أفق – د . عبد الله إبراهيم*
حاولت الإدارات الاستعماريّة الغربيّة، في أوّل عهدها، إغراء عدد وافر من المستشرقين والرحّالة للعمل في خدمة سياساتها الإمبراطوريّة، إذ كان اكتشاف الشرق شبه متعذّر إلّا بمعونة من ذوي الدراية بشؤونه الدينيّة والعرقيّة والجغرافيّة، ولم يخامر تلك الإدارات أيّ شكّ في أنّ انخراطهم في مساعدتها إنّما هو مساهمة أخلاقيّة يقدّمها رجال عارفون بشؤون الشرق، فرأت أن تنصبّ جهودهم في خدمتها نظير دعم يقدَّم لهم للشروع في جمع المعلومات، وإعداد الخرائط، وكتابة التقارير، بل مباشرة الارتحال في تلك الأصقاع النائية.
نتج عن ذلك مدوّنة ضخمة شكّلت لبّ الأرشيف الاستعماري، ولطالما نُظِر إلى أدب الرحلات الغربية “باعتباره دليلاً للجغرافيا الإقليميّة وتاريخاً للاستكشاف”، كما قال راشد شاز في كتابه “الطريق إلى جزيرة العرب“؛ وذلك يفسِّر جانباً من ارتباط الارتحال بالحركة الاستعمارية في العصر الحديث، حيث ارتبط كثير من الرحّالة، في خدمة بلادهم، بنوازع علمية واستخبارية، وندر أن تجرّدوا من الحمولات الاعتقادية لثقافاتهم والسياسات الإمبراطورية لبلادهم، ولم تبْرأ من تهمة التعاون مع الإدارات الاستعمارية إلّا قلّة قليلة من المشتغلين في هذا المجال.
وينبغي القول إنّ الصحراء العربية، بقيت مدّة طويلة سرّاً غامضاً بالنسبة إلى العالَم الغربي، وقد سعى كثير من الرحّالة لاكتشافها؛ فشدّوا الرحّال إليها متوسّلين وصفها ورسم خرائطها، ومعرفة القبائل التي تستوطنها أو تترحّل في أرجائها. وعلى الرّغم من المحاولات الكثيرة التي قام بها رحّالة متمرّسون، فقد ظلّ جزء من الصحراء عصيّاً على الاكتشاف، فنتج عن ذلك ما أصبح يُعرَف بـ”الولع الغربي” بالصحراء العربية، إلى درجة لا يكاد يُعترف فيها برحّالة يقصد العالَم الشرقي إن لم يمرّ بأطرافها، أو يتوغّل فيها. على أنّ محاولات اكتشاف الصحراء العربية لم تتمّ بمنأى عن السياسات الاستعمارية إنّما لازمتها وعبّرت عنها منذ مطلع القرن التاسع عشر الميلادي.
المركزيّة الغربيّة للتخيّلات عن الشرق
ذهبت “كارين أرمسترونغ” إلى أنّ القرن الثامن عشر عمل على إنماء “ولع جديد بالشرق. وجعل مستشرقون من هذه الكلمة الجديدة في متناول القارئ العامّ، كما بدأ الرسّامون والموسيقيون والكُتّاب يفكّرون مليّاً في الشرق الغريب جدّاً، والغامض جدّاً. ولم تكن هذه الصورة أكثر دقّة من الصورة العدائية القديمة عن “الإسلام”، بل كانت تعبيراً مُماثِلاً عن الأحلام الغربية”؛ فـ”الشرق الغريب” لا يمتّ بأيّ صلة إلى الشرق الحقيقي، وغالباً ما كان يخيِّب ظنّ الرحّالة الذين يقصدونه ويشعرون أنّهم خُدعوا عندما يكتشفون ذلك. ويعود أمر “الولع” بالشرق إلى حقيقة مؤدّاها جهْل الغربيّين به إلى وقت قريب، وكلّ نقص يروم الاكتمال، حتّى لو لزم الأمر تزوير الحقائق، وإعادة إنتاجها لإشباع ذلك النقص، ففي سياق تشكيل هويّة الغرب في العصر الحديث، وُجِب بسط المعرفة الغربية على مستوى العالَم، وشموله بها، وكان الشرق نائياً وشبه مُمتنِع، فأصبح موضوع إغراء للبحث والتخيّل والاكتشاف والسيطرة. وطبقاً لـ “راشد شاز”، فإنّ جهل كثير من الكتّاب الغربيّين بأرض العرب، وسكّانها، وأخلاقهم، وعاداتهم، دفعهم إلى رسْم صورة لشعوب تلك الأرض “من صنع خيالهم”.
