أفق – محمّد سيّد رصاص*
خلال مدّة الربع الأوّل من العام 2020 انتشرَ (فيروس كورونا: كوفيد-19) في مئة وخمسين بلداً، وأصبح بمثابة وباء عالَميّ، قَلَبَ الحياة العامّة للبشر وأجبرهم على أن يكونوا حَبيسي المَنازِل، تاركين المَصانِع ومَكاتِب التشغيل الحكوميّة والخاصّة ومحالّهم التجاريّة، وجَعَلَ الشوارع فارغة من المارّة على الأرجل وفي السيّارات، وأَوقف وسائل النقل العامّة. كما أَغلقت ثمانون دولة حدودها البريّة والبحريّة ومجالاتها الجوّيّة.
في يوم 9 نيسان (إبريل) 2020 أعلنت كريستيلانا جيورجيفا رئيسة صندوق النقد الدولي (يضمّ 189 دولة) أنّ العالَم يعيش الآن “أسوأ أزمة اقتصاديّة منذ أزمة 1929”. يُمكن للأرقام أن تُساعِد على توضيح كلام السيّدة جيورجيفا: البطالة في الولايات المتّحدة (بحسب “نيويورك تايمز”، 9 نيسان 2020) ستُصبح في نيسان (إبريل) عند 15% بعدما كانت 3,5% في شباط (فبراير) الذي كان حصيلة نموٍّ في التوظيف استغرق 113 شهراً سابقاً. بين 14 شباط (فبراير) – 23 آذار (مارس) فَقَدَ المؤشِّر الصناعي لداو جونز ثلث قيمته.
التقديرات، وفق معدّل تأثيرات كورونا الحاليّة على العمليّة الاقتصاديّة الأميركيّة، هي أنّ الاقتصاد الأميركي سيتقلّص ناتِجه المحلّي الاجمالي في العام 2020 إلى ربع ما كان عليه في العام 2019، والبطالة ستصل في الصيف القادم إلى 30% (آدم توزي:”فورين بوليسي”، 9 نيسان 2020).
بحسب المَصدر السابق، الصين أصبحت البطالة فيها بنسبة 6,2% وهي أعلى نسبة منذ تسعينيّات القرن الماضي، وستعيش (بحسب مصلحة الأبحاث في الكونغرس الأميركي في بحث منشور يوم 26 آذار (مارس) تحت عنوان: “تأثيرات كوفيد – 19 على الاقتصاد العالَمي”) معدّل نموٍّ سالِب في الربع الأوّل من العام 2020، وهذا غير مسبوق خلال أربعة عقود في الصين منذ العام 1976. بحسب آدم توزي، فإنّ استهلاك البترول قد انخفض في دول الاتّحاد الأوروبي بنسبة 88% خلال شهر آذار (مارس) 2020، وستتأثّر دولٌ، حيث الكورونا أقلّ انتشاراً مثل اليابان، بقوّة بالأزمة الاقتصاديّة العالَميّة بفعْل انكماش الطلب العالَمي على السلع. بحسب دراسة الكونغرس الأميركي، فإنّ دولاً تعتمد بقوّة على تصدير السلع مثل ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبيّة وتايوان، ستتأثّر كثيراً بانكماشٍ اقتصادي سيصيب الدول الأكثر طلباً على السِّلع العالَميّة مثل الولايات المتّحدة (رقم واحد) ثمّ الصين، وأنّ الصين التي هي الآن بمثابة “ورشة العالَم” في تصنيع السلع (غالباً: السيّارات – الموبايل – الكومبيوترات) وفق سلسلة عالَميّة يتمّ فيها تجزيء العمليّة الإنتاجيّة على (مَراحل البدء – التركيب – الإنهاء) ستتأثَّر إلى حدٍّ بعيد، ما دامت ستزداد تكلفة إنتاج السلعة مع تعثُّر المِلاحة العالّميّة في زمن كورونا، وما دام الطلب العالَمي على السلع الصينيّة سيَخفّ ويقلّ في زمن الانكماش الاقتصادي العالَمي. بتأثير ما سبق، انخفض الطلب العالَمي على النفط بنسبة 30% خلال شهر آذار (مارس) 2020، وعندما انخفضَت أسعار برميل برنت تحت الثلاثين دولاراً في آذار (مارس)، تعالَت أصوات شركات النفط الصخري في الولايات المتّحدة (التي هي الآن أكبر مُنتِج للنفط في العالَم)، إذ إنّ أرباحها ستتبخّر مع أسعار أقلّ من 35-40 دولاراً للبرميل، ما دفعَ الرئيس دونالد ترامب للطلب من السعوديّة وروسيا أن تتّفقا على خفْضٍ كبير للإنتاج من أجل رفْع السعر. طبعاً الانكماش الاقتصادي العالَمي سيُخفِّض كثيراً الطلب على الطّاقة بشكلَيها النفطي والغازي، وهذا سيُلقي بثقله الكبير على الدول التي تعتمد أساساً على الاقتصاد في مداخيلها مثل النفط والغاز.
