التضخُّم يُعيق التعافي من تداعيات كورونا 

أفقد. محمّد دياب*

مع خروج الاقتصاد العالَميّ التدريجيّ من تداعيات جائحة كورونا والأزمة الناجمة عنها، تكتسب مسألةُ تقدير الآثار طويلة الأمد التي ستخلّفها هذه التداعيات على مُستقبل هذا الاقتصاد وآفاق تطوّره أهميّةً قصوى اليوم. وهو أمر لا بدّ منه عند اتّخاذ القرارات المناسبة في ما يتعلّق بالسياسات الماليّة والنقديّة والاقتصاديّة عموماً. ومع التخلّي التدريجيّ عن القيود المُرتبطة بالجائحة من قِبَلِ الحكومات والمصارف المركزيّة، تبرز ضرورة وأهميّة تقدير حجْم الضغوط التضخميّة ومدى تأثيرها على الاقتصاد العالَميّ، والفجوة التي يُمكن أن تَظهر بين النموّ المُحتمَل والمُتوقَّع على المَديَيْن القصير والبعيد، والواقع الفعليّ الذي ينوء تحته هذا الاقتصاد اليوم. 

فالمُراقِب لمَسار تطوُّر الاقتصاد العالَمي لا بدّ أن يتوقّف عند وتائر التضخُّم العالية التي تنوء تحت وطأتها اقتصادات البلدان المُختلفة اليوم، ما يطيح بمعظم، إن لم يكُن بكلّ مؤشّرات التعافي من تداعيات جائحة كورونا. ففي ظلّ الارتفاع الذي لا مثيل له في أسعار الطّاقة والموادّ الغذائيّة، تذهب هباء مُعظم الجهود التي تبذلها السلطاتُ الماليّة والنقديّة في تلك البلدان من أجل كبْح جماح التضخُّم. لقد أصبح التضخُّمُ وليس تداعيات الجائحة هو ما يُقلق صانعي السياسة الاقتصاديّة في العالَم اليوم. ويتساءل الباحثون عمّا إذا كانت الإجراءات قصيرة الأجل كفيلة بمُواجَهة تسونامي التضخُّم الجامح، أم إنّ الاقتصاد العالَمي اليوم يُواجِه أزمةً عميقة طويلة الأمد. 

“مشكلة عالَميّة”

الضغوط التضخُّميّة لا تطال الاقتصادات المتقدّمة وحدها، بل وتثقل كاهل غالبيّة الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية أيضاً. لقد أصبح التضخُّمُ مشكلةً عالَميّة. وعلى الرّغم من اختلاف أسبابه بين بلدٍ وآخر، فإنّ مهمّة مُعالَجة المسألة ستقع، في نهاية المطاف، على عاتق البنوك المركزيّة الكبرى في العالَم. في غضون ذلك نجد أنّ البنك المركزي الأوروبي يتردّد في رفْع أسعار الفائدة، بوصفه وسيلة أساسيّة في مُكافَحة التضخُّم، خشية الانهيارات في الأسواق الماليّة، مُحاولاً إيهام الرأي العامّ بأنّ التضخُّم مجرّد ظاهرة مؤقّتة. ومن جهة أخرى، نرى أنّ السياسيّين يخشون غضب الناخبين الذين تتآكل مدّخراتهم وتتراجع قدراتهم الشرائيّة نتيجة ارتفاع أسعار موادّ الطّاقة والنقل والموادّ الغذائيّة…إلخ. ويؤدّي ارتفاع تكلفة الغاز والطّاقة الكهربائيّة والنقل إلى تقويضِ فروعٍ صناعيّة كثيرة في أوروبا، من صناعة الألمنيوم.. إلى الأسمدة وغيرها. 

وتتباين معدّلات التضخُّم بين منطقة وأخرى. فوفقاً لمُعطيات دوريّة Le courrier International الفرنسيّة، بلغ معدّل التضخُّم في كانون الأوّل (ديسمبر) 2021 في الاتّحاد الأوروبي عموماً 5%، في حين وصل في أوروبا الشرقيّة إلى 10%. أمّا في بريطانيا فسجَّل 5,4%، وهو الأعلى في السنوات الثلاثين الأخيرة. وليست أوروبا وحدها التي تُعاني من وباء التضخُّم. ففي الولايات المتّحدة بلغ معدّل التضخُّم في كانون الثاني (يناير) من هذا العام 7,5% وهو الأعلى منذ 40 عاماً. هذا الأمر يدفع بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (FRS) إلى العمل على تخفيض معدّلات الفائدة التي بقيت منذ العام 2020 صفريّة تقريباً (تراوحت بين صفر و0,25%). وتبهت هذه الأرقام أمام ما تشهده اقتصادات بعض البلدان النامية. ففي الأرجنتين، على سبيل المثال، بلغ معدّل التضخّم 50,9% وفي تركيا 49%. أمّا في لبنان، ووفقاً للنشرة الفرنسيّة نفسها، فقد بلغ 154%، وهو رقم “متفائل” بالطبع، حيث تشير مُعطيات من مصادر أخرى إلى أنّ معدَّل التضخُّم في لبنان بلغ 825% في الفترة الممتدّة بين مطلع العام 2019 ونهاية كانون الثاني (يناير) 2022. 

