أفق – د. لبنى الأمين*
يجيبني كثيرون، ردّاً على قولي إنّني أدرسُ الفكر الكنفوشيوسيّ السياسيّ القديم، أنّهم لا يعرفون شيئاً عن الكنفوشيوسيّة. لكنّني أنا كذلك لم أكتشف الكنفوشيوسيّة إلّا عندما بدأتُ الدراسات العليا في الولايات المتّحدة، أي في وقت متأخّر إلى حدٍّ ما، وقد يبدو الاكتشاف، بحسب وجهة النَّظر، إمّا صدفة أو نتيجة ضروريّة لشيء كنتُ أبحث عنه.
كنتُ أبحث عن تاريخٍ للفلسفة مختلف، ليس حكراً على الغرب كما كانت الفلسفة وما زالت، في البلدان الغربية كما في البلدان الشرقية. نتعلّم في صفوفنا أنّ الفلسفة تبدأ مع سقراط وأفلاطون وأرسطو، وتنتهي في القرن العشرين مع جان بول سارتر وميشال فوكو وجون رولز، مروراً بفلاسفة ذوي شهرة كبيرة كجون لوك وجان جاك روسو وكارل ماركس. رواية كاملة مُحكَمة نتلقّنها عن أفكار هؤلاء الفلاسفة حول الحياة والأخلاق والسياسة والمجتمع وعن العلاقات المعقّدة التي تربط بينهم وبين أفكارهم، حتّى يبدو أنّها تفسِّر الإنجازات البشرية المفصليّة كلّها وتلخِّص جوهر الفكر الإنسانيّ.
غير أنّ المفكّرين هؤلاء لا يمثّلون إلّا جزءاً محدوداً من شعوب العالَم، فهل يُمكن أنّ شعوباً بأكملها، عربية وآسيوية وأفريقية، لم تُنتِج فكراً يرتقي إلى مرتبة الفلسفة خلال أكثر من ألفَي سنة؟
هذا السؤال هو الذي شغلني، كواحد من الأسئلة التي نطرحها على أنفسنا، نحن الذي كبرنا في الشرق وتعلّمنا عن الغرب فسعينا إلى فهم العلاقة بينهما. وكان من المُمكن أن يحملني هذا السؤال إلى دراسة عالَمنا العربي والإسلامي، وقد يبدو بالفعل هذا الخيار الأكثر طبيعيّة، إنْ بسبب اللّغة أو بسبب الألفة التي تربطني بهذا العالَم وتفصل بينه وبين الصّين. فباستثناء مبادراتٍ للتواصل في منتصف القرن العشرين بين بعثاتٍ صينية وجامعة الأزهر في مصر، بقي التواصل الفكري والثقافي بين الصّين والعالَم العربي محدوداً في القرن الأخير. فلماذا إذن اخترتُ طلب العِلم عن الصين؟
السبب الأوّل هو أنّني أردت أن أخرج من العالَم العربي قليلاً وعن المسار الذي يتبعه كثيرون في دراسة بلادهم وقيَمهم، أي أنفسهم، وهي ظاهرة في العمل الأكاديمي والبحثي لا تقتصر على العالَم العربي بل هي شائعة في بلاد الشرق، وتُشجِّعها الجامعات الغربيّة التي غالباً ما تطلب من الطلّاب الشرقيّين دراسة المناطق التي ينتمون إليها، والتي يفتقر الغرب المعرفة عنها.
أمّا السبب الثاني فهو أنّ الفلسفة الصينية ظهرت حوالى الفترة نفسها التي ظهرت فيها الفلسفة اليونانية القديمة، أي بين القرن السادس والقرن الثالث قبل الميلاد. وهي منذ ظهورها، ولمدّة تُقارِب الألفَيْ سنة، نمت بمعزل عن الغرب، إذ لم يبدأ تأثير الأخير على التيّارات الفكريّة في الصين إلّا مع وصول الإرساليّات اليسوعية إليها في القرن السادس عشر. وهذه العزلة الفكرية الصينيّة، على الأقلّ بالنسبة إلى الغرب (إذ كان للصين تواصلٌ فكريّ كبير مع الهند مثلاً)، تسمح بإعادة التفكير بتاريخ الفكر، وبإعادة التفكير ببداياته بالتحديد. فبحسب الرواية الغربية، ليس سقراط وأفلاطون وأرسطو أوائل الفلاسفة فقط، ولكنّهم أيضاً مشيّدوها. بدأت معهم كلّ الأفكار الفلسفية المحورية من فكرة الفلسفة نفسها إلى أفكار كالحقيقة والعدالة والفضيلة والحريّة. وهذه السرديّة تجعل من الأفكار هذه ليس بديهيّة فقط ولكن ضروريّة أيضاً، إذ هي كانت وما زالت الوحيدة. ولكنّ أفكاراً أخرى لم تكُن مُمكنة بالمبدأ فقط، بل كانت مُمكنة فعليّاً. ففيما كان سقراط وأرسطو وأفلاطون ينتجون أفكارهم هذه التي أصبحت ضرورية، كان فلاسفة مختلفون، في بقعة بعيدة من العالَم، ينتجون أفكاراً أخرى ويؤسِّسون لتاريخٍ فكريّ مختلف.
