزانيّات المستقبليّة، أو اختزال المَكاسِب الاجتماعيّة. لكنّ حكومة ترامب، برأيه، تُطبِّق حاليّاً الخيار الثاني، وذلك انطلاقاً من مبدأ أنّ المُدخّرات المتحقِّقة على هذا النحو من شأنها تمويل الانخفاضات في الضريبة. وهذا ما اعتبره ألستون ” كمُحاوَلة متعمّدة لمُعاقبة الفقراء”، انطلاقاً من مسلّمة أنّ الفقراء كسالى ويستحقّون القليل، ومن أنّ على الحكومة أن تعاقبهم بإعطائهم أقلّ ما يُمكن.
بين زَمنَيْ جونسون وترامب
عن سبب عدم تقدُّم الولايات المتّحدة لجهة القضاء على الفقر منذ ستّينيّات القرن الفائت، ومنذ الحرب التي شنَّها الرئيس الأميركي جونسون في العام 1964 ضدّ الفقر، أجاب ألستون أنّ ” المُحافظين عملوا من دون كَلل على وصْم المُساعَدة الاجتماعيّة للمحرومين وعلى نزْع الشرعيّة عنها، وذلك على الرّغم من استمرار تلقّي الأغنياء من الدولة الكثير من المال من دون أن يرى أحدٌ في هذا الأمر ما يُثير الخجل”.
وعليه، توصّل المقرِّر الخاصّ للأُمم المتّحدة إلى أنّ الولايات المتّحدة ” تُظهِر أكبر عدم مساواة بين الدول الغنيّة؛ حيث معدّل دخول السجون لديهم هو الأكثر ارتفاعاً، وحيث معدّل وفيّات الأطفال لديهم هو الأقوى، وحيث يزداد كذلك معدّل فقر الشباب، فضلاً عن أنّ نسبة التسجيل على اللّوائح الانتخابيّة هي من النِّسب الأكثر ضعفاً؛ ما يعني، أنّ الولايات المتّحدة تسجِّل، على جميع الصعد تقريباً، نتائج سيّئة للغاية بالنسبة إلى الدول الأخرى المتطوّرة”.
يُتابع ألستون كلامه قائلاً: “منذ عام، كنتُ في الصّين، واكتشفتُ بلداً يعاني من مشكلات كبرى في ما يتعلّق بحقوق الإنسان، غير أنّه بذَل جهوداً حقيقيّة للقضاء على الفقر ونجحَ في ذلك إلى حدٍّ كبير. من الآن ولغاية العام 2020، لن يكون للصين سكّانٌ يعانون من فقرٍ مُدقع، وذلك بعكس الولايات المتّحدة. وعلى الرّغم من أنّني أبعد ما أكون عن القول إنّ النظام السياسي الصيني هو نظام مرغوب به أو حتّى مُنسجم مع المعايير الديمقراطيّة، إلّا أنّني سأكون مُبتهجاً برؤية الحكومة الأميركيّة وهي تُبدي العزم نفسه من أجل إخراج مواطنيها من فقرهم المُدقع”.
هكذا أَمَل ألستون أن تُغيِّر الولايات المتّحدة سياساتها من أجل تقليص الفقر بشدّة، وإلّا شعرت نسبة متزايدة من المواطنين بأنّها مُهمَّشة، وبأنّ الدولة أو النّظام لا يقومان بأيّ عمل من أجلهم. وهذا ما سيقود إلى إضعاف الديمقراطيّة، لأنّ غياب سياسات تؤمِّن لهؤلاء الناس الأُسس المبدئيّة للرفاهيّة، ستدفعهم إلى عدم إيمانهم بعمليّة التصويت من جديد.
وفي النهاية، اعتبرَ ألستون أنّ الولايات المتّحدة “هي في صدد خلْق مشكلات ضخمة”، وأنّ سياستها ” قصيرة النظر”. وفي رأيه أنّ “المواطنين الأكثر ثراءً- وليس نسبة الواحد في المائة فقط بل نسبة العشرين في المائة- التي سوف يكنزون أو يدخّرون الأرباح أكثر فأكثر، سوف يمتصّون جزءاً متزايداً من ثروات البلاد. لكنْ، على المستوى السياسي، هذا الوضع غير قابل للحياة. الاضطّرابات المتولّدة منذ انتخاب ترامب، من خلال إبعاد مؤسّسات هي بمثابة مفاتيح للمجتمع، ستتفاقَم مع ازدياد الفروقات في الثروة. نحن نبني مجتمعاً تُسيطِر فيه الثروات والامتيازات على كلّ ما عداها، وحيث يتجّه عددٌ متزايد من الخدمات العامّة نحو الخصْخصَة”.
*مؤسّسة الفكر العربي
قم بكتابة اول تعليق