أفق – د. رفيف رضا صيداوي*
للاحتجاجات في فرنسا، التي انطلقت مع إضراب أصحاب السترات الصفر قي أواخر شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت، دلالات متفرِّقة ومُتداخِلة. وهي لا تحيل على المحلّي الفرنسيّ فحسب، وإنّما على عالَمٍ غارق أيضاً، بشمالِه وجنوبِه، في تخبّطاته وتحوّلاته. أدبيّات كثيرة رافقت ولمّا تزل الأحداث هذه، مركِّزةً على إيمانويل ماكرون، فيما كانت أدبيّات سابقة قد حدست قبل أشهر من بدء الاحتجاجات، أي منذ انتخابه رئيساً لجمهوريّة فرنسا في أيّار (مايو) 2017، بفشله المُحتّم. من هذه الأدبيّات دوريّة “الكورييه إنترناسيونال”، التي نشرت في عددها الصادر في 23- 29 تمّوز(يوليو)2018 مقالةً بعنوان: “نهاية أسطورة ماكرون”La fin du mythe Macron . فماذا تخفي هذه الأسطورة وراءها؟
المحلّلون والمعلّقون والخبراء السياسيّون والاجتماعيّون والاقتصاديّون، عرباً وأجانب، وبمنِ فيهم الفرنسيّون بالطبع، كَتَبوا كثيراً عن الوضع الفرنسي الداخلي، ولاسيّما عن التغيّرات التي تمرّ فيها فرنسا، كما غيرها من دول العالَم، منذ انهيار الاتّحاد السوفياتي، وتوقيع معاهدة ماستريخت في العام 1992، التي أسَّست لقيام الاتّحاد الأوروبي وما أفضى إليه ذلك من نقْل صلاحيّات الدول القوميّة إلى المؤسّسات الدوليّة الأوروبيّة، وعلاقة هذه التحوّلات كلّها بالعَولمة وشركاتها ومؤسّساتها العابرة للدول والقارّات. كما بتنا نشهد منذ مطلع الألفيّة الثالثة اتّجاهاً نحو نعي الدولة الراعية أو دولة الرفاهيّة والترحّم عليها، بوصفها آخر معقل من معاقل حماية الفقراء الذين يفرزهم النظام الرأسمالي النيوليبرالي وأزماته المُتعاقبة.
مقالة “نهاية أسطورة ماكرون”، الآنفة الذكر، أشارت إلى ما كانت الصحف العالَميّة قد بدأت تحدس به بعد أشهر من وصول ماكرون إلى رئاسة جمهوريّة فرنسا حول إخفاقه المحتّم؛ إذ إنّ الآمال التي بشَّر بها ماكرون في كانون الثاني (يناير) من العام 2018 في المُنتدى الاقتصادي العالَمي في دافوس أَغوت الكثيرين. في حين أنّ معدّل النموّ في فرنسا لم يتخطَّ بعد 6 أشهر من رئاسته سوى نسبة 0,2 %، وسجَّل الإنتاج الصناعي تراجُعاً بنحو 1,3%، وارتفع مستوى البطالة، الذي كان قد تراجع ببطء في العام 2017، ليُسجِّل 83000 طلب عمل جديد. واستناداً إلى إحصاءات مؤسّسة موليناري (Molinari) العائدة لصيف العام2017، فإنّ فرنسا هي البلد الأوروبي الأعلى من حيث الضرائب، أمّا الضرائب هذه والضمان الاجتماعي، فيقتطعان نسبة 56,73 % من أجرِ مواطنٍ فرنسيّ متوسّط الحال مقابل 54 % في النمسا وبلجيكا، و44 % كمتوسّط لقيمة هذا الاقتطاع الضريبي في الاتّحاد الأوروبي، هذا فضلاً عن الهجرة المُتزايدة لمحدودي الدخل والفقراء نحو الضواحي البعيدة والأرياف.
وبحسب الجريدة الألمانيّة اليوميّة Die Welt، بَرهَن ماكرون لناخِبيه من اليسار أنّه ليبراليّ صافٍ وشديدٌ في ليبراليّته، وأنّه رئيس الأغنياء، وأنّ سياسته لا تنطوي على بُعدٍ اجتماعي. ماكرون بحسب الصحيفة تنكَّر للوعود التي أطلقها في حملته الانتخابيّة، التي أكَّد خلالها عزمه على إعادة ” الكرامة والفخر أو العزّة إلى أراضي الجمهوريّة كافّة”.
