د. كرم الحلو*
الدولةُ حقيقة تاريخيّة تتكوَّن وتتطوَّر وتتحوَّل في تفاعُلٍ دائمٍ مع مُعطيات التاريخ وشروطه وتحوّلاته، ولأنّها كذلك، فقد طَرَحَت على الفكر السياسيّ والفلسفيّ أسئلةً طاوَلت كَينونتها ومَضمونها ونِظام اشتغالها وسيادتها وشرعيّتها وقوانينها وأزماتها.
من هذا المنظور الفلسفيّ التاريخيّ، توجَّه وجيه كوثراني في كِتابه “المسألة العربيّة – الدولة والمُجتمع في التاريخ العربيّ مَفاهيم وفرضيّات” (منتدى المَعارف، 2019) إلى دراسة التكوُّن التاريخيّ للدولة في الأزمنة العربيّة وإشكاليّات تجلّياتها الاجتماعيّة وتحوّلاتها عبر مراحل التاريخ من الدولة السلطانيّة إلى الدولة القوميّة أو الوطنيّة.
اهتمَّ كوثراني في كِتابه بالبُعد العربيّ والإسلاميّ أو بالأحرى بالمكوِّن التاريخيّ الأشمل لظاهرة الدولة، عن طريق تشكُّل “الدولة الحديثة” في العديد من المناطق العربيّة الإسلاميّة، حيث اتَّخذت مَساراتٍ مُعقَّدة تراوحت بين تمثّلها الصيغة الإسلاميّة للدولة والصيغة القوميّة الغربيّة لها. وفي إطار الصيغة الأخيرة، ارتسَمت صورٌ شتّى للدولة، انطلاقاً من الطائفة التي تتماهى مع الوطن والأمّة إلى الإثنيّة الثقافيّة التي تتماهى مع “وطن أكبر” وقوميّة أوْسع تدرَّجت من أُمّةٍ عربيّة مَشرقيّة – من دون مصر – إلى أُمّةٍ عربيّة من المحيط إلى الخليج بعد الحرب العالَميّة الثانية.
في هذا السياق طَرَحَ المؤلِّف مُساءلةَ المُجتمع العربي عن علاقته بالدولة أو بـ “أهل الدولة” وكيفيّة تعامُل الفكر العربي مع الأطروحتَيْن المُتداوَلتَيْن في تسعينيّات القرن الماضي: الديموقراطيّة والمُجتمع المدني، مُتسائلاً: هل الثورة والدولة اليوم تكرارٌ لمَفهوم “إمارة الاستيلاء” في العقليّة السياسيّة العربيّة؟ وصولاً إلى الاستنتاج أنّ المأزق العربي كان ولا يزال في مشروع “المُواطَنة”.
الباحث الغربي الدّاعي إلى تعميم النموذج الحداثي في تشكُّل الدولة والأُمّة يذهب إلى القول باستحالة هذا النموذج في الشرق العربي الإسلامي، وإلى أنّ تاريخ الشرق هو تاريخ طوائف وقبائل. ذلك أنّ ظاهرة الدولة – الأُمّة هي ظاهرة أوروبيّة، ما لا يُمكن أن تُنتِجه طبيعة السلطة في الشرق العربي الإسلامي، حيث بَقيت الدولةُ مُرتبطةً بالأمير، ولم يحصل التدامُج بين العناصر الثلاثة: الأرض والأُمّة والهيئة السياسيّة التي أدَّت إلى تكوُّن بلدان أوروبا.
بين الصِّيغ الأوروبيّة والإسلاميّة لمفهوم الدولة
إنّ الصِّيغ الأوروبيّة لمَفاهيم الأُمّة والقوميّة والوطن لها مَضامين أخرى في التاريخ العربي الإسلامي، حيث الأُمّة هي أُمّة الإسلام، جامِعة الشعوب والقبائل، وهي في حالة تحقُّقٍ دائم، أي أُمّة “الدعوة” التي تتخطّى الحدود الإقليميّة – الجغرافيّة. ومن هنا كان ربْط ابن خلدون الدعوة والعصبيّة كشرطٍ لقيام الدولة الكبرى، وعدم نسبة الدولة إلى الإقليم، حتّى ولو قامت انطلاقاً من قاعدةٍ إقليميّة مُحدَّدة، بل إنّ نِطاق الدولة جغرافيّاً يمتدّ عنده بامتداد العصبيّة وقوّتها. وقد أيَّدَ تغلُّبُ أيّ عصبيّة – في ما إذا قامت بحماية دار الإسلام ضدّ الخارج – الدَّورَ الذي اضطَّلعت به الدولةُ العثمانيّة ضدّ الغرب، لكونها وحَّدت القوميّات والشعوب الإسلاميّة، وكانت وحدها ضمان استقلال المنطقة، بصرف النَّظر عن استبدادها وقهْرها على مستوى الصراع الداخلي بين المَركز والأطراف. وبعدما تأسَّست الدولُ الحديثة في العالَم الإسلامي، فإنّ تمثُّل الأُمّة كنَزعةٍ وحدويّةٍ تضامُنيّةٍ بقي قائماً عند المُسلمين مُخترِقاً حدود الدول الحديثة، وظلَّ الولاء للأُمّة بالصيغة الحداثيّة الغربيّة غريباً عن الفكر الإسلامي.
