نبذة تاريخية عن تطور “التعليم عن بعد”

بقلم – عبد الرزاق بن شريج *

يعتقد البعض أن التعلم عن بعد ظاهرة جديدة ساعدت على قيامها التطورات التقنية الحاصلة، إلّا أنّ حقيقة الأمر فالتعليم عن بعد بمفهومه الواسع، بدأ منذ أكثر من قرن ونصف من الزمن، إذا استثنينا بعض الكتابات التي ترجعه إلى القرن الخامس قبل الميلاد معتمدة في ذلك على أسلوب المراسلات العلمية لأفلاطون وفلاسفة يونانيين آخرين مع تلامذتهم، وكذا التراسل بين شيوخ الطرائق الفكرية في العصر العباسي حيث كانوا يعتمدون التراسل بينهم وبين مريديهم والمعجبين بفكرهم وطلاب المعرفة، وقد تستثنى هذه الحقبة من التعليم عن طريق التراسل لعدم وجود الطوابع والمكاتب البريدية المنظمة والتي يعتمد عليها الطرفان، المعلم والمتعلم، للتواصل الرسمي الموثق، ولم تكن هناك مؤسسة رسمية كالجامعة للقيام بالأمور الإدارية وبذلك رغم أن نشأة هذه المكاتب كانت سنة 1410م وبدأ التراسل عبرها مثل ما كان يقوم به المعلم إسحاق بينمان، حين يرسل تعليمات وتوجيهات دراسية في الاختزال لطالبه مكتوبة وبواسطة البريد، إلا أنها كانت محاولات فردية، ولم تكن ضمن مؤسسات.
لذا سنسلط الضوء في هذه المقالة على بعض المحطات الأساسية في تطوير التعليم عن بعد، لكن قبل ذلك لابد من التذكير بالفرق بين التعليم الإلكتروني والتعليم عن بعد؛ فالأول هو استعمال التقنيات الإلكترونية الحديثة في تقديم الدروس الحضورية، أي وجود المعلم والمتعلم بالمكان نفسه وفي الزمان نفسه، أما التعليم عن بعد فهو أن تقدم الدروس للمتعلمين دون التواجد في نفس الزمان والمكان، أي يقدم الدروس لتلاميذ افتراضيين في مكان وزمان افتراضي، بطبيعة الحال بواسطة التقنيات الإلكترونية، وعليه فالمقالة تتوخى النبش في تاريخ التعليم أو التدريس عن بعد.
تشير بعض الدراسات إلى أن بداية التعليم عن بعد بالمواصفات الرسمية (الإدارة، البريدن الطوابع) كانت في أواخر القرن الثامن عشر بالمملكة المتحدة، حيث ظهرت أول التنظيمات المؤسسية للتعليم بالمراسلة التي أنشأت الكلية الجامعية للتعليم بالمراسلة في لندن، تلتها بعد ذلك ألمانيا عام 1856 بتأسيس مدراس لتعليم اللغات بالمراسلة، ولم يبدأ بأمريكا إلا في أوائل القرن التاسع عشر لينتشر بشكل جلي سنة 1873م حيث عملت الكنائس المسيحية على تيسيره بين الأمريكيين، مستعملة التراسل بين المعلمين والمتعلمين، إلا أنها تقتصر على الكبار الراغبين في الاستفادة دون درجات علمية أو شهادات، ولم يبدأ العمل بالدرجات العلمية أو الشهادات إلا سنة 1883م حيث قامت كلية الفنون الليبرالية Chautauqua في نيويورك بإعداد أول درجات علمية عن طريق التعليم بالمراسلة، التي تتضمن الكتب والأوراق، مع الإشارة إلى أن هذا النوع من التدريس كان تحت إشراف إدارة الكليات النظامية ذات التدريس التقليدي، ولم يبدأ العمل بإدارة مستقلة للتعليم بالمراسلة إلا سنة 1892م حيث تأسست في جامعة شيكاغو أول إدارة من هذا النوع، لتصبح أول جامعة على مستوى العالم التي تعتمد التعليم عن بعد، فكان المتعلمون يتوصلون بالدروس والتمارين والفروض عبر البريد، ثم يرسلون واجباتهم بالطريقة نفسها ليصححها المعلمون ويعيدون إرسالها لهم مصححة مرفقة بالنقط والدرجات المستحقة، وكانت هذه الجامعات تشترط حضور المتعلم بنفسه لمقر الجامعة لأداء الاختبار النهائي الذي بموجبة يتم منحه الشهادة، واستمر العمل بهذه الطريقة سواء في أمريكا وأوربا إلى أن ظهرت المحطات الإذاعية ليظهر معها الدروس التعليمية المذاعة، وفي أواخر 1920م اعتمد الاتحاد السوفيتي أهداف تعليمية مختلفة ترمي لزيادة مخرجات النظام التعليمي، فدمج مشاريع التعليم بالمراسلة مع التعليم النظامي الجامعي بصورة متكاملة بحيث يستطيع الطلبة التنقل بين الدوام الكلي، الدوام الجزئي، والدراسة بالمراسلة للحصول على درجة علمية أو مؤهل تقني. وهي استراتيجية مناقضة لنهج الغرب الأمريكي، لأن الاتحاد السوفياتي كان يهدف من ذلك إلى إعطاء فرصة للقوى العاملة من متابعة تعليمها والحصول