أفق – د. رفيف رضا صيداوي*
ربّما كان عالِم الاجتماع الفرنسي آلان تورين Alain Touraine من بين أبرز المفكّرين العالَميّين الذين دعوا مبكّراً إلى ضرورة التفكير في باراديغم جديد لفهْم العالَم ومُجتمعاته، نتيجة التحوّلات الهائلة والسريعة التي طرأت عليه في العقود الأربعة الماضية. وبانطلاقه من مقولة ” نهاية الاجتماعي”، قَصَدَ تورين نهاية التفكير الاجتماعيّ، أي نهاية نمط التصوّر الاجتماعيّ للحياة المُشترَكة في الغرب، الذي كان جزءاً رئيساً في التحليل الاجتماعيّ السائد. وبحسب تورين ” كان المُجتمع، كما تُصوِّره لنا السوسيولوجيا الكلاسيكيّة، أشبه بقصرٍ من حَجَر؛ أمّا اليوم، فقد بات أشبه بمَشاهِد طبيعيّة مُتحرِّكة”.
هذه الدعوة إلى باراديغمٍ جديد باتت تُحيل، ليس على طبيعة التحوّلات الجديدة فحسب، بل على المُقاربات المختلفة والمُغايرة، فضلاً عن القيَم الجديدة، من ثقافيّة وغيرها، التي ينبغي على الفكر السوسيولوجي أن ينطلق منها بغية إعادة فهْم العالَم وتقديم حلولٍ لمُشكلاته.
صحيح أنّنا، كمُجتمعات عربيّة، لسنا، ولَم نكُن قبلاً، ولا في أيّ لحظة تاريخيّة، مَفصولين عمّا يجري من تحوّلات في العالَم، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ طبيعةَ هذا التقارُب أو الاتّصال، إذا ما جاز التعبير، وحجْمَه وعُمقَه، هي التي تشي بتحوّلٍ جديد في ما يخصّ علاقتنا بالعالَم، وربّما بنمطٍ لم يشهد التاريخ الحديث مثله من قبل، ولاسيّما مع الدَّور الأساس الذي تشغله على هذا الصعيد ثورة المعلومات والاتّصالات والتواصل. فعالَم وسائل الإعلام وحده، ولاسيّما مع القدرة التوسّعيّة للفضائيّات، بات أكثرة قدرة- بحسب آلان تورين- على تشويه ” الكائنات الفاعِلة الساكِنة في كلّ فرد، وعلى التلاعُب بها”، وذلك “بفَصْله الصورة عن التجربة المُعاشَة، والوجه عن الجسم”.
هذا التفكُّر بباراديغمٍ جديد، لا يزال مِحور اهتمام عُلماء الاجتماع والفلاسفة والمُفكّرين العرب والأجانب، في ظلّ مناخٍ عالَمي يتخلخل فيه “نموذج التنوير” الغربي، وتَرتسم مَلامِح مُتبايِنة وغير مُكتمِلة لتَشكُّل نموذج ما بعد الحداثة، الأمر الذي دفعَ بـ “مؤسّسة الفكر العربي” إلى إصدار كِتاب “أفق” السنوي الخاصّ (العدد الرّابع) بعنوان ” نحو نموذجٍ ثقافيّ عربيّ جديد في عالَمٍ متحوّل”(2018)، للتحفيز على استنبات نموذجٍ عربي جديد في محاولةٍ سبّاقة لتلمّس مَعالِم نموذجٍ كهذا في حال قُدِّر له أن يرى النور، أو في حال توافُر إمكانيّةٍ كهذه.
لكن، إذا ما دقَّقنا في دواعي بناء هذا النموذج، كما في غاياته وأهدافه، عربيّاً وعالَميّاً، لا بدّ من أن نلحظ أنّ الدّفاع عن الإنسانيّة والحُرص عليها يشكِّلان القاعدة الأساس لكلّ تلك الدواعي والغايات والأهداف.