وإذ تناولَ مفاهيمَ الشورى والديموقراطيّة والتعدُّديّة، رأى كوثراني أنّ مفهوم الشورى لم يحمل معاني الحريّات العامّة للمُواطِن إلّا مع التحدّيات الأوروبيّة ووعيها لدى إسلاميّي النهضة. فلولا اختلاطنا بالأوروبيّين، على ما يقول رشيد رضا، لما تنبَّهنا إلى مبدأ الشورى، وإن كان هذا المبدأ العظيم صريحاً جليّاً في القرآن الكريم. وعليه ذهبَ كوثراني إلى أنّ الفكر الإسلامي التقليدي يُمارِس نَوعاً من الاجتزاء إذ يرى في “الشورى” الصيغة الأصل في الدول الإسلاميّة، ولا يرى في الملك العضوض وحُكم السلطنات الذي استمرَّ أربعة عشر قرناً إلّا شكلاً من أشكال الانحراف.
في ما يتعلَّق بـ “المُجتمع المدني”، دعا المؤلِّف إلى إعادة قراءةٍ تاريخيّة لهذا المُجتمع، طالما أنّ أدوات المَعرفة مُتجدِّدة، ليذهب إلى أنّ جذور المُجتمع المَدني، بما هو حالة استقلالٍ أو توافُقٍ مع الدولة، موجود بكثافة في العُمق التاريخي للوعي العربي، وأنّ الانقطاع الحاصل في هذا الوعي، سَببه مُمارسات الدولة التوتاليتاريّة. وإذ يُراهِن على دَورٍ مُهمٍّ ستقوم به مؤسّسات الوقف في إحياء المُجتمع المدني العربي الحديث، وفي إقامة علاقة توازُن أكيدة مع دولةٍ عادلة ديموقراطيّة، يذهب المؤلِّف إلى أنّ “الديموقراطيّة ومدخلها الأساسي تداوُل الحُكم عبر الانتخابات البرلمانيّة هي الشرط لقيام المُجتمع المدني الحديث في أقطار الوطن العربي، وتجاوُز حالة المُجتمع الأهلي في مرحلة الدولة السلطانيّة”.
على الرّغم من أنّ المؤلِّف يعترف بمشكلةٍ مُزدوجة في عقل الدولة العربيّة المُعاصِرة كما في عقل المُعارَضة، فإنّه يتجاوز ذلك إلى ادّعاء وجود جذورٍ للمُجتمع المدني في العُمق التاريخي للوعي العربي، وإلى أنّ الديموقراطيّة الانتخابيّة هي شرط قيام المُجتمع المدني عربيّاً. بينما نرى أنّ مفهوم المُجتمع المدني مُرتبطٌ أصلاً بالحداثة وهو يتأسَّس على الإرادة الحرّة للفرد وحقوقه الطبيعيّة، والعلاقات التعاقُديّة الطوعيّة بين الأفراد، ما لا يُمكن تصوُّره مُنفصِلاً عن مفهوم الفرد بمعناه الحداثي، المُشبع بدلالاتٍ لم تكُن له في ثقافتنا التراثيّة العربيّة، حيث نُظرَ إلى الفرد من خلال ثنائيّات الراعي والرعيّة، والخاصّة والعامّة، والعقيدة والقبيلة.
أمّا افتراضُ الانتخابات مَدخلاً للمُجتمع المدني، فتدحضه وقائع التاريخ، إذ إنّ انتخابات ديموقراطيّة غير مؤسَّسة على خلفيّةٍ ليبراليّةٍ قادت وستقود إلى إحياء العصبيّات الأهليّة والعشائريّة في العالَم العربيّ، ما يَجعل قيام المُجتمعات المدنيّة أكثر استحالة، ويُثبِّت دعائم الدولة السلطانيّة من جديد.
مأزق المشروع الصهيونيّ
خصَّصَ كوثراني حيِّزاً واسعاً من كِتابه للمسألة الصهيونيّة التي دأبت، تبريراً لحركتها العنصريّة الاستيطانيّة، على “تحوير التاريخ وتقديمه مشوّهاً بصيغة مسلّمات”، ثمّ تكرارها ونشْرها وتثبيتها في العقول، بناءً على مُبرِّرٍ تاريخيّ وَهْميّ يُصوِّر أرضَ فلسطين “أرضاً من دون شعب”. وإذا تحدَّث عن سكّانها فهُم “طوائف” لا رابط بينها، لا هويّة حضاريّة لها، لا أصالة تاريخيّة ولا حراك وطني، مع ما في ذلك من إلغاءٍ وطمْسٍ للحركات الوطنيّة من مَغرب الأُمّة العربيّة إلى مَشرقها، وفلسطين تحديداً. الأمر الذي يتناقض مع الأطروحات العنصريّة الصهيونيّة.
يُفنِّد كوثراني حجج الصهيونيّة التي تقوم على ذرائعيّة مُنفتحة على أقصى حدود النفعيّة، لا ضوابط إنسانيّة أو دينيّة أو أخلاقيّة لها. إنّها أوّلاً تَربط اليهوديّة بعصبيّةٍ قبليّةٍ تجعل منها استمراراً لوثنيّةٍ قبليّة – طائفيّة يستحيل معها التواصُل مع الآخرين. وثانياً إنّ الصهيونيّة ما هي إلّا ظاهرة تاريخيّة غربيّة حملتْ، فكرةً وتنظيماً، حاجاتِ التوسُّع الإمبريالي للرأسماليّات الغربيّة مطلع القرن العشرين بكلّ مَضامينه الشوفينيّة العنصريّة.
وإذا كان مَكمن نجاح الصهيونيّة في اندراج مشروعها في الاستراتيجيّات الغربيّة تجاه المنطقة العربيّة، وفي ديناميّة المُهاجِر اليهودي إلى فلسطين، وإنشائه “دولة حديثة” و”مُجتمع” و”مؤسّسات” فاعلة، حزبيّة وثقافيّة وأكاديميّة، فإنّ ثمّة مآزق تُهدِّد إسرائيل كتجسيدٍ للمشروع الصهيوني. إذ إنّ الطّاقات والإمكانات وديناميّات المُجتمع تظلّ جميعها في خدمة العنف الذي هو شرط قيام إسرائيل، كما أنّ ثمّة أزمة عميقة في الحركة الصهيونيّة ستتفاقَم مع صعود التيّار الديني، فضلاً عن مأزق سلطة يتكرَّر بشكلٍ دَوريّ يُطاوِل الأحزابَ الصهيونيّة التقليديّة. إلّا أنّ ثمّة نقاط قوّة لا تزال تملكها الحركة الصهيونيّة، تتمثّل في قوّة اللّوبي اليهودي الأميركي المُسيطِر على الإعلام العالَمي ومَراكِز اتّخاذ القرار، وفي انخراط إسرائيل في الإنتاج العِلمي المُعاصِر بإنفاقها الكبير على الأبحاث وإصدارها لما يقرب من 8،0 في المئة من العناوين الصادرة في العالَم.
إلّا أنّ هزيمة المشروع الصهيوني تبقى رهناً بإدراك العرب نقاط قوّتهم. فليس من الإنصاف القول إنّ التاريخ العربي في تصدّيه للصهيونيّة كان تاريخ هزائم، وإنّ ثمّة رابِطاً بين النكبة والنكسة والهزيمة، إذ إنّ عمليّة التصدّي للصهيونيّة احتلَّت صفحةً أساسيّة من نهضة العرب، واستطاعت المُجتمعات العربيّة على الرّغم من تفكُّكها وضعْفها البنيوي – الاقتصادي والعِلمي – أن تُنتِج المُقاوَمة الفلسطينيّة وحرب تشرين والمُقاوَمة اللّبنانيّة والانتفاضة الفلسطينيّة. ولكن على العرب بناء استراتيجيّة جديدة، والاستفادة من التجارب الفكريّة والسياسيّة العالَميّة، بإقامة وحدتهم على أُسس اقتصاديّة وعِلميّة، وإطلاق حريّة الإنسان العربي بإلغاء الحظر على تداوُل الأفكار، وتجاوُز حالة الترهُّل الثقافي والعِلمي.
على هذا، يُشكِّل كِتاب كوثراني إضاءةً رصينة على أكثر المسائل إشكالاً وتعقيداً في فكرنا العربي الحديث، وإسهاماً جديّاً في معركة الحداثة العربيّة العاثرة.
*كاتب من لبنان
قم بكتابة اول تعليق