بقلم – عبد الله أطويل
يرى أهل اللغة ولفيف العارفين بشِعَابها، ومن لف لفهم من مختصي القواميس وخبراء المفردات، أن كلمة “إبداع” قد يختلف تعريفها من سياق لآخر، حسب المقال والمقام. لكن مع ذلك يمكن أن يكون إتفاق، بل إجماع تام، بأن الإبداع هو ابتكار لشيء معين على غير مثيل سابق، أو تحديث وتعديل لنموذج سابق، مع وجود تأثير إيجابي، وكما ممكن للإبداع أن يشمل أيضا ما من شأنه أن يكون خارج عن المألوف، إلى حدِّ الخيال، لكن شريطة أن يضم هذا الإبداع ما يفيد، بعيدا عن جلب الأضرار النفسية والتخريبات الفكرية. ونحن نُسقِط هذا المفهوم في سياق الفن التلفزي. نرى في ما يُقَدَّم لنا على شاشات التلفزيون المغربي عقب كل إفطار من سلسلات وسيتكومات إلى دراما وكاميرا خفية، مهما اختلفت الأشكال وتعددت التلوينات إلا أنها تبقى أبعد عن الإبداع، بل أقرب إلى تسطيح موشح بوشاح الفن ومسخ ثقافي الثقافة منه بريئة، وضحك على الذقون وربما تبليد وتسفيه للمتلقي-المشاهد “المستهلك”، وتهكم بل إجهاز على مَلَكاته الفكرية.
سياق المنتوج التلفزي الرمضاني يدفعنا لمجموعة من الأسئلة منها الاستنكاري والاستفهامي، من قبيل ما الجديد الذي يُمَيِّز منتوجات هذه السنة مقارنة بما تم تكويره وتقديمه للأعور وبالممثلين نفسهم على امتداد سنوات؟ ما اللمسة الإبداعية التي قد تكون ميزت أداء هذا الممثل أو طبعت سلوك ذاك الآخر؟ لماذا هذه الهرطقات التلفزية لم يكن ليلعبَها غير فئة معينة من الممثلين، الذين سكنوا التلفاز دون أثر لآخرين غائبين حتى إشعار آخر؟، أو ربما أصبحوا جاثمين في عطالة فنية، لتشبتهم بمواقف فكرية أو بمجرد رفضهم أداء أدوار بَدَت لهم زيٌّ على غير مقاسهم. السؤال الذي يكاد يربك العقل هو كيف أمكن لهذه النماذج الفنية والدرامية أن تصل بيت المُشَاهد، مرورا بصاحب الفكرة والمخرج وكاتب السيناريو إلى الممثل، من دون أن ينظر لها أحدهم نظرة نقدية تراعي على الأقل أنها موجهة لمشاهد له عقل وثقافة؟ لماذا يُقْبِلُ ممثلون على حشر أنفسهم في أعمال درامية من هذا الصنف الهزيل؟، أليس هذا إنتحار فني يُقدِمون عليه طواعية؟ قد يكون ابتعادهم عن أضواء هذه السخافات واكتفائهم بالتنحي في ركن تحت ظل عزلة تضع أسمائهم بمعزل عن شبهات الإدانة.
تعميقا في سبر أغوار هذا الموضوع، قد يحق لنا من ناحية من النواحي القول هنا دون مزيد من الشرح ولو تلميحا، بأن الإبداع الرفيع لا ينبث مطلقا في تربة تتميز بالتصحر الثقافي ومناخ جاف تنعدم فيه غيوم الحرية في تناول المواضيع بشكل فني أنيق وقالب سخري راقي. بمعنى آخر هل أهل الفن حقا أحرار إلى الحد الذي يكفي لتناولهم من المواضيع التي من شأنها أن تُنْغِل بشعور المغاربة بمختلف أطيافهم؟.
على امتداد العقد الأخير من عمر التلفاز المغربي، وإلى حدود اليوم، ما قُدِّم وما يقدم، تزامنا مع رمضان الكريم، من تفاهة وتهريج فارغ من الحس الفني وخزعبلات من تافه الفكر وفارغ القول، وربما هذيان وتخريف مَرَضي، هذه الأمور “منتوجات درامية” كما يحلو لهم تسميتها، لا هي ترقى بالممثل “الفنان” إلى مصاف نجوم الفن والإبداع، ولا هي قادرة على الإعراج بذهن المتلقي منتشلة إياه من براتن الحجر الصحي الرتيب، والسفر به إلى سماوات الفكر وقمم الثقافة والارتقاء بالذوق. كما أن الفن القويم بفضل رسالته الفنية يُمكن زرع القيم الوطنية، وتلقين المبادىء الكونية النبيلة، والتشبث بالهوية والنضج الحضاري كما هو منصوص عليه ومُدَبَّج كتوابث للإعلام في كل البلدان. فمن شاهد الأعمال التلفزية المغربية على امتداد التسعينيات وبداية الألفية الثالثة، لابد أنه سيكون مصدوم بل سيُصْعق خوفا على مستقبل الهوية الثقافية والتاريخية الغنية والعريقة.
الأعمال الرمضانية المقدمة حاليا لا يطبعها أي جديد، ولا تتسم بروح الإبداع، هو الأمر نفسه على امتداد السنوات الماضية، فكل سنة نرى مزيدا من الإنحطاط، كان من الأجدر أن يسائل الساهرون على هذه البرامج أنفسهم، ويبحثون قصد تطوير سياستهم الفنية تجاه جمهور واعٍ، باعتباره متلقي ومنتج في الآن ذاته، لا النظر إليه كوِعاء يتم حَشْوُه أو مستهلك يقتصر دوره في الاستهلاك. وفي ذِكر الاستهلاك فالأمر يحيلنا إلى مدة العروض الإشهارية التي تأخد حيز زمني ينم عن تأكيد خندقة المتلقي في زاوية المستهلك. في جميع بلدان العالم لا تتجاوز مدة الاعلانات الاشهارية 18 دقيقة من الساعة في القنوات التجارية، فما بالك في قنوات القطب العمومي التي لا يجب أن يتجاوز حجم هذه الاعلانات دقائق قليلة من الساعة، ولك كامل الحرية في تقدير مدة الاعلانات الاشهارية على القنوات التلفزية المغربية، وحتى طريقة إنتاجها التي لا تدع نصيبها من الانحطاط الفكري.
إذا ما اعتبرنا أن الصورة التلفزية ما تزال تلعب دورها رغم الوسائط الإعلامية المتاحة في عصرنا الحالي، وما يزال لها ذاك التأثير في ترسيخ مجموعة من القيم في المجتمع خصوصا لدى الفئات الناشئة. فلا بد أن نشير إلى مسألة غاية في الخطورة وهي طريقة الكلام والإيماءات والتعبيرات والوجوه التي أضحت تطبع هذه الإنتاجات تترسخ لدى الأطفال الذين يشاهدون ذلك، وتغسل أدمغتهم وتتولد لديهم أفكار أن ذلك هو الأمثل والطبيعي والسوي والذي يجب الاقتياد به واعتباره قدوة في الحياة. في حديثنا عن الفئات الناشئة والأطفال، لا بد أن نستحضر أنه في أحايين كثيرة يتم تسجيل خرق فادح في حق هذه الفئات، ولعل مجموعة من السيتكومات والسلسلات المقدمة خلال فترة الذِّروة، تضمنت مشاهد لا تخلو من عنف ودماء، دون الإشارة بإشارة أو تنبيه حول المنع أو السماح للأطفال بالمشاهدة، أو المشاهدة بموافقة الوالدين. كما يمكن بجلاء ويُسر تسجيل مشاهد من هذه الأعمال فيها سخرية وتنقيص بشكل أو بآخر من فئات سوسيوثقافية معينة واستهزاء من فئات أخرى كالممرضين والأساتذة وغيرهم.
لو أغفلنا ذكر شيء، فلا يمكن إغفال اللغة التي يتم بها تناول أغلب السيتكومات والأعمال. وإن كانت دفاتر التحملات تنص على أن تكون لغة الإعلام تتضمن ٪80 لغة عربية سليمة و٪20 لغات أجنبية. لابأس في اعتماد وسيلة وسيطة تجمع المغاربة أجمعين وهي اللهجة “الدارجة” المغربية الأصيلة، وهذا شيء جيد، لكن الغريب والغير جيد بتاتاً، هو أن يصبح الوضع في قلب بيتك ولو أنك تجلس مع أسرتك في رصيف الشارع أو في زقاق من الحي، وتسمع للغة ساقطة ومفردات غالبا ما يتراشق بها المراهقون في الشوارع والملاعب.
بالمختصر المفيد لو كانت التلفزة المغربية بأعمالها الرمضانية قد تسجل نجاحا، لكان النجاح الباهر الذي حققته هو أنها أخدت المشاهد المغربي بمائدته وأسرته، وجعلته يفطر في الشارع، على نغمات لغة “التشرميل” والشارع، أو بمعنى آخر على الأقل أدخلت ردائة الشارع من سفاسف القول وانحطاط المَشاهد إلى عقر بيت المُشاهد.
قم بكتابة اول تعليق