القوّة الذاتيّة لبعض الاقتصادات
نلفت هنا إلى أنّ الدولار الأميركي زادت قيمته في شهر آذار (مارس) 2020 بنسبة 3%، في حركة مُعاكِسة للانكماش الاقتصادي الأميركي. يُمكن تفسير هذا باتّجاه حاملي الأسهُم في الأزمة الحاليّة في السوق الأميركيّة والأسواق غير الأميركيّة نحو “الكاش” عبر بيع أسهُمهم، ولكنّ هذا التفسير جِزئيّ، حيث يجب الذهاب نحو أرقامٍ تؤكِّد أنّ الاقتصاد العالَمي مُدَوْلَر بفعل أنّ الدولار الأميركي (آذار/ مارس2020) يُشكِّل (خارج النطاق الجغرافي الأميركي) 88 % من حجْم التداوُل النقدي العالَمي، وثلثَيْ موجودات النقد للبنوك المركزيّة العالَميّة، ونصف موجودات النقد الأجنبيّة للبنوك، وثلثَيْ المُستجلبات النقديّة من البنوك والمحافظ النقديّة من قِبَلِ الشركات الصناعيّة (الدراسة المذكورة لمصلحة أبحاث الكونغرس الأميركي). يبدو أنّ الدولار سيكون حائط أمان للأفراد، وفعلاً زاد الطلب عليه وعلى اقتنائه عالَميّاً خلال الربع الأوّل من العام 2020.
هذه هي نقطة قوّة الاقتصاد الأميركي في العمليّة الاقتصاديّة العالَميّة منذ العام 1944 مع (اتفاقيّة بريتون وودز) عندما رَبَطَ استقرارُ الاقتصاد العالَمي، بعلاقةٍ ثابتة، القيمةَ بين الدولار والذهب. وحتّى عندما ألغى الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون في العام 1971 الربْط بين الدولار والذهب، تارِكاً الدولار للعرض والطلب، فإنّ دَوْلَرة الاقتصاد العالَمي قد زادت بفعل قوّة الاقتصاد الأميركي في عهد رونالد ريغان في الثمانينيّات، الذي لجأ إلى خفْض الإنفاق الحكومي وتخفيض الضرائب وزاد نسبة الفائدة في البنوك الأميركيّة على الإيداعات، ما أدّى إلى هجرة ضخمة نحو البنوك الأميركيّة من الخارج (656 مليار دولار في فترة 1981-1986). على الأرجح أنّ هذه الدولرة ستجعل التعافي الاقتصادي الأميركي من الأزمة أسْرع، وبخاصّة إذا ما ترافقت مع ما يُطالِب به اليمين الأميركي الجديد مع انتخاب ترامب عام 2016 بعودة الشركات الأميركيّة إلى أرض الولايات المتّحدة بدلاً من وجودها في شرق آسيا، وبخاصّة الصين التي تأتي صادراتها بنسبة 41,7% من شركات غير صينيّة موجودة على الأرض الصينيّة ومُستورداتها بنسبة 43,7% لمصلحة شركات ومنشآت غير صينيّة هناك (أرقام 2018، وفق دراسة في حزيران/ يونيو 2019 لمصلحة أبحاث الكونغرس).