على مؤهلات عالية بالإضافة إلى توفير تكوينات مهنية عن بعد لتكوين وتدريب الأفراد وتجهيزهم لدخول سوق العمل، وفي عام 1921 أخذت البرامج التعليمية حيزًا كبيرًا في الإذاعات الأمريكية، لتنتشر في العديد من الدول بسبب النجاح الذي حققه هذا النوع من التعليم عن بعد، واستمر هذا النوع إلى سنة 1956 لتنطلق تجربة التلفزيون التي دشنتها كليات المجتمع بشكاغو الأمريكية حيث كانت تقدم خدمة التلفزيون في التدريس عن طريق التنسيق بين عدد من قنوات الكابل وعبر القنوات التعليمية، وهو ما شكّل نهضة حقيقة في ميدان التعليم، سارت على نهجها العديد من المحطات التلفزيونية العالمية، وانتشر استخدام تقنيات التلفاز والراديو وأشرطة الفيديو في تطوير التعلم عن بعد، وابتداء من سنة 1970 تأسست أربع جامعات في أوروبا وأكثر من عشرين حول العالم تطبق تقنية التعليم عن بعد، مثل الجامعات البريطانية المفتوحة التي سجل بها أول طالب سنة 1971، وفي أواخر عام 1980 حقق التعليم عن بعد تقدما حيث وظف التكنولوجيا الحديثة مثل الفيديوهات التعليمية، وبذلك استطاعت التكنولوجيا الجديدة أن تختصر المسافات الكبيرة بين المتعلمين والمعلمين وأصبح الطرفان يسمعان بعضهما البعض. ومع تقدم التكنولوجيا والاتصالات الإلكترونية، تحول التعليم عن بعد إلى تعليم باستخدام الحاسوب والإنترنت والوسائط المتعددة لتحقيق أقصى قدر من الفاعلية والتفاعلية، وهذا كله شكلته الثورة في مجال تكنولوجيا المعلوميات، وفي عام 1996 انتشر التعليم عن بعد بواسطة الجامعات المفتوحة المتخصصة في هذا النوع وخاصة تلك التي تأسست في الولايات المتحدة الأمريكية تحت اسم جامعة الولايات المتحدة المفتوح، حيث بدأت بها الدراسة في يناير1996م، ولازال التعليم عن بعد يبحث عن أساليب وتقنيات جديدة لتطوير نفسه حيث عرف سنة 2008 نقلة نوعيّة بإطلاق أول مساق مفتوح عبر الأنترنت، جمع آلاف الطلاب في تجربة حماسية، مهدت الطريق لتأسيس العديد من المواقع الإلكترونية التعليمية التي تعتمد على الطرق التفاعلية والأساليب التعليمية المتقدمة، وبذلك دخل على الخط نموذج جديد غير الجامعات في خوض غمار التجربة ألا وهو المواقع الإلكترونية التعليمية الجامعات العالمية، سواء بمناهجها المتطورة، أو بطريقة التقييم والمتابعة، فضلًا عن شهادات التخرج التي تمنحها، وهي لا تقل أهمية ومكانة عن الشهادات التقليدية. وهكذا قدم الابتكار الرقمي خيارات جديدة للمتعلمين، فبدأ العمل بالغرف الصوتية والمنصات الإلكترونية، كان أولها منصة كورسيرا، التي انطلقت منتصف عام 2011 وحققت في فترة قياسية انتشارًا واسعًا عبر كل القارات، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، البيئة الحاضنة لمشاريع تعليمية مميزة، إن كان هذا على المستوى الدولي وخاصة الأمريكي والأوربي فإن هذا النوع من التعليم على المستوى العربي بدأ محتشما مثل مؤسسة رواق سنة 2013 كمنصة تعليمية حديثة، وهي منصة عربية للتعليم المفتوح في مواد أكاديمية مجانية باللغة العربية في شتى المجالات والتخصصات، تم أسس موقع إدراك التعليمي تقنيات جديدة للتعليم الإلكتروني المجاني باللغة العربية عام 2014 بالتعاون مع مجموعة كبيرة من الخبراء والأكاديميين، ولايحتاج الأمر إلى تذكير أن التجربة بالمجتمعات العربية جاءت متأخرة نظرا للظروف السياسية الاقتصادية والاجتماعية الثقافية التي خلفها الاستعمار الغربي للمجتمعات العربية.
وخلاصة القول، لقد عرف التعليم عن بعد تطورا كبيرا سيغير مفهوم التعليم بصفة عامة، فانتشار التعليم عن بعد عبر الغرف الصوتية والمنصات سواء المجانية أو المدفوعة الثمن، حيث أصبح بالإمكان تقديم دروس بالصوت والصورة للمدرس ومئات المتعلمين في اللحظة نفسها عبر الغرف الصوتية أو المنصات الإلكترونية، يسير في اتجاه القضاء على التعليم التقليدي نهائيا.
*(عبد الرزاق بن شريج – المشرف العام لفريق التجديد التربوي)

قم بكتابة اول تعليق

أترك لنا تعليق

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


8 + = 15