بقلم : يونس التايب
من مصائب كل زمن أن يظهر فيه متكلمون ينشغل بهم الناس، لا هم بتقاة القوم و لا بعلماء، و لا هم يجسدون في حقيقة الأمر قدوة إنسانية أو منارة فكرية تبرر الإقدام على كلامهم أو تشفع لهم فيما يقولونه. كل ما في الحكاية أنه اجتمعت في أدمغة هؤلاء المتكلمين، خصائص كيميائية و نفسية جعلتهم يزكون ذواتهم بما لا يراه فيهم أحد، و لا يبرره منطق أو عقل سوي. وقد حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم، من مثل تلك النماذج، عندما قال أنه: “سيأتي على الناس سنوات خدّعات، يُصَدق فيها الكاذب ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل و ما الرويبضة يا رسول الله؟ قال : الرجل التافه يتكلم في أمر العامة». كما حذر من مثل تلك النماذج كل حكماء البشرية منذ العهد الإغريقي إلى القرن العشرين، من أرسطو و أفلاطون، إلى طولسطوي و برنارد شو، مرورا بكل الأنبياء و الرسل و الأولياء والصالحين.
المشكل أنه مع بدايات القرن الواحد والعشرين، و دخول البشرية مرحلة الانفجار الرقمي ظهرت منصات تواصلية لا تعد و لا تحصى، و أخذت عبرها ظاهرة المتكلمين الرويبضة شكلا غير مسبوق من حيث أثرها و سرعة انتشارها بين الناس، بعد أن أصبح بإمكان المتكلمين التافهين أن يحتلوا الساحة، وأن يتلفظوا بما شاؤوا من كلام، كثير منه رديء وسيء و غوغائي. وهكذا صرنا نرى و نسمع ما لا يمكن لعقل سوي منضبط لأعراف مجتمعية عادية، و ملتزم بأخلاق إنسانية طبيعية، أن يقبله أو أن يتقاسمه مع ذويه و أقاربه. و من ذلك، ما ابتلينا به من مصيبة الروتين اليومي الذي انتشر كالنار في الهشيم ليشيع ميوعة بئيسة، بلغة منحطة، وكلام ساقط، و محاولات قبيحة لإثارة حواس أصحاب النفوس المريضة.
كما برزت، بموازاة ذلك النوع، نماذج أخرى من المتكلمين يحشرون أنفسهم في كل قضية من القضايا، سياسية و مجتمعية و فكرية و دينية، ليفتوا فيما ليس لهم به علم، و يدافعوا عن أفكار تخصهم هم و لا سند لها، و يروجون لطروحاتهم بشكل شعبوي يعادي العقل والمنطق ومنهج المحاججة والحوار. ومثال ذلك، ما قرأناه خلال نهاية الأسبوع الماضي، من تفاعل و جدل بشأن رأي كتبه شخص حقر فيه من مكانة النساء و نصح المقبلين على الزواج بالابتعاد عن المرأة العاملة التي لا يرى لها هو موقعا آخر سوى المطبخ. الغريب أنه بعد البحث تبين أن الناصح غير الأمين، له زوجة تعمل خارج المنزل و هي من تعيله، فيما هو متفرغ لإصدار لايفاته و تدويناته.
أظن أنه، في هذه الحالة كما في حالات كثيرة نصادفها على مواقع التواصل الاجتماعي أو في الإعلام، وتروج لها للأسف بعض المواقع الإلكترونية التي تخصصت في الإثارة و نشر كل حالة معيبة و خارجة عن المألوف في مجتمعنا، يجب على العقلاء والمتزنين من عموم الشباب الواعي و الغيور في هذا الوطن، الانتباه إلى نقطتين هامتين :- أولا، أن هذا الشخص العالة على زوجته، و غير المهم بتاتا، قد اعتاد منذ سنوات الخروج بآراء تجعله محط جدل وتجاذب إعلامي على صفحات منصات التواصل الاجتماعي. بما يعني أنه لا جديد في كونه أتى اليوم بشطحة إضافية بعد شطحات سابقة، لم تجد أبدا رأيا عاقلا و حكيما يزكيها .- ثانيا، إن الخوض مع ذلك الشخص فيما يقوله كل مرة، أو الخوض مع من هم على شاكلته، خارج سياق نقاش تفاعلي بشكل حقيقي و عالم يتناول ظاهرة من الظواهر المجتمعية في إطار معين، إنما هو فقط مضيعة للوقت و سقوط في فخ ينصبه بمكر، هو و من على شاكلته، للمجادلين الذين تستفزهم تلك الآراء، حتى يدخلوا مع أصحابها في سجال يأتي عادة بنتائج عكسية لأنه يخرجهم إلى نور الاهتمام الإعلامي على نطاق واسع، بعد أن كانوا سجناء في عتمة صفحاتهم الفيسبوكية. و بذلك تمنح تلك الآراء صدى مضاعفا، و قد يبدو صاحب الرأي المعيب، بطلا مغوارا في أعين من يتقاسمون معه نفس زاوية النظر و الرؤية و الخصائص النفسية. بالإضافة إلى أن التفاعل الكثيف، قد يدر عائدات مالية بسبب كثرة الزيارات و مشاهدة المنصات الإلكترونية التي نشرت بها ترهاته.