صحيح أنّ أزمة فرنسا لها جذورها منذ عقود، وهذا ما أشار إليه ماكرون نفسه في أكثر من مناسبة، ولاسيّما أنّ الدَّين العام في فرنسا ازداد خلال السنوات الخمس عشرة الماضية(في عهود ساركوزي وهولاند وماكرون) من 1000 مليار يورو إلى 2500 مليار يورو، إلّا أنّ سعي ماكرون إلى تكريس مركزيّة الحُكم، وحصْره السياسة بشخصه وبشخوص المجموعة المُحيطة به، وما أبداه من دوغمائيّة وتعالٍ ومُكابرة، هي كلّها صفات ومُمارسات أسهمت في تأجيج الاحتجاجات في فرنسا. فصورته كممثِّلٍ وشريكٍ ومُنحازٍ لطغمة التكنوقراط ومَصالِح الأوساط الماليّة المُهيمِنة، أي كرئيس للأثرياء، كانت بمثابة الفتيل الذي أشعل النار التي أتَت لتُعيد تصويب مَسارٍ يرفضه الفرنسيّون الذين تشبّعوا بقيَم بلدهم ذي النموذج الأبرز في علمانيّته وديمقراطيّته المتمثّلة في احترام المُعتقدات الدينيّة والمبادئ اللّيبراليّة، وأبرزها التضامُن الاجتماعي وغير ذلك من مبادئ فلسفة عصر الأنوار والثورة الفرنسيّة وقيَمهما. صحيح أنّ هذه الاحتجاجات لم تكُن نابعة من تنظيمٍ حزبي، يمينيّ أو يساري، إلّا أنّها جاءت من أغلبيّة مكوَّنة من أبناء الطبقة الشعبيّة والشريحة الدنيا من الطبقات الوسطى، وذلك بحسب تقرير لمجموعة باحثين نشرته صحيفة “لوموند” الفرنسيّة في 11 / 12 / 2018؛ بحيث شكّل صغار الموظّفين 33 % من مجموع المُتظاهرين، والعُمّال14%، والحرفيّون وصغار التجّار10,5%، وأصحاب المِهن الوسطيّة 10%، والموظّفون المتوسّطون 5 %، والمُتقاعدون والعاطلون عن العمل 25,5 %. هذا فضلاً عن نسبة مُشارَكة مرتفعة من الفئة العمريّة 35-41 سنة، تليها الفئة العمريّة 50 – 64 سنة، ثمّ فئة الأعمار 25- 30 سنة؛ أمّا نسبة مُشاركة فئة الأعمار ما فوق 65 سنة فقد بلغت 17,3%.
في هذا ما يُشير إلى مُشارَكة الكتلة البشريّة النّابِضة في المجتمع الفرنسي، واتّجاهها- كما سبقت الإشارة- إلى تصويب المَسار المُفضي إلى تكريس جغرافيّات التهميش والفقر، الّتي أفرزتها العقود السابقة، والتي تتّجه أكثر فأكثر إلى تكريس ارتباط الإقصاء الاجتماعي بشدّة بالأرض أو بالقطر أو الإقليم، وإلى إعادة التوزيع المكانيّة للمُهمَّشين الاجتماعيّين أو للمَقصيّين بوصفها ذات دَورٍ مباشر في تموضعهم ضمن النظام الاقتصادي، على حدّ تعبير الباحث البلجيكي نيكولا برنارNicolas Bernard في كِتابه “الفقر المُستلَب في علاقته بالمَكان” (La pauvreté aliénée dans son rapport à l’espace 2006)، والذي يَرِد فيه أنّه ” إذا كان التهميش الاجتماعي والفصل المَكاني يسيران معاً، فإنّ كلّاً منهما يبدو كما لو أنّه يستقوي بالآخر. كما أنّ الفقر المُركَّز أو المُتمركِز جغرافيّاً يُضاعِف من آثار الفقر الفرديّ”.
أبعد من فرنسا
على الرّغم من التنازلات التي أطلقها ماكرون منذ بدء الاحتجاجات ولغاية الآن، إلّا أنّ هذه الاحتجاجات، التي بلغت جولتها العاشرة يوم السبت في 19 كانون الثاني(يناير) الفائت، لم تَفتُر معها أعداد المُتظاهرين؛ إذ بلغت أعدادهم في أنحاء فرنسا كلّها، وبحسب مَصادر وزارة الداخليّة الفرنسيّة، نحو 84,000 مُتظاهر. وبالتالي تتمثّل رمزيّة هذا الحدث، بغضّ النّظر عن أعداد المتظاهرين أو حتّى عن ماكرون نفسه، في دِفاع الكتلة النّابِضة في المجتمع الفرنسي عن نموذجٍ اجتماعي آخذٍ في التآكُل، ضدّ نِظام اقتصادي عاجزٍ عن مُكافحة انتشار الفقر وتمدّده، وعن تقديم ما يَلزم للفقراء لكي يعيشوا بكرامة. لعلّه دِفاع الطبقة الوسطى عن وجودها كطبقة، كانت خلال الثلاثينيّات المجيدة، الحامِل الحقيقيّ للقيَم، بقدر ما هو دِفاع معظم الشرائح الاجتماعيّة، من العامل البسيط إلى صاحب الكادر الوظيفي العالي، عن الشعور بالاندماج الاجتماعي الذي وفّرته تلك الفترة المجيدة من تاريخ أوروبا، وربّما العالَم، نتيجة التغيّرات الاقتصاديّة والمجتمعيّة العظيمة آنذاك. وكان عالِم الاجتماع الفرنسي كريستوف غيلي Christophe Guilluy، قد نعى الطبقة الوسطى الأوروبيّة في كتابه الجديد الصادر في تشرين الأوّل(أكتوبر) عن دار فلامارّيون Flammarion بعنوان: “No Society. La fin de la classe moyenne occidentale” ، مُحذِّراً من الاصطفاف الحادّ القائم في المجتمع بين مَن هُم “فوق”(النّخبة الثريّة التي تتوافق مصالحها مع النيوليبراليّة) ومَن هُم “تحت”(في القاع).
ما جرى إذاً، هو أنّ رؤساء مثل ترامب في الولايات المتّحدة وماكرون في فرنسا، وصلا إلى الرئاسة من خارج أُطر اليمين واليسار؛ أي من خارج إطارَين سياسيَّين زخرا على مدى عقودٍ بمعانٍ كثيرة، لعلّ أبرزها التضامن الإنساني والاجتماعي. لكنّ الحاصل أنّ اليسار واليمين باتا بدَورهما الآن آيلَين إلى الموت في ظلّ افتقار الأحزاب السياسيّة إلى المشروعات، وتحوّل هذه الأحزاب إلى مجرّد ماكينات انتخابيّة يسيّرها أناس مشغولون حصريّاً بالاستئثار بالمَناصب والمَقاعد والمَواقِع السلطويّة، ووقوع الناس ضحايا لامُساواةٍ وتنافُس أوجدَهم فيهما سوقُ العملِ العالَميّ، وشعور ملايين الشباب في فرنسا، والعالَم، بعدم وجود مكان لهم. وهي كلّها عوامل راحت تشير إلى المأزق الخطر للديمقراطيّة نفسها، ولاسيّما أنّها لا تقتصر على كونها نِظاماً سياسيّاً بل على كونها ” شعوراً مُشترَكاً لدى الجميع بأنّ كلّ واحد منهم لديه قدراً من السلطة على المصير الجماعي”( بيار كالاميه ,Pierre Calamé، Petit Traité d’oeconomie 2018).
نجاح ماكرون عائد إذاً إلى أنّ عالَم “التحت”، الذي بات مُنقسِماً، لم يَجد بطله، فيما تقوم خارطة طريقه وطريق أمثاله من المُشتغلين لمَصالح الأوساط الماليّة المُهيمِنة، على تفكيك دولة الرفاهيّة، مع ما يعنيه ذلك من سحب البساط من تحت أقدام الموظّفين الذين تشملهم قوانين دولة الرفاهيّة والمُتقاعدين الذين سمحوا لماكرون بالوصول إلى الرئاسة في العام 2017.
وما الشعبويّة، بحسب كريستوف غيلي، إلّا جواب هذه الفئات الشعبيّة على ” أكبر خطَّة اجتماعيّة في التاريخ”، تُهدِّد باختفاء المُجتمعات نفسها، بمعنى أنّ هذه الفئات الشعبيّة هي نِتاج اختفاء الطبقة الوسطى. فالشعبويّة هي بمثابة ” الجزء المرئيّ من القوّة الناعمة للطبقات الشعبيّة التي تُجبِر عالَم الـ”ما فوق” على الانضمام إلى الحركة الحقيقيّة للمجتمع، وإلّا كان مصيره الزوال. لكنْ حتّى اللّحظة، فرنسا الـ”تحت” لم تَجد بطلها القادر على تجسيد هذه الشعبويّة”.
لعلّها احتجاجات تدعو إلى التساؤل عمّا إذا لم يكُن الوقت قد حان للتحرّك ضدّ المصير غير الآمن الذي ينحو صوبه الاقتصاد العالَمي الممسوك بأيدي التكنوقراط؟ هذا الاقتصاد العالَمي الذي عمد الباحث الفرنسي بيار كالاميه، في كِتابه Petit Traité d’oeconomie السابق ذكره، إلى إعادة تصويبه نظريّاً وفق مفهوم جديد هو الـ Oeconomie بدلاً من الـ Economie، الذي يصبح بموجبه ما هو مُلحق أو تابِع في الاقتصاد الحالي مركزيّاً، ويصبح المركزيّ مُلحقاً أو تابِعاً. بمعنى أنّ رفاهيّة الجميع والحِفاظ على المحيط الحيوي يغدوان بالنسبة إليه أهدافاً مركزيّة، في حين يغدو النموّ المادّي هو التابِع أو المُلحَق. فتغدو المُنافَسة، بوصفها جوهر الاقتصاد الحالي(L’économie)، مُلحَقاً أو تابِعاً في مفهوم كالاميه الجديد للـ oeconomie، بقدر ما يغدو التعاون هو المركزيّ.
*مؤسّسة الفكر العربي
قم بكتابة اول تعليق