والجدير بالذكر أنّ تسارُع معدّلات التضخُّم يؤدّي حتماً إلى تعزيز فجوات التفاوت، سواء داخل البلدان أم في ما بينها. ويتجلّى هذا التفاوُت بصورة صارخة بين الاقتصادات المتقدّمة والاقتصادات النامية. ومن المشكلات الكبرى التي تُواجهها هذه الاقتصادات، الخلل في سلاسل التوريد العالَميّة والارتفاع الكبير في نفقات النقل، يُضاف إليها ارتفاع أسعار موارد الطّاقة وكذلك أسعار المواد الغذائيّة. كما أنّ انخفاض تدفّقات رأس المال الأجنبي وخفْض التصنيف الائتماني للديون السياديّة أدّى بدَوره إلى انخفاض قيمة عملات العديد من الدول، ما أَسهم في تضخُّم أسعار السلع المُستورَدة.

هل يكون رفْع معدّلات الفائدة هو الترياق؟

يرى بعض الخبراء الاقتصاديّين أنّ التغيير الحادّ في السياسة النقديّة – الائتمانيّة في البلدان الغربيّة أمرٌ ينطوي على مخاطر كبيرة، بل وربّما يكون أشدّ خطورة من التضخُّم نفسه. فقد بلغ مجموع مديونيّة البلدان والشركات الغربيّة 355% من إجمالي النّاتج المحلّي العالَمي. وبحسب تقديرات وكالة ماكينزي McKinsey، فإنّ أكثر من 40% من نموّ إجمالي النّاتج المحلّي العالَمي في السنوات العشرين الأخيرة تحقَّق بفضل معدّلات الفائدة المتدنيّة، أمّا في الولايات المتّحدة فتُشير تقديرات بنك أوف أميركا Bank of America إلى أنّ أكثر من 50% من نموّ الأسهم في الأسواق الماليّة الأميركيّة، ابتداءً من العام 2010، تحقَّق بفضل معدّل الفائدة المتدنّي الذي فَرَضَه البنك الاحتياطي الفيدرالي. لذا فإنّ اللّاعبين على الساحة الاقتصاديّة- التجاريّة كافّة على المستوى الدولي مَعنيّون بأن تكون النقود “رخيصة”، وهذا يعني بقاء أسعار الفائدة عند مستوياتها المُنخفضة. فوفقاً لحسابات مجلّة ذي إيكونوميست The Economist البريطانيّة، فإنّ زيادة 2% على معدّل الفائدة تؤدّي إلى زيادة العبء الإئتماني بنسبة 50%، ما يُشكِّل 18% من إجمالي النّاتج المحلّي العالَمي. ومن شأن ذلك أن يؤدّي إلى أزمةِ مديونيّة هائلة وإلى انهياراتٍ في الأسواق الماليّة، وربّما إلى حالةِ ركودٍ عميق. 

مُقارَنةً بذلك، وبحسب رأي مجلّة Handelsblatt الألمانيّة، يبقى التضخُّم أقلّ شرّاً من مثل هذه الانهيارات. وبناءً لذلك، تسعى بعض البنوك الأوروبيّة إلى التقليل من خطره واعتباره “ظاهرة مؤقّتة”. بيد أنّ هذا الموقف يُمكن أن يجعل “المؤقّت” أمراً دائماً. فما العمل في مثل هذه الحالة؟ يرى الخبير الاقتصادي الألماني دانيل شتيلتير أنّ الخيارات محدودة. ففي حين يسعى البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي إلى تمرير رفع معدّل الفائدة ﺑ “جرعات صغيرة”، نرى أنّ البنك المركزي الأوروبي يكتفي بذرّ الرماد في العيون والاكتفاء بكلامٍ عامّ من دون خطواتٍ ملموسة. ومن الواضح مسبقاً، بحسب رأي الخبير المذكور، إلى أين يُمكن أن تفضي مثل هذه السياسة غير المسؤولة. فالعَوْلَمة الاقتصاديّة المُتزايدة والنموّ الديموغرافي، اللّذان أدَّيا في الماضي إلى الانكماش المالي (الانخفاض المُتواصِل لأسعار السلع والخدمات، وهو عكس التضخُّم المالي)، يعملان الآن في الاتّجاه المُعاكس. يُضاف إلى ذلك النفقات الباهظة على مشروعات الطّاقة البديلة، فضلاً عن الارتفاع الهائل في الكتلة النقديّة وهشاشة أوضاع المصارف، ما يجعل التضخُّم معضلة مُزمنة. بيد أنّ هذا الواقع يبقى على الرّغم من ذلك، بحسب رأي بعض الخبراء، أقلّ شرّاً من انهيار الأسواق الماليّة الذي يُمكن أن ينجم عن رفْعِ معدّلات الفائدة. وهنا تكمن المعضلة المُستعصية.