معظم الشركات الأجنبيّة في الصين هي أميركيّة والعجز في الميزان التجاري الأميركي مع الصين، البالغ في العام 2018 مبلغ 418 مليار دولار، يعود في معظمه إلى مُنتجات للكومبيوتر والخليوي والألبسة والأحذية التي تأتي إلى الولايات المتّحدة مُستورَدة من شركات أميركيّة متوطِّنة في الصين (المرجع الأخير). يُمكن للأمر الأخير أن يُعطي صورة عن الضعف البنيوي للاقتصاد الصيني الذي هو ثاني اقتصاد في العالَم بعد الأميركي؛ وهذا أمر حصل عندما وضعت الصين اليابان في المركز الثالث للاقتصاد العالَمي. يُمكن للعيوب البنيويّة في الاقتصاد الصيني أن تجعل التعافي من الأزمات ليس في علاقة طرديّة مع قوّة الاقتصاد، وهذا ما لاحظناه في أزمتَي العام 1929و2008 حيث كانت سرعة التعافي مربوطة طرديّاً بقوّة الاقتصاد قبل الأزمة.. والعكس صحيح. قوّة الاقتصاد الأميركي أو الياباني أو الألماني ذاتيّة وليست بفعل عاملٍ خارجي كما نرى ونتلمّس رقميّاً في الاقتصاد الصيني الذي من المُحتمل أن تكون التأثيرات عليه من الأزمة الرّاهنة كبيرة، وبخاصّة إذا ما تحقَّق برنامج اليمين الأميركي بجلْب جديدٍ للشركات الأميركيّة من الخارج؛ وإذا استمرّ انكماش الطلب العالَمي على السلع من “ورشة العالَم” الصينيّة.
مؤخّراً، أدلى فرانك سنودن أستاذ تاريخ الأمراض في جامعة يال الأميركيّة بالتصريح التالي: “كورونا هو مرض ناتج عن حالة العَولَمة”. يضرب سنودن المثل على قوله بانتشار الوباء السريع في مدينة نيويورك التي هي مركز كوزموبوليتي عالَمي، حيث هناك اختلاطٌ كبير مع غير الأميركيّين. عندما انتُخب دونالد ترامب، كانت ولايات الساحلَين الشرقي والغربي الأميركيَّين مع هيلاري كلينتون، فيما الداخل الانعزالي والمُتضرِّر من العَولَمة مع ترامب.
هذا اليمين الأميركي الجديد الذي يمثّله ترامب هو ضدّ “العَولَمة” ومع “القوميّة الاقتصاديّة” التي تدعو إلى إغلاق الحدود أمام السلع غير الأميركيّة وأمام المُهاجرين وإلى فرْض حمائيّة جمركيّة. هذا اليمين يكره رجال البنوك المُتعولِمين في نيويورك وسان فرانسيسكو الذين يوزّعون استثماراتهم ويركّزونها في شنغهاي ومومباي أكثر من مدينتَي كانساس سيتي ودنفر في الداخل الأميركي مثلاً. في انتخابات الرئاسة الأميركيّة للعام 2016 صوَّت الفقراء والفئات الوسطى المُفقَّرة لليمين، فيما صوّت الأثرياء والفئات الوسطى الغنيّة لمُرشّحة ديمقراطيّة أقرب إلى اللّيبراليّة واليسار. سيزداد هذا المَيل نحو اليمين الأميركي بفعل أزمة 2020 الاقتصاديّة؛ كما زاد بشكلٍ صاروخي نفوذ الحزب النازي الألماني بفعل أزمة 1929 بالتوازي مع صعودٍ انتخابي أيضاً للحزب الشيوعي الألماني في انتخابات برلمان الرايخستاخ في العام 1932.
لا يُعرف إنْ كان بيرني ساندرز (انتقل الآن لدعْم جو بايدن في مُنازَلة ترامب) هو الأُفق المُستقبلي لليسار الأميركي، وهو في مَوقع يسار الحزب الديمقراطي، ولكنْ من المؤكَّد أنّ الانقسام الطبقي الذي سيزداد ويصل إلى حدودٍ حادّة في بُلدانٍ متقدّمة اقتصاديّاً (أميركا – ألمانيا) وفي بلدان أقلّ قوّة اقتصاديّاً (إيطاليا – إسبانيا) سيجعَل لوحةَ اليمين واليسار في السياسة في حالةٍ من الاستقطاب عبر راديكاليّتَين يمينيّة ويساريّة وليس عبر توفيقيّات وسطيّة بينهما مثَّلتها الأحزابُ الاشتراكيّة الديمقراطيّة في فترة صعودها السياسي في الستينيّات وأواسط السبعينيّات من القرن الماضي مع الازدهار الاقتصادي الأوروبي.
*كاتب من سوريا
قم بكتابة اول تعليق