كتبها : محمد حجاوي – إطار تربوي، وفاعل مجتمعي / عبد اللطيف الجابري – باحث، وفاعل مدني
يعتبر المغرب من بين الدول العربية التي كانت سباقة إلى فسح المجال لمختلف جمعيات ومنظمات المجتمع المدني لكي تنخرط بفعالية، إلى جانب باقي الهيئات والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية، في عملية إرساء أسس انطلاقة تنموية شاملة ومستدامة، تستجيب لحاجات الشعب المغربي وانتظاراته ، وتواجه بشكل إيجابي، التحديات المطروحة عليه محليا وعربيا ودوليا. فبمجرد حصوله على الاستقلال،وبالضبط في سنة 1958، سعى المشرع المغربي إلى إخراج نظام تأسيس جمعيات المجتمع المدني، الذي حدد ضوابطه وإجراءاته الظهيرُالشريف1.58.376 الصادر في 15 نونبر 1958، حيث اعتبر هذا النظام من أهم القوانين التي نصت على ضرورة صيانة حقوق وحريات المواطنين والمواطنات والعمل على إقرارها.
وقد أكدت على هذه الأهمية جميع الدساتير التي عرفتها الدول المغربية. وتم التأكيد عليها أيضا، وبقوة، في الدستور الحالي (2011)، الذي يشير في الفصل 29 إلى أن “حريات الاجتماع والتجمع والتظاهر السلمي، وتأسيس الجمعيات، والانتماء النقابي والسياسي مضمونة“، وينص في الفصل 33 على أنه ” على السلطات العمومية اتخاذ التدابير الملائمة لتحقيق مساعدة الشباب على الاندماج في الحياة النشيطة والجمعوية“.
فمنذ حصول المغرب على الاستقلال، وبالضبط في سنة 1958سنة صدور ظهير الحريات العامة، إلى الآن، شكلت فترة نضال مواطن سمحت للعديد من جمعيات المجتمع المدني، على اختلاف توجهاتها وتباين أهدافها، وتباعد أو تقارب مجالات اشتغالها، بالظهور والتشكل والمشاركة في تأطير وتثقيف وتوعية المواطنين والمواطنات بحقوقهم وواجباتهم، ومساعدتهم على الانخراط الفاعل في ممارسة الأنشطة والمهام التي تقودهم إلى التطور، وتيسر اندماجهم الإيجابي، في المحيط السوسيو اقتصادي. مما أفرز عددا هائلا ومتنوعا من جمعيات المجتمع المدني.
واستحضارا لنتائج تقويم الممارسة الجمعوية والتنموية ببلادنا، نتساءل:- هل فعلا، ساهمت معظم جمعيات المجتمع المدني في إرساء أسس التنمية الشاملة والمستدامة، وترسيخ قيم ومبادئ حقوق الإنسان أم أن جزء منها ابتعد عن أهدافه، والأجزاء المتبقية منها ما ركز على مصالح أعضائه الشخصية، ومنها ما ارتمى في أحضان السلطة أو خدمة (أجندات) الانتخابات، ومنها ما تستر وراء الأحزاب والنقابات، والقليل منها أخلص لأهدافه ومبادئه؟ – ألا يمكن اعتبار هذا العدد الهائل والكبير من الجمعيات تفتيتا مقصودا للممارسة الجمعوية وإفراغا لمضمونها وأهدافها؟- ثم كيف لهذه الجمعيات أن تشتغل بفاعلية، في ظل ظروف مادية ومالية صعبة وغير مسعفة؟ وهل انفتحت وتفاعلت مختلف مجالات و قطاعات التنمية الشاملة وحقوق الإنسان على خدمات وأنشطةهذه الجمعيات؟ وما العمل من أجل أن نجعل من جمعيات المجتمع المدني تنخرط بفعالية، في إنجاز أوراش التنمية المنشودة وترسيخ قيم حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية؟
هذه التساؤلات وغيرها سنحاول مقاربة الإجابة عنها من خلال تركيزنا على المحاور التالية: I. مفهوم المجتمع المدني والخصائص المميزة له:
هناك العديد من التعاريف والتحديدات التي أحاطت بمفهوم المجتمع المدني، لا نريد بسطها هنا، ولا تبيان الاختلافات الموجودة بينها، بقدر ما نستحضر تعريفا تركيبيا وشاملا لهذا المفهوم، وذلك وفق ما يلي:
المجتمع المدني نمط من التنظيم الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي، مستقل، لا يخضع للتدبير أو الإشراف المباشر للسلطة، فاعل وتطوعي وحر، يسعى إلى تحقيق أهداف واضحة ومضبوطة ومشروعة، ويتشكل من منظمات أو جمعيات أو هيئات معترف بها. وتتميز فعاليات هذا المجتمع المدني بالخصائص الأساسية التالية:
أولا، الاندماج والتكيف:
ويقصد بذلك، قدرة جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني على التكيف الإيجابي والتأقلم التفاعلي مع مختلف التطورات والتحولات والمستجدات التي يعرفها المحيط الذي تتواجد فيه تلك الجمعيات وتشتغل في إطاره.