لذلك، اقتراحي في هذا الموضوع، هو في رأيين :- الأول، هو إذا كان ولا بد من التفاعل مع الأفكار المستفزة التي تصدر هنا و هناك، يستحسن أن يتم ذلك دون الإشارة لصاحب القول، و دون التركيز عليه، كي لا يبدو في صورة المظلومية و كأنه يتعرض للهجوم، لينتهي الأمر بأن نجعله علما يتحولق حوله كل من يبحث عن ملهم و مرشد، أو نحوله إلى بطل لمن يتطلعون إلى “دون كيتشوط” جديد ينصرهم فيما هم فيه من معارك مع طواحين الهواء.
– الثاني، هو أن لا نتفاعل بالمرة مع مثل تلك الترهات، لأنها ليست نظريات أو مرجعيات فكرية أو كتب علمية تستحق التفاعل، إنما هي جمل ركيكة تحمل أفكارا رديئة لأشخاص لولا شبكات التواصل الاجتماعي لظلوا نكرات بامتياز. من خلال عدم التفاعل سنجعل هؤلاء المتكلمين الرويبضة يبدون كمن خرجت منه ريح أفسدت الهواء لبضع ثوان، ثم ما يلبث أن يذوب الأثر النتن في رحابة الفضاء النقي، دون أن يلتفت أو ينتبه غالبية الناس، و تستمر الحياة.
صراحة، أنا أفضل الرأي الثاني، وأستحضر في ذلك حكمة بالغة قالها، فيما أعتقد، الإمام علي كرم الله وجهه و رضي عنه، جاء فيها : “لا تجادل السفيه فيغلبك بسفهه، ولا تجادل الجاهل فيغلبك بجهله، ولا تجادل الأحمق فقد يخطئ الناس في التفريق بينكما”.
و لعل أكبر فائدة يمكننا أن نجنيها من تفادي التفاعل مع التافهين الذي أنصح به، هي أن نوفر ذكائنا و جهودنا لما هو أنفع، ونوجه طاقاتنا للتفكير في خير الناس وفي صناعة مجد الوطن، ونجتهد لاقتراح حلول لقضايا الشباب والبطالة، ونفكر في سياسات عمومية بديلة يمكنها أن تحقق الإدماج الصحي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والمعرفي، و نعزز بطاقاتنا وتواصلنا البناء روح البناء الديمقراطي و المشاركة المواطنة. كما يمكن أن نوفر الجهد لندعم النماذج المضيئة و النقية في هذا الوطن، حتى نساهم بأن تشيع القدوة الحسنة، أو نبدع في بلورة حلول تحفظ الكرامات وتعين الضعفاء المحتاجين على تجاوز واقع سلبي يعيشون في ضغطه اليومي. هؤلاء بالتأكيد لا يحتاجون إلى صاحب الرأي العجيب، و لا يستحقون ريحه النتنة، وربما يؤاخذون علينا أننا لم ننفعهم في قضاياهم إذا نحن انشغلنا عنهم بترهات نزيدها قيمة عندما نتحدث عنها و نوليها اهتمامنا.
بالتأكيد نحن نعيش مرحلة صعبة من تاريخ العالم، ويستحق أبناء الأمة المغربية فيها أن لا نشتث الجهود فيما لا يعزز لديهم حب الحياة الكريمة، ويزيد من ثقتهم في وطنهم، ويمنحهم الأمل في المستقبل. و ما عدا ذلك، لا فائدة فيه للبلاد والعباد، كما لا طائل من التفاعل مع أصحاب الريح النتنة، إلا أن نقول لهم تطهروا كي يقبل منكم سعيكم في الأرض، أو نتجاهلهم حتى ينقرضوا في صمت.
قم بكتابة اول تعليق