لقد كانت الاتّجاهات التضخّميّة حاضرة في الاقتصاد العالَمي سابقاً، بيد أنّ جائحة كورونا أدَّت إلى تسريعها، حيث أفضَت إلى تقويض استقرار الاقتصاد العالَمي وإلى إلحاق الخَلَلِ بالسلاسل الإنتاجيّة واللوجستيّة وبالتدفّقات التجاريّة. وقد تطلَّب انخفاضُ النشاط الاقتصادي حقْنَ مليارات الدولارات في إطار دعم القطاعات الاقتصاديّة. وأدّى ذلك إلى زيادةٍ هائلة في الدَّين العامّ خلال عامَيْ الجائحة، وسيحتاج تسديده إلى سنواتٍ طوال. هذا إذا نجحت الحكومات في إطفائه فعلاً. ولن يكون بالإمكان الإفلات من هذا “الفخّ” إلّا في ظلّ تحقيق وتائر نموّ اقتصادي عالية أو تخفيضٍ حادّ في النفقات العامّة. ولكنّ الخبراء الاقتصاديّين لا يرون شيئاً من ذلك في الأُفق. فالسمة الأبرز للتضخُّم هو، كما ذكرنا، شموله اقتصادات البلدان كافّة، المتقدّمة والنّاشئة والضعيفة على حدّ سواء. وفي غياب الخيارات المُلائمة لمُواجَهة حالات الخَلل في سلاسل التوريد، تترك مهمّة مُعالَجة التضخُّم للبنوك المركزيّة الكبرى التي تَعمد إلى ضخّ مليارات الدولارات في عروق الاقتصاد من أجل الحفاظ على حالة الاستقرار فيه، بيد أنّ ذلك يُسهم، من حيث لا ترغب تلك المصارف، في تحفيز وتيرة التضخُّم.

واضْطَلَعَ العاملُ النفسي بدَورٍ بارز في هذا الإطار. ففي ظلّ ارتفاع الأسعار، سارَعَ المُستهلكون في مُختلف البلدان إلى مُضاعفة مُشترياتهم، سعياً منهم إلى استباق الارتفاع المُتمادي في الأسعار وتأمين “مخزون أمان” احتياطي من السلع الاستهلاكيّة، ما أدّى بدَوره إلى تحفيز وتيرة تصاعُد التضخُّم. وبذلك، دخلَ الاقتصادُ العالَمي في “حلقة مُفرغة” تجد الحكوماتُ صعوبةً في الخروج منها حتّى الآن. ولم تَعُد المسألةُ اقتصاديّةً فحسب، بل أصبحت مشكلة اجتماعيّة وسياسيّة بالغة الخطورة. فقد أفضى التضخُّم إلى تفاقُم عدم المساواة في المُجتمع، وإلى حدوث تمايُزٍ صارِخٍ في توزيع الثروة. ففي حين يتواصل اضمحلال الطبقة المتوسّطة، بل وانسحاقها في بعض البلدان، تُراكِم شرائح ضئيلة ثرواتٍ طائلة. فارتفاعُ الأسعار، مع جمود المداخيل، بل وتراجعها أو حتّى خسارتها أحياناً نتيجة فقدان فُرص العمل وتزايُد البطالة، يؤدّي حتماً إلى إفقارِ فئاتٍ واسعة من المُجتمع وإلى تفاقُم التمايُز الطبقي والتفاوُت في مستويات المعيشة، ما يفضي إلى احتدام التوتُّر الاجتماعي الذي يُنذر في حالاتٍ كثيرة بالتحوُّل إلى اضطراباتٍ سياسيّة. والأمر لا يقتصر على البلدان النامية والأكثر فقراً، بل يتعدّاه إلى البلدان المتقدّمة نفسها. 

*أستاذ جامعي، باحث في الشؤون الاقتصاديّة – لبنان

قم بكتابة اول تعليق

أترك لنا تعليق

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


17 + = 26