وقبل تقديم بعض المقتطفات من هذا الفكر، أتوقّف هنا عند نبذة تاريخية سريعة لعلّها تفسِّر الوسط السياسي والاجتماعي الذي تجلّى خلاله. وكما ذكرت سابقاً، فإنّ الكنفوشيوسية ظهرت حوالى القرن السادس قبل الميلاد، بظهور كنفوشيوس نفسه. والفترة الفاصلة بين القرن السادس والقرن الثالث قبل الميلاد، والتي ظهر فيها أيضاً المُريدان الأساسيّان لفكر كنفوشيوس وهُما منسيوش وشونزى، كانت حقبة تحوّلات سياسية واقتصادية واجتماعية كبيرة في بلاد الصين (التي تضمّنت وقتها مساحة كبيرة تقع على ضفّتَي النهر الأصفر، في شمال شرق جمهورية الصين الشعبية اليوم). أتت هذه الفترة في أعقاب انهيار حكم سلالة الجو، التي حكمت المنطقة حوالى ٨٠٠ عام، وحلّت محلّها دويلات صغيرة تنازعت على السلطة.وبسبب انهيار النظام الإقطاعي الذي حكمت من خلاله سلالة الجو، عرفت هذه الفترة حراكاً اجتماعياً كبيراً مهَّد لظهور حركاتٍ فكريّة متعدّدة كانت الكنفوشيوسية تيّاراً واحداً منها (ولكنّه التيّار الذي فاز بتبنّيه من قبل السلالات الحاكِمة اللّاحقة).ولم تتوحّد الدويلات الصينية تحت حُكمٍ إمبراطوريّ من نوعٍ جديد إلّا سنة ٢٢١ قبل الميلاد تحت حكم التشين الذين لحقهم سريعاً الهان، والهان هُم الذين جعلوا من الكنفوشيوسية أساساً لشرعيّة حكمهم فاستمرّ الحكّام الصينيّون في ذلك أكثر من ألفَي سنة، أي حتّى الحقبة الماوية في القرن العشرين. ومع فشل الشيوعية كأساس للحُكم، تعود الكنفوشيوسية تدريجاً إلى واجهة الحُكم في الصين اليوم، والدليل على ذلك، على صعيد العلاقات الدوليّة، اهتمام الحكومة الصينية في السنوات الأخيرة بإنشاء المعاهد الكنفوشيوسية في بلدان كثيرة، منها بلدان عربية.
يصعب تصنيف الكتابات الكنفوشيوسية في ميدانٍ معرفيّ محدَّد. فهي ليست فلسفية بمعنى أنّها لا تقدِّم حججاً تدافع من خلالها عن أفكارها كما يفعل أفلاطون مثلاً. وهي ليست دينيّة إذ هي تخلو بصورة شبه كاملة من الميتافيزيقيّات، فتكون بذلك مختلفة أشدّ الاختلاف عن التيّارات الآسيوية الأكثر شهرة كالبوذية. هي أقرب ما تكون إلى فكرٍ مجتمعيّ يرنو إلى توسيع علاقة الأفراد الواحد بالآخر. وسأركّز هنا على أحد أهم ركائز الفكر الكنفوشيوسيّ، ألا وهو فكرة الطقوس.
الطقوس ركيزة الفكر الكنفوشيوسيّ
يفضِّل كنفوشيوس حُكم الطقوس على حُكم القانون، أي أن يتمّ تنظيم المجتمع من خلال تقاليد مُتوارَثة من جيلٍ إلى جيلٍ بدلاً من أن يتمّ من خلال تعليمات يُطلقها الحاكِم. والمنظومتان، أي القانون والطقوس، مبنيّتان على الإكراه، ولكنّ القانون مَبني على أنواعٍ ماديّة من العقاب (كالسجن مثلاً) تفرضه الدولة، بينما الطقوس يفرضها المجتمع نفسه على أعضائه، من خلال أنواعٍ من العقاب غير ماديّة مثل “العار”، تثني أفراد المجتمع عن الخروج عن الطقوس. ومفهوم الطقوس هذا أساسه تفاؤل في قدرة الإنسان على التماثل بالقيَم الأخلاقية والمجتمعية، على الأقلّ إلى درجة ما.