ثانيا، الاستقلالية والحياد:
بمعنى ألا تكون هذه الجمعيات خاضعة لغيرها من المؤسسات أو الهيئات أو الجماعات أو الأفراد، أو تابعة لها حيث يسهل توجيهها السيطرة عليها.
ثالثا، الانسجام و التجانس:
ويشير إلى عدم وجود صراعات ونزاعات و تطاحنات بين أعضاء ومنخرطي الجمعية الواحدة، أو الجمعيات فيما بينها، لأن من شأن ذلك، أن يؤثر سلبا على أنشطتها ومهامها وأهدافها ومشاريعها.
رابعا، الديمقراطية:
إذ على فعاليات المجتمع المدني أن تتوفر على المبادئ والمقومات الديمقراطية التالية:
1- الإيمان بكرامة الإنسان و احترام حقوقه وتقبله كما هو، دون احتقاره أو استغلاله أو ابتزازه أو التقليل من أهميته؛
2- اعتماد مبدأ العدل والإنصاف وتكافؤ الفرص أمام الجميع؛
3- العمل على تشجيع الاختلاف والتجديد والإبداع ضمانا للإضافة النوعية، وتحقيقا للتغيير المجتمعي المنشود؛
4- العمل على إفساح المجال أمام الأفراد والجماعات للمشاركة الفعالة والفاعلة في تدبير شؤون المجتمع، وحفزهم إلى ممارسة حريتهم وإنسانيتهم؛
5- القدرة على تلبية حاجات الأفراد والجماعات الضرورية والمتنوعة،والضامنة للعيش الكريم؛
6- مقاومة كل أصناف الظلم والعدوان والعنف الجسدي والمعنوي، والإرهاب المادي والفكري، والاستبداد والاستغلال، والتعصب العقدي والتمييز العرقي، والفوارق الطبقية الحادة؛
7- التمتع بالإرادة الحرة والعزيمة القوية، والجرأة على اتخاذ القرارات الملائمة والناجعة.
II. المجتمع المدني والتنمية وحقوق الإنسان، أي تفاعل؟
ترتبط مهام وأدوار ومشاريع وأنشطة جمعيات المجتمع المدني بالمساهمة النوعية والفاعلة في توطيد مرتكزات التنمية الشاملة والمستدامة المنتظرة، وترسيخ قيم ومبادئ حقوق الإنسان الكونية، وذلك من خلال استناد إنجازاتها وممارساتها إلى المجالات التالية:
المجال الأول: ويتعلق بمدى قدرة هذه الجمعيات على النهوض بالخدمات والمهام والأدوار الاعتيادية الكلاسيكية التي تعودت على القيام بها.
المجال الثاني: ويتصل بمدى قدرة هذه الجمعيات على المشاركة والمساهمة في إرساء لبنات انطلاقة تنموية شاملة وترسيخ قيم وحقوق الإنسان وممارستها، وذلك من خلال العمل على تقوية قدرات ومهارات وأداءات ومرافق الموارد البشرية التي تشتغل بمختلف القطاعات والمجالات التنموية المحورية.
المجال الثالث: ويرتبط بمدى قدرة هذه الجمعيات على المساهمة في بلورة السياسات الاستراتيجية، و رسم الخطط العملية، وتحديد المعالم الإرشادية التي ينبغي أن توجه تدبير الشأن الوطني أو المحلي، وذلك من خلال اقتراح المشاريع والترافع بشأنها قصد التأثير في صنع السياسات العامة، وإدماج البدائل المجتمعية الحيوية ضمنها.
ولإقرار ذلك، يتعين على هذه الجمعيات أن تلجأ إلى تفعيلا لاستراتيجيات التالية:
1- استراتيجية الرصد والمراقبة والبحث عن المعلومات الضرورية،والتمكن منها باعتبارها حقا من الحقوق المكفولة دستوريا لكل المواطنين؛
2- استراتيجية تأسيس مراكز الأبحاث والدراسات، وتقديم الاستشارات، وإجراء البحوث والمسودات وتحليلها واستثمار نتائجها؛
3- استراتيجية المطالبة بتحقيق العدالة الاجتماعية، والتصدي للانتهاكات التي قد تطال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للأفراد والجماعات؛
4- استراتيجية الضغط وحشد التأييد من أجل تجسيد الإقرار العملي بحقوق المواطنين والمواطنات، وصوغها واقتراح مستجداتها.
