الكورونا.. مُقارَبةٌ نَفْسْ- اجتماعيّة

أفقد. مصطفى حجازي*

أصبح الكورونا، ذاك الكائن المجهريّ مُتناهي الصغر، قَولاً وفِعلاً، مالئ الدنيا وشاغل الناس، بل هو أرهَبَ الكَوكَب، وفي المقدِّمة الدول الكبرى الأكثر تقدّماً تقنيّاً وطبيّاً. كما أنّه بصدد هزّ عروش أعتى مَراكِز التحكُّم بالكون وأسواقه الماليّة. واللّافت أنّ أكثر بؤر انتشاره هي المُدن والعواصم الكبرى، إنّما قد يكون انتشاره الأقلّ في العوالِم الفقيرة راجِعاً ببساطة إلى القصور الإحصائيّ للإصابات.

نتناول بالبحث في هذه المقالة ردود الفعل النفسيّة والسلوكيّة لدى الجمهور مع تفجّر أنواع الهلَع والوسواس والخوف وحالات الضغوط النفسيّة وكيفيّة التعامل معها، وقايةً وعِلاجاً. ولا بدّ من وقفة سريعة تبدأ عند دَور الإعلام المرئي والمسموع و”السوشيال ميديا”، حيث الخبر يسري في الآن واللّحظة وعلى مدى الساحة الكونيّة. فقد تحوّلَ هذا الإعلام إلى أداة كبرى للترويج لأخبار الإصابات والوفيّات مُصعِّداً المَخاوف والهلَع. فالإعلام، فضلاً عن دَوره التوعويّ والتثقيفيّ في تكثيف ظهور خُبراء الصحّة وشروحاتهم، وهو أمرٌ يُشكَر عليه، يُمارِس عمليّة قصْفٍ على مَدار الساعة، موجَّهة على المُشاهدين، بأخبار الكورونا وتفشّيها وتهديداتها ووفيّاتها، وذلك من ضمن عمليّةِ تضخيمٍ وتهويلٍ وتكرارٍ وعرْض الوقائع من منظورات مُختلفة توخّياً للإثارة وبثّ الذُّعر، وصولاً إلى شدّ الجمهور إلى الشاشات عملاً بالمبدأ القائل: الخبر الأكثر إثارة للانفعالات هو الأكثر أهميّة، أي الأكثر قدرة على زيادة عدد المُشاهدين وبالتالي الأرباح.

أماّ ردود فعل الجمهور تجاه الكورونا وعدواها وأخطارها، فتتراوح ما بين الاستهتار والتنكُّر للخطر وردود الفعل المَرضيّة المُبالَغ بها. يُضاف إلى ذلك ردود فعل الناس على الحَجْر المنزلي وما يُصاحبه من توتّرٍ وضغوطٍ وسواها.

فِئة المُستهتِرين تُقدِّر خطر العدوى نظريّاً، ولكنّها تستهين باتّخاذ الإجراءات الوقائيّة، فتستمرّ في الرواح والمجيء وكأنّ خطر العدوى لا يُطاولها، بل يُطاوِل الآخرين، وكأنّ فئة الناس هذه يتمتّع أفرادها بنَوعٍ من الحصانة الذاتيّة. تخضع هذه الفئة لآليّة التنكُّر النفسيّة المعروفة: الإصابات والحوادث والموت لا يصيبها، بل يصيب الآخرين، ولاسيّما أنّ الإنسان يتحصّن ضدّ الموت بالتنكُّر لمَوته الذاتي. وهكذا يستمرّ هؤلاء بعدم التبصُّر الذي يُشكِّل خطراً فعليّاً أحياناً.

في المُقابل، نكون بصدد العديد من الحالات التي تُبالِغ في تقدير أخطار الإصابة، فتتّخذ مُبالغاتها طابعاً مَرضيّاً.

أوّلاً: الهلَع الذي يتمثَّل بحالةٍ من الخَوف المُفرط، الذي يتجاوز حدود الخطر الواقعي ويتّخذ شكلَ نَوبةِ ذُعرٍ تشلّ إمكانات التصرّف العقلاني. يشعر الواحد من هؤلاء أنّه بإزاء خطر الإصابة الدّاهم، وأنّه سيُصاب بالعدوى المُميتة لا محالة. ويندفع بالتالي في اتّخاذ ترسانةٍ من الاحتياطات حيال كلّ الأشياء من حوله، مع بروز قلقٍ طاغ في ما لو تخلّى عن أيٍّ من إجراءات الحماية هذه، أو تراخى فيها. نحن هنا بصدد اضطراب نَفسيّ كامِن فجَّرته مَخاوِف الكورونا ويتطلّب التدخّل العِلاجي. ويُشكِّل العلاج المعرفيّ السلوكيّ CBT إحدى الطُّرق الناجِعة على هذا الصعيد. تقوم هذه الطريقة على مُحاكَمة الأفكار المغلوطة واللّاواقعيّة واستبدالها بأخرى أكثر واقعيّة تحمل التوازن إلى الحياة النفسيّة. وتقوم على فكرةٍ أساس تتمثّل في أنّ الأفكار تتحكّم بالانفعالات والسلوك، فإذا ما عدَّلنا الأفكار المغلوطة والمُبالَغ فيها، فإنَّ المَخاوِف تتعدّل بدَورها وتُصبح أكثر واقعيّة.