وعلى سبيل المثال، فإنّ طقوس العزاء هي من أهمّ الطقوس التي يشجّعها الكنفوشيوسيّون. وهدفها من جهة تسهيل ألم الفقدان من خلال التركيز على خطواتٍ ومَراسِم معيّنة تستمرّ لأشهر عديدة. ومن جهة ثانية، فإنّ هدفها تشجيع الفضيلة والعلاقات بين الناس، وكذلك احترام الأهل والتماثُل بهم حتّى بعد رحيلهم؛ إذ تتمثّل أهمّ الفضائل التي يشدِّد عليها الكنفوشيوسيّون في كون طقوس العزاء بالنسبة إلى الأهل أهمّ من طقوس العزاء نفسها. ولكن هنا ينبغي الذكر أنّ طقوس العزاء نفسها تختلف بحسب الرتبة التي يحتلّها المُعزّى به، فكلّما علت رتبته طالت فترة العزاء، وزاد اللّباس المطلوب ترفاً وحتّى نوع القبر المُستخدَم أيضاً. والهدف من ذلك الدلالة على المستوى الاجتماعي وإظهاره واضحاً للآخرين.إذن التفاؤل بقدرات الإنسان الأخلاقية لا تفضي إلى المساواة، بل إلى التراتبيّة.
لقد ارتبطت الصين والكنفوشيوسية في الصورة التي بناها عنها الغرب، في كتابات ماكس ويبر مثلاً، بالتراتبيّة الجامدة وبالجمود الاجتماعي. وقد تؤدّي هذه الصورة إلى الاعتقاد بأنّ الكنفوشيوسيّين تبنّوا التمييزات الإقطاعية نفسها التي كانت شائعة في الصين القديمة قبل دخولهم الساحة الفكريّة. ولكنّهم وبالعكس، كانوا، كغيرهم من مفكّري الصين في تلك الحقبة، من مشجّعي الحراك الاجتماعي الذي واكبها. وقد عبّر كنفوشيوس عن رفضه القاطع للتمييزات الإقطاعية، مؤكّداً على غياب الفوارق بين البشر عند الولادة، ومن الأقوال المنسوبة إليه: ” في الطبيعة مُتشابهين، في المُمارسة مُختلفين” (أقوال كنفوشيوس ١٧:٢). التراتبيّة التي ترتكز عليها المنظومة الكنفوشيوسية هي في الحقيقة تراتبيّة مبنيَّة على الجدارة الأخلاقية وليس على الموروثات الاجتماعية أو الاقتصادية.
والسؤال الجوهري الذي يطرحه هذا الجانب من الفكر الكنفوشيوسيّ هو كيفيّة التوفيق بين المساواة عند الولادة والتراتبيّة في المجتمع. فالفكر اليوناني القديم يركِّز في المقابل على الاختلافات في الطبيعة من جهة (من هنا قبول أفلاطون وأرسطو بمفهوم العبوديّة، بينما ليس لدى المفكّرين الصينيّين مفهوم مشابه)، وعلى المساواة في الحياة السياسية ومن جهة أخرى (من هنا الفكرة الديمقراطية لدى اليونانيّين والتي لا نجدها في الصين القديمة).
قد يتساءل القارئ هنا عمّا إذا كانت لهذه الأفكار، ولهذه الفوارق بين الفِكر اليونانيّ والفكر الصينيّ القديم، أهميّة تتعدّى الحشرية الفكرية. والجواب واضح لدى العديد من المثقّفين الصينيّين اليوم الذين يطالبون بنِظامٍ مَبني على الجدارة، والتراتبية التي تنتج عنها، بدلاً من النظام الديمقراطي اللّيبرالي الذي يعتبرونه غربيّاً. ولكنّ الأفكار القديمة لا تكمن أهميّتها في الماضي وفي الحاضر فقط، ولكن أيضاً في المستقبل. فهي تسمح لنا، كما لمّحتُ أعلاه، بإعادة التفكير بضروريّة الحاضر وبالتالي بتخيّل مستقبل يختلف عنه. من ثوابت عالَمنا اليوم التعايش (وقد يقول البعض، الارتباط الوثيق) بين المساواة والحرّية من جهة، والإقصاء وأشكال مختلفة من العبودية من جهة أخرى. لذا قد يكون الاطّلاع على منظومات فكريّة لا تتبنّى هذه الثنائيّة نوعاً من التحرّر من هذه الثابتة.
*أستاذة العلوم السياسيّة في جامعة نورثويسترن – شيكاغو
قم بكتابة اول تعليق