البحث عن الإنسان
كثيرة هي الأصوات والأطروحات التي تنتقد عالَم اليوم، ولاسيّما ليبراليّته المتفلِّتة من عقالها، وديمقراطيّته المشكوك بأمرها، وما أفضيا إليه من قهرٍ للإنسان، ومن تطويقٍ لمخيّلته وإبداعه، وذلك في عالَمٍ وَصَفَه البعض بـ “المسطَّح” Flat (توماس فريدمان Thomas Friedman)، أو “السائل”Liquid (زيغمونت باومان Zygmunt Bauman)، أو “التافه أو المُعدَم Mediocratie (ألان دونو Alain Deneault)…إلخ، لكنّ المُشترك في الأصوات تلك، هو دفاعها عن البشر في عالَم لم يَعُد مُحتمَلاً؛ فلا غرابة أن يدعو الصحافي والكاتِب الأميركي توماس فريدمان (في كِتابه The world is Flat -2006) إلى إطلاق العنان للخيال والإبداع، مُقتبِساً مقولة آينشتاين في أنّ ” الخيال أهمّ من المعرفة”، لأنّهما قادران على تنمية الفنون والآداب؛ ولا غرابة أن يخرج كِتاب جماعي في فرنسا في العام 2007، بعنوان “إعادة التفكير في التضامن.. مُساهمة العلوم الاجتماعيّة” Repenser la solidarité.. L’apport des sciences sociales، ليُعيد إلى قيَم الحقّ والعدالة والمساواة ودولة الرعاية وغيرها.. مكانَها، لكونها من المفاهيم التي أسهمت العلوم الإنسانيّة، بفروعها كافّة، في تكريسها، ولاسيّما مع افتقار الناس إليها، في أيّ نقطة في العالَم وُجدوا، وذلك بسبب تقارُب ظروفهم المرّة؛ ولا عجب أن ينتهي عالِم الاجتماع الفرنسي ألبرت أوجيان Albert Ogien، والفيلسوفة ساندرا لوجيي Sandra Laugier في كِتابهما “الديمقراطيّة كمبدأ. بحث حول الأشكال الجديدة للسياسي”Le principe démocratie. Enquête sur les nouvelles formes du politique 2014، إلى التساؤل عمّا إذا لم يَئن الأوان بعد لعدم حصْر اهتمامهما وأبناء مجتمعاتهما وغيرها من المجتمعات بالشؤون المحلّية، عوضاً عن ترْك مصير الاقتصاد العالَمي بين أيدي التكنوقراط؛ ولا غرابة في أن يدعو أستاذ الفلسفة والعلوم السياسيّة الكندي ألان دونو، في كِتابه (La Médiocratie 2015)، إلى التحرّر من “التفاهة” ومن الفقر المعنويّ المُستشري بين الناس، وإلى عدم الاستسلام لنِظام التّافِهين، بل إلى الانقياد للمفاهيم الكبرى، وإعادة المعاني لكلماتٍ تعبِّر عن مفاهيم مثل المُواطَنة، والشعب، والجدال، والحقوق الجمعيّة، والقطاع العامّ، والخير العامّ…؛ ولا غرابة في أن يدعو عالِم الاجتماع والإتنولوجيا الفرنسي آلان دو فولبيان Alain de Vulpian في كِتابه “مديح التحوّل: في الطريق نحو إنسانيّة جديدة Eloge de la métamorphose : En marche vers une nouvelle humanité ) 2016)، إلى إنسانيّة جديدة، وإن كانت نظرته أكثر تفاؤلاً من سواه، انطلاقاً من إيمانه بأنّ الإنسان والبشر عموماً، بتنوّعهم، وباختلاف مَواقعهم السياسيّة والثقافيّة والتعليميّة والمهنيّة والعمريّة والجندريّة، هُم الذين يغذّون التحوّل ويَبنون المُجتمع الجديد.
ولا غرابة أيضاً وأيضاً، في أن يُعيد بيار كالاميه Pierre Calamé في كِتابه (Petit Traité d’oeconomie 2018) الاشتغال على مُصطلح الـ oeconomie” القديم لضبطه على إيقاع القرن الحادي والعشرين، معرِّفاً أيّاه بأنّه ” فِرع من الحُكم أو الحاكميّة، يهدف إلى خلق جِهات فاعِلة وترتيبات مؤسّسيّة، وعمليّات وقواعد تهدف إلى تنظيم إنتاج السلع والخدمات وتوزيعها واستخدامها، من أجل ضمان كلّ الرفاه المُمكن للإنسانيّة، وذلك بالاستفادة القصوى من القدرات التقنيّة والإبداع البشري، مع اهتمام دائم بالحِفاظ على المحيط الحيوي وإثرائه، وعلى المَصالِح والحقوق وقدرات المُبادَرة لدى الأجيال القادِمة، في ظلّ شروط المسؤوليّة والإنصاف المؤدّية إلى عضويّة الجميع ورِضاهم”. ذلك أنّ ما يشهده العالَم اليَوم، هو اتّجاهه إلى نقيض هذا التعريف أو هذه المُعادلة، التي نظَّر كالاميه لها في كِتابه لإعادة تصويبها وفق مفهومه الجديد للـ oeconomie هذا.
كفى تفاهة ومنفَعة
هذه الدعوات وغيرها، وإن لم تكُن تبني مباشرةً نموذجاً فكريّاً معيّناً، ثقافيّاً كان أم سياسيّاً أم اقتصاديّاً …إلخ، إلّا أنّها في نقْدها العالَم وآليّات عَمَلِه الرّاهنة، تكون كمَن يُسهِم على المدى البعيد في بناء نموذج إرشاديّ مُتكامل العناصر، يُناقِض نموذجَيْ “التفاهة” و”النفعيّة” المُترابطَين والمُتآزرَيْن؛ ففي الحالة الأولى أو حالة “التفاهة”، وبحسب آلان دونو في كِتابه المذكور آنفاً، تحوَّلت الأمور، بما في ذلك الشأن العامّ، إلى “تقنيّة وإدارة”، حيث باتَ ” الكمال أو الإتقان التقنيّ ضروريّاً لإخفاء الكسل الفكريّ” ، فيما نُصِّب ” النّظام التافِه كأنموذج” لا مكان في المُجتمعات التي يسود فيها إلّا للتافهين، وحيث يُفترَض بالناس لكي يندمجوا في معاييره وقيَمه إتباع نصائح دونو الساخِرة: ” لَمْلِموا هذه الأعمال الفكريّة المعقَّدة والقوا بها، فكُتب المُحاسَبة تَفي بالغَرَض. ولا تكونوا ذوي كبرياء أو روحانيّين، ولا حتّى مُرتاحين مع أنفسكم، لأنّ ذلك من شأنه أن يَجعلكم تبدون مُتغطرسين. خَفِّفوا من شغفكم لأنّه يُثير الخَوف؛ وأيّاكم وإبداء أيّ فكرة ثاقِبة(…) إذ يجب التفكير برخاوة…”.
أمّا في الحالة الثانية، أي حالة النفعيّة، حيث كلّ شيء، حتّى العواطف الإنسانيّة، تغدو محكومة ومشروطة بمنطق السوق والمَنفعة والمَصلحة، فقد أفرَد لها الباحث الإيطالي نوتشيو أوردينه Noccio Ordine كِتاباً بعنوان “لوجْهِ ما لا يَلزم” L’utilità dell’inutile صدر حديثاً بنسخته العربيّة عن “دار الجديد” في بيروت. وفيه يُركِّز الكاتِب على أهميّة المَعارِف التي يُفترض أن تكون بعيدة كلّ البُعد عن الأهداف الربحيّة والنفعيّة، والتي، وفق المنطق السائد، أي النَّفعي، لا تعدو أن تكون كماليّات لا فائدة منها ولا لزوم لها، لأنّها لا تستجلