مشاهد من طلائع المعركة الأخيرة لدحر تنظيم داعش في الساحل الايمن من الموصل، حيث كان معقلَه الأخير في العراق. هنا، ألقت القوات العراقية بكل ثقلها العسكري واللوجستي لتحرير المدينة. تحصن مسلحو داعش بدروع بشرية من أهالي الموصل.
كان حوالى نصف مليون مدني أعزل في الساحل الأيمن للمدينة رهائن في قبضة داعش منذ احتلاله للموصل في عام ألفين وأربعة عشر. أزيز الرصاص لم يعلوه إلا دوي الصواريخ والقذائف في معارك شوارع وأحياء. مشاهد الدمار في المدينة التي كانت يوما مزارا سياحيا، أبلغ من أي كلام. كاميرا تلفزيون الآن رافقت القوات العراقية في معركة التحرير الأخيرة، ربضت خلف السواتر، وانتقلت مع الجنود عبر خطوط النار، ووثقت الكثير من قصة مدينة جذورها ضاربة في التاريخ، أراد داعش أن يتخذها عاصمة لدولته المزعومة، فزرع الفتنة والرعب والدمار، لكنه حصد الموت والفشل بعد أن جابهه العراقيون وطردوه مع أفكاره المتطرفة.
تروي هذه المشاهد التي وثقها تلفزيون الان، تفاصيل واحدة من أشرس وأهم المعارك التي خاضتها القوات العراقية ضد تنظيم داعش في العراق. وكيف استعاد العراقيون الموصل انتراعا من داعش حياً حياً وشارعاً شارعاً، وصولا الى تراجع مسلحي داعش الى الضفة اليمنى لنهر دجلة ومحاصرتهم في تلك المنطقة، تمهيدا لسحقهم هناك. عبر سطوح المنازل والأزقة، خرج من استطاع من أهالي الموصل أملا في النجاة من دائرة المعارك بأي ثمن، غير مبالين بأزيز الرصاص وانفجارات القنابل. فقد كانوا مدركين منذ البداية أنهم ليسوا أكثر من رهائن تستخدم كدروع بشرية عند داعش. دفع بعض الموصليين ثمن الهروب نحو الحياة غاليا. مشاهد أخذت من كاميرات لقناصة داعش ومن هواتفهم المحمولة، كشفت سادية مسلحي التنظيم وافتخارهم بالجرائم التي ارتكبوها، وتلذذهم بقتل المدنيين العزل.
وأكدت أن من بين المقاتلين الدواعش أجانب أغراب عن العراق، لا يتكلمون اللغة العربية، لكنهم – كجميع الدواعش – يتقنون قهقهات الموت ويثمنون حياة الإنسان برصاصة جبانة تختبيء في جحر ثم تنطلق لتنقض على ضحيتها بلا مبالاة.
قدر لعشرات الالاف من أبناء الموصل النجاة بعد أن وجدوا طريقهم عبر أزقة ضيقة ومنازل مدمرة كانت خالية من مسلحي داعش وقناصته. وحيث وجدوا قواتا عراقية، وجدوا يداً مساندة لهم للعبور نحو مناطق أكثر أمنا، وإن كانت تفتقر لأولويات العيش الكريم. أنقاض على أنقاض هي حال الموصل بعد سنوات ثلاث من حكم داعش وبطشه فيها ووالمعارك التي شهدتها لتحريرها منه. الموصل، ثاني أكبر مدن العراق، وواحدة من المدن الحضارية القليلة التي نشأت في منطقة الشرق الاوسط قبل الميلاد. ليس ثمة غير الخراب والدمار الذي شكل صورة المدينة بعد خلاصها من تنظيم داعش.
داخل هذا الزقاق عاشت هذه السيدة الموصلية طوال السنوات الثلاث التي سطى فيها داعش على المدينة. تروي لنا زهراء واحدة من مآسي الحرب، مأساتها وابنتها وحفيديها. فزهراء خسرت زوجها وزوج ابنتها الوحيدة في أحداث معركة التحرير الأخيرة ضد داعش. من بين دموعها ترمي زهراء حملها على “ربي ال ما ينسانا”، تصبّر نفسها على وجعها بإيمانها. أرملتان ويتيمان.. قصة تشابهها قصص كثيرة في المدينة التي بدت بعد المعارك كمدينة ضربها الزلزال. وزلزال داعش أدمى قلوب بالآلاف، وشق عائلات ومنازل وفرقها إلى غير رجعة..
بيوت المدينة القديمة مليئة بالحكايا المشابهة. في كل منزل وزقاق ثمة من قتلوا، او انقطعت اخبارهم حين كانوا اسرى بيد داعش، والمئات, وربما الالاف من جثث الضحايا المجهولين، ما زالت مطمورة تحت هذه الأنقاض. لم تبدأ عملية اغتيال مدينة الموصل يوم احتلال داعش لها في العاشر من حزيران/يونيو 2014، بل بدأت قبل ذلك بوقت قصير مع عمليات اغتيال واسعة كانت الخلايا النائمة لداعش تنفذها في المدينة، منهجية تحضيرية لبث الرعب، وتمهيد الطريق للهجوم الكبير على المدينة. نمط الحياة تحت احتلال داعش كان كابوسا على أهلها. فقد تحولوا لرهائن مجبرين على العيش وفق إجراءات صارمة تحولت فيها المدينة لثكنة كبيرة لمليشيات خارجة عن كل القوانين الدولية والإنسانية. قبل معركة الموصل الاخيرة بعدة أشهر، احتكر داعش كل المواد الغذائية والدوائية في مدينة الموصل، وترك الاهالي يعيشون وطأة الجوع والمرض، وقتها حذرت الامم المتحدة من نفاذ المخزون الغذائي للمدينة، وتحدثت عن مجاعة واسعة راح ضحيتها المئات من الموصليين، معظمهم من الأطفال وكبار السن. كان واضحا حينها أن داعش يستخدم الغذاء سلاحا في معركته ضد أهالي المدينة. لا تعرف أم حمزة مصير ابنها البكر الذي اعتقله مسلحو داعش. فحتى هذه اللحظة، ما زال مصيره مجهولا، ومن وسط دموعها استنجدت بتلفزيون الآن ووسائل الإعلام علها ترى أملا ويعود حمزة إليها يوما ما. ويتذكر الطفل معتز تفاصيل ذلك اليوم الذي فقد فيه أخاه الأكبر ياسر.
كلف احتلال داعش لمدينة الموصل ومدن عراقية آلاف الضحايا، وآلاف المختطفين والمفقودين، وخمسة ملايين نازح يعيش معظهم في المخيمات، ودمار أكثر من 40 الف منزل ومبنى، نصفها تقريبا في مدينة الموصل، وخسائر تقدر بأكثر من 100 مليار دولار. خسائر مادية هائلة لكنها لا تساوي شيئا أمام المعاناة الإنسانية التي عاشها الأهالي في الموصل وسنجار وغيرها. لم ينجح داعش في إرساء قواعد لدولته المزعومة. خرج مقاتلوه من أنقاض المدن التي دمروها ليسلموا أنفسهم للقوات العراقية المحرِرة حفاظا على حياتهم. نهاية تحمل الأمل بالرغم من كل شيء. فبعد ثلاث سنوات تحت وطأة التطرف، أثبتت الموصل أن حرب التطرف على الأجيال خاسرة، وأنه مهما طال الزمال، فإن الارض لن تتسع للمتطرفين أياً كانوا..
قم بكتابة اول تعليق