يتضح، مما سلف، أن عمل وإسهام منظمات وهيئات المجتمع المدني لا يقتصر فقط، على تقديم الخدمات الاجتماعية وتلبية الحاجيات الضرورية، بل إضافة إلى ذلك، فإنها تساهم في إشاعة سلوكات وقيم جديدة.
ورغم أن مجالات تدخلها عديدة ومتنوعة تهم مختلف فئات المجتمع وقضاياه الجوهرية والحيوية إلا أن مساهمة معظمها في التنمية الوطنية أو المحلية وترسيخ قيم حقوق الإنسان تظل محدودة، متفاوتة، لا تعكس المنتظر منها، ولا تفي بالأهداف المتوخاة من وراء اشتغالها، فإلآم يمكن إرجاع ذلك؟
III. إكراهات وعراقيل جمعيات المجتمع المدني
أكيد أن مساهمة جمعيات المجتمع المدني في الشأن التنموي الوطني والمحلي وترسيخ قيم ومبادئ الديموقراطية وحقوق الإنسان حاجة ملحة، وضرورة مجتمعية قوية لا يمكن تجاهلها أو التقليل من حيويتها، إلا أن وجود العديد من العراقيل والصعوبات حال ويحول دون تحقيق هذه الجمعيات لأهدافها. ولعل من أهم هذه الإكراهات ما يلي:
1- محدودية دور الشباب وقلتها وقصورها، فحسب بعض الإحصائيات توجد 239 دار للشباب، في المقابل نجد أكثر من 16 مليون شاب؛
2- غياب شبه تام لدور الشباب ودور الثقافة بأغلب القرى والبوادي والأحياء الجديدة في أطراف المدن؛
3- محدودية المنح أو الدعم المالي والمادي للجمعيات الثقافية والتربوية؛
4- تعدد الجهات الوصية على العمل الجمعوي، وإجبار معظم هذه الجمعيات على الاشتغال داخل المؤسسات العمومية؛
5- خلق جمعيات صفراء، ودعمها، ومنحها صفة المنفعة العامة؛
6- إقفال باب الدعم والمساعدة المالية والمادية للأنشطة المنجزة من لدن الجمعيات المستقلة؛
7- ضرب الحصار وخنق عمل الجمعيات الجادة والهادفة، وتعمد العمل على التضييق عليها ومنع أنشطتها وإنجازاتها الإشعاعية والتوعوية؛
8- ضعف ومحدودية ميزانية وموارد الجمعيات المالية والمادية مما يعوق تنفيذ مشاريعها وبرامجها التنموية؛
9- سيادة البيروقراطية داخل كثير من الجمعيات، وعدم احترامها لثقافة ومبادئ العمل الجمعوي الجاد، والمنحاز لمصلحة المجتمع؛
10- وقوع بعض الجمعيات في الخلط بين العمل الجمعوي والسياسي و النقابي والحقوقي؛
11- تحول بعض الجمعيات إلى إطارات خاصة، و نواد مغلقة ومنعزلةعن باقي مكونات المجتمع المغربي؛
12- تركيز معظم الجمعيات على الأنشطة المناسباتية، المأجورة أحيانا، بدل الممارسة النوعية المحايثة لنبض الشأن المجتمعي؛
13- لجوء بعض الجمعيات في ممارسة أنشطتها إلى أساليب وأدوات تقليدية ومتجاوزة لا تساير التحولات العامة؛
تلك إذن، بعض من أهم العوامل التي يستنتج أنها تعرقل مساهمة معظم جمعيات المجتمع المدني في خلق الأجواء المشجعة، وتوفير الظروف الملائمة والإمكانيات الضرورية لانطلاقة تنموية شاملة، تراعي حاجات المواطنين والمواطنات الحقيقية، وتنسجم مع ميولاتهم الجوهرية، وتستجيب لانتظاراتهم النوعية، وتحقق الرهانات المجتمعية المشروعة.
فهل من سبيل إلى إيقاظ الفكر، وتجديد التشريع، ومأسسة التنظيم، وتطوير منهجيات الاشتغال وأساليبه لدى كل من المسؤولين والهيئات المدنية؟ وهل يمكن المراهنة على الوعي باللحظة التاريخية وتداعيات الزمن الجديد وتحدياته للانكباب على المراجعة والتصحيح، والتأهيل والتحصين حتى تنبري مساهمة المجتمع المدني فارقةً ومائزةً في بلورة النموذج التنموي الجديد؟…
قم بكتابة اول تعليق