لكنْ، مع التوسّع الإمبراطوري، أصبحت معرفة أرض العرب، ولاسيّما الصحراء، أمراً مهمّاً، فانطلق الرحّالة في سباقٍ مع الحملات العسكرية لجمْع نبذ من معلومات، كثير منها مُجتزَأ ومُنقطِع عن سياقاته التاريخية والثقافية. وبسبب صوغ المركزية الغربية للتخيّلات الذهنية لأولئك الكتّاب، سرعان ما ” نما اعتقاد يرى أنّ الغرب يعرف عن الشرق أكثر ممّا يعرفه أهل الشرق عن أنفسهم”، كما قالت “جاكلين بيرين” في كتابها “اكتشاف جزيرة العرب“.
وعلى هذا، فمعظم الرحّالة كانوا يحيلون إلى أعمالهم، باعتبارها مستودعاً للمعرفة الصحيحة بأهل الصحراء، وجرى إهمال المعارِف الأصلية الشائعة في ما بينهم، واعتُبر الوصف الغربي هو الصّائب، إلى ذلك فكثير من الرحّالة، مثل” بيرتون” و”لورنس” و”فيلبي” و”مس بيل” وسواهم، انخرطوا في خدمة الإدارة الاستعمارية. وليس من المُستغرَب أن تكون كشوفاتهم الجغرافية، وأوصافهم المسهبة للمجتمعات العربية الصحراوية من ناحية الروابط العرقية والدينية والمذهبية، دليلَ عملٍ لتلك الإدارة في بسط نفوذها، وقد تبوّأ بعضهم وظائف حسّاسة جدّاً، وأسهموا في تشكيل الممالِك الجديدة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وكان تأثيرهم كبيراً في الحفاظ على المصالح الإمبراطورية، فرؤيتهم للشرق تنتظم في سياق الرؤية الاستعمارية لعالَمٍ وُجِب غزوه وإدراجه في سياق التاريخ الغربي.
لم يخلُ قدوم الرحّالة إلى الصحراء العربية من طلب المعرفة التي كانت موضوع حاجة الإمبراطوريات الغربية، فقد أقرّ “فارتيما” بأنّ رحلته إلى شبه جزيرة العرب جاءت استجابةً “للرغبة الجامحة في المعرفة”. وينبغي أن نتساءل عن ماهيّة هذه المعرفة التي يحتاج إليها الرحّالة الغربيّون عن البلاد التي يرومون الارتحال إليها، وفي أيّ ظروف جرت تلك الرحلات؟ فقد عُرِف عن “فارتيما” أنّه كان “يعمل لحساب ملك البرتغال الذي موّل رحلته، والذي قدّم له نائبه في الهند براءة الامتياز والفروسيّة، وضمّه إلى جيوشه المُحارِبة”.
وفي ضوء هذا، تلقّى تكليفاً للكتابة عن “عادات الشعوب، وكتابة تقرير عن جيوشها، وحصر منتجاتها الزراعية والصناعية، ولاسيّما ذات القيمة التجارية العالمية”. أمّا “دومينغو باديا”، الذي أحاطه الغموض حيثما ارتحل، فقد كان “عضواً فاعِلاً في خطّة دوليّة”. وقد شرع يكتب تقارير سرّية رفعها للمسؤولين الإسبان ثمّ الفرنسيّين يغريهم ببسط نفوذهم الإمبراطوري في بلاد المغرب والمشرق على حدّ سواء، وجاراه في ذلك “سيتيزن” الذي كانت مهمّته ” إرسال التقارير إلى القيصر الروسي عن الوضع العسكري في آسيا الوسطى التي وقفت في وجه التوسّع الروسي، ومن أجل أن يعطي تلك الرحلة الصدقيّة المطلوبة جاء إلى مكّة المكرّمة مدّعياً تأدية فريضة الحجّ”. وللسبب نفسه سافر “بوركهارت” إلى شبه الجزيرة العربية لحساب الجمعية الجغرافية الأفريقية المموَّلة من ” إدارة المستعمرات البريطانية لغرض التعرّف إلى المناطق قبل محاولة احتلالها واستعمارها”. أمّا “بيرتون”، فلم يخفِ تطلّعه إلى مدّ النفوذ البريطاني إلى شبه الجزيرة العربية، وعلى هذا ” قدّم اقترحات كثيرة حول اكتساب البدو وحفزهم إلى خدمة الإمبراطورية، حيث يمكن أن يكوّنوا فرقة ممتازة من المشاة”. وقد وُصِف بأنّه كان ” إمبرياليّاً بلا حدود، يسعى إلى خدمة إمبراطوريّته ورفعة شأنها وزيادة مستعمراتها”.
انتحال أسماء عربيّة
أمّا الأدوار التي قام بها ” لورنس” و”مس بيل” و”فيلبي” في تدشين النفوذ الإمبراطوري الإنكليزي في المشرق العربي، وشبه الجزيرة العربية، فقد أصبحت معروفة على نطاقٍ عامّ. على أنّ الصحراء كانت مَهرباً لقلّة قليلة من الرحّالة من ضيق العالَم الغربي، وفضاءً مفتوحاً للتأمّل، وممارسة لذّة الاكتشاف، بل التواصل المفقود مع عالَم مُغاير، والانقطاع عن مجتمعات اندرجت في علاقات مادّية مُرهِقة، وغاب عنها الدفء الإنساني.
لم يكن من اليسير أن يتجوّل الرحّالة في الصحراء العربية، من دون تحوّطات كثيرة ينبغي توفّرها، فكان لا بدّ من التنكّر بزيّ عربي، وانتحال أسماء شخصيّات دينية أو شبه دينية متستّرة بالإسلام، وتعلّم العربية، والتدرّب على بعض اللّهجات المحلّية، وكسب ودّ زعماء القبائل، بل الأمراء والملوك؛ فقد انتحل “فارتيما” اسم “يونس المصري”، و”غورماني” اسم “خليل آغا”، و”بالجريف” اسم “سليم العيص” و”باديا” اسم “علي باي العبّاسي”، و”بوركهارت” اسم “إبراهيم بن عبد الله”، و”ثيسيجر” اسم “مبارك بن لندن”، و”داوتي” اسم “خليل”، و”جوارد” اسم “محمود مبارك”، و”دينييه” اسم” ناصر الدين”، و”سيتيزن” اسم “الحاج موسى”، و”فيناتي” اسم “الحاجّ محمّد”، و”بيرتون” اسم “الحاج عبد الله”، و”شاتوبريان” اسم “عطا الله”، و”بيكنل” اسم “الحاجّ عبد الواحد”، و”والين” اسم “وليّ الدين”، و”كورتيلمون” اسم “الحاج عبد الله”، و”فرايركين” اسم “الحاجّ محمّد أمين”، و”راشيه” اسم “الحاجّ عمر”، و”هورجرونيه” اسم “عبد الغفّار”، و”مالتيزان” اسم “عبد الرّحمن بن محمّد”، و”ألويس موزيل” اسم “السيّد موسى الرولّي”. فضلاً عمّن أَسلَم منهم وتسمّى باسم عربي، مثل “فايس” الذي أصبح “محمّد أسد” و”فيلبي” الذي أصبح “الحاجّ عبد الله فيلبي”. فهذه نماذج من أعداد كبيرة من الرحّالة الذين تنكّروا بشخصيّات احتموا بهَيبتها الدينية في الطواف داخل شبه الجزيرة العربية. وانتحال الأسماء تقليد شائع في أوساط الرحّالة الغربيّين إلى ديار العرب، فكثير منهم تكتّم على اسمه الحقيقي، وأخفى معتقده الديني؛ وادّعى امتهان التجارة، أو العمل، أو الحجّ، فالغريب مثار ريبة، وموضع شكّ، وبما أنّه عاجز عن الإفصاح عن غرضه، ومن المتعذّر عليه الجهر بمعتقده الديني، فينتحل كلّ ما يراه موافِقاً لعالَم الصحراء.
قال “بوركهارت” إنّ “مسألة التنكّر أمرٌ شائع بين الرحّالة الشرقييّن كلّهم”. وهذه حيلة لم تنجح دائماً في تضليل الآخرين، فكانوا يُضبَطون متلبّسين بعاداتهم في كثير من الأحيان، وسرعان ما تتكشّف أهدافهم. والانشغال بتمويه الهويّة الشخصية يضيِّع على الرحّالة كثيراً ممّا جاؤوا من أجله، مثل: رسم الخرائط، وتحديد المواقع، ومعرفة الطُّرق، وأحوال الطقس، وتقصّي أوضاع القبائل، وتحديد ولاءاتها السياسية، وكشف طقوسها الدينية، وعلاقاتها الاجتماعية، بما يفيد الإدارات الاستعمارية في بسط نفوذها، ورعاية مصالحها. وتكاد تكون معظم المعارِف الشائعة في الغرب عن صحارى العرب جهّزها رحّالة لهم صلات ضمنيّة أو صريحة بتلك الإدارات.
*ناقد وباحث من العراق
قم بكتابة اول تعليق