أمّا اضطّراب الوسواس القهريّ OCD، فيتّخذ شكلَيْن يتكاملان في ما بينهما، وهُما وسواس النظافة، ووسواس التجنُّب والحَذَر؛ وهو بدَوره ذو طابعٍ نفسيّ كامِن يتفجَّر مع أخبار الكورونا وأخطارها.

يتّخذ وسواسُ النظافة طابعَ الورشة الدائمة كتعقيم كلّ شيء في المنزل، وفي محيط الشخص الوسواسي، وكلّ ما له من حوائج وأمتعة من دون ترْك أيّ شيء. ويتمّ ذلك بنَوعٍ من الهَوَس المحموم المصحوب بالقلق، ما يدفع الشخص إلى تكرار العمليّة مرّات خوفاً من إغفال أيّ شيء. وهو أمر مُضرّ ومصحوب بعدم التأكُّد، ومن دون أن يهدأ للواحد من هؤلاء بالٌ أو يبلغَ مَشاعِرَ الارتياح.

أمّا وسواس العدوى contamination، فيؤدّي أساساً إلى سلوكات تجنُّب الآخرين باعتبارهم جميعاً مَصدر عدوى داهِم. تَبرز هنا مَشاعِر الارتياب من الاحتكاك بالآخرين أو الاقتراب منهم، وصولاً إلى عدم الخروج من المنزل المُحصَّن والمُعقَّم الذي يوفِّر وحده مَشاعِر الأمان.

وتتفاقم الحالة في وباء الكورونا، حيث يتعذّر موضوعيّاً تمييز المُصاب من غير المُصاب، إذ لا تبدو أعراض الإصابة في العديد من الحالات، كما هو معروف طبّياً. وذلك يُشكِّل مَصدراً آخر يُفاقِم من حالة الارتياب ووسواس التجنُّب، ويَقع الواحد من هؤلاء ضمن قول سارتر الشهير: “الجحيم هو الآخرون”. ينكفىء الواحدُ من هؤلاء في عزلته الآمنة، وهو إن اضطرّ للخروج، يتسلّح بكلّ عدّة الحماية من العدوى، أو يُسرع عائداً إلى قوقعته الحامية كي يجد الطمأنينة والأمان.

تحتاج حالات الوسواس القهري هذه إلى العلاج بدَورها. وتُمثِّل طريقة إيقاف التفكير الوسواسي المُتلازِمة مع الاسترخاء إحدى وسائل التدخُّل، من طريق عددٍ من جلسات التدريب على إيقاف الأفكار الوسواسيّة في حالة من الاسترخاء.

يؤدّي الحَجْر المنزلي المفروض وتزايُد التشدُّد من طرف السلطات إلى ضغوط نفسيّة والضِّيْعَة والاكتئاب لدى الناس العاديّين. كما يؤدّي فرْض التباعُد الاجتماعي Social Distancing، الذي يُشكِّل التوصية الأكثر إلحاحاً على صعيد الوقاية، إلى بروز مَشاعِر الضِّيْعَة، وانحسار الوجود، والحرمان من الانفتاح على الدنيا والناس، أو ما يُعرف بسيكولوجيّة الأسير أو السجين.

تُمثّل الضغوط stresses تلك المُعادلة المعبِّرة عن انعدام التوازن ما بين التحدّيات والأخطار الخارجيّة من جهة، ووسائل القدرة على المُجابَهة الذاتيّة من جهة أخرى. وكلّما اختلّت المُعادَلة لمصلحة الأخطار والتحدّيات مُقارَنةً بتضاؤل القدرات الذاتيّة على التعامل معها، تفاقمت حالة الضغوط وما يُصاحبها من توتّر وضِيْعَةٍ وإفلات الزمام من اليد. تتمثّل المشكلة في أنَّ الضغوط تؤدّي إلى إفراز هرمون الكورتيزول (هرمون يفرز بواسطة الغدّة الكظريّة) في الدمّ، وهو من العوامل الرئيسة لتدنيّ قُدرة جهاز المناعة على مُقاوَمة الفيروس ومُحاربته.

على الصعيد النفسي، تُشكّل مُمارَسة الرياضة النشطة والمشي والتنفُّس العميق والاسترخاء والتأمُّل والبحث عن وسائل التسلية والمَرَح وتعديل المزاج والنوم والتغذية الجيّدة، بعضاً من وسائل الوقاية والحماية الفاعلة، لأنّها تعمل كلّها على تقوية جهاز المَناعة، مع التحلّي بالعقلانيّة والموضوعيّة في التعامُل مع الوباء والوقاية منه.

سلبيّات التباعُد الاجتماعيّ

أمّا التباعُد الاجتماعي، فيولِّد مُختلف أشكال الضِّيْعَة، وخصوصاً في بيئتنا الثقافيّة الشرقيّة التي تقوم على الجماعة ومرجعيّتها، وعلى الانتماء وصدارة التفاعُل والعلاقات الاجتماعيّة وألوان التعاضُد والتسانُد والشراكَة والتواصُل المُباشر، وذلك على العكس من صدارة الفرديّة الغربيّة والخصوصيّة والإصرار عليها والذي يألف العزلة في حياته الخاصّة.

من هنا قد يكون التباعُد الاجتماعي أشدّ وطأة على إنساننا، وخصوصاً أنّ الحَجْر المنزلي غير معروف الآفاق راهناً أو بالتالي قد يطول نظراً لعدم مَعرفتنا العِلميّة بمدى تطوُّر الوباء ومدّة انحساره. لذا، لا بدّ من خططٍ وبَرامجَ تُساعد الناس على إعادة بَرْمَجة حياتها، والتخفيف من وطأة الحَجْر المنزلي وآثاره من ضِيْعَةٍ وضَجَرٍ واكتئاب، ويتعيّن على وسائل الاعلام، بدلاً من الاستمرار في شَحْن الشاشات بالتهويل بأخبار الكورونا، الاكتفاء بتقديم المعلومة الموضوعيّة المُفيدة والانصراف من ثمّ إلى تقديم بَرامج ثقافيّة ووثائقيّة وتاريخيّة مُفيدة، وبَرامِج دراميّة مُحبَّبة ومُريحة نفسيّاً بما يُساعِد على ملء أوقات الفراغ الطويل بالمفيد والمُمتِع.

هناك شريحة من الذين يعملون في مِهنٍ تعتمد على تقنيّات المعلومات والاتّصال يزاولون الآن عملهم من منازلهم. وهو ما يُخفِّف كثيراً من وطأة الحجر المنزلي. كما أنّ انتشار تقنيّات المعلومات والاتّصال، ومنها الاتّصال الاجتماعي، جعلَ بعض الناس على ارتباط بالشبكة بشكلٍ دائم، ما يُيسِّر سُبل كسْر العزلة، حيث إنّنا نعيش في العصر الرقمي، ويتحوّل الفرد إلى إنسانٍ رقميّ تتوافر له فُرصٌ فائقة التنوّع والغنى غير مسبوقة في تاريخ البشر، يُمكنه الغوص في عالَمها والاستفادة منها.

إنّنا في لحظة تاريخيّة يُمكن فيها تحويل الأزمة إلى فُرصةٍ حقيقيّة، من خلال الانخراط في مشروعٍ مُفيد لم يكُن يتوافر له الوقت الكافي سابقاً. هنا يُمكن الاستعانة بمُعطيات عِلم النَّفس الإيجابي والتفكير الإيجابي من خلال التنقيب عن الإمكانات الخصبة في عالَمنا واستكشافها وتثميرها. ولا بدّ عندها من أن نَظفر بجديدٍ يحمل الفائدة، ويُشكّل فرصةَ نموٍّ جديدة. إنّها مسؤوليّتنا عن وجودنا وذاتنا.

أمّا شريحة الشباب، في ما خصَّ التباعُد الاجتماعي وشجونه، فهي تُشكِّل ملفّاً آخر وبحثاً آخر؛ إذ ما عدا فئة شباب الظلّ، أو الشباب المُهمَّش وخارج سوق الإنتاج، فإنّ سائر الشباب بصورةٍ عامّة ليس لديهم مشكلة طالما أنّهم أبناء الحضارة الرقميّة وأبطالها، وطالما أنّهم في لبّ التواصل الاجتماعيّ والرقميّ، وأنّهم الفاعلون الأساسيّون فيه، ما يملأ عليهم دُنياهم، ولا يَترك لهم من حيّزٍ لضَجرٍ أو مَللٍ أو سوى ذلك من ألوان الضِّيْعَة. مَرجعيّاتهم هي غير مَرجعيّات الكِبار، وكذلك ثقافتهم الرقميّة، فهي غير الثقافة التقليديّة للكِبار.

*أكاديمي وباحث من لبنان

قم بكتابة اول تعليق

أترك لنا تعليق

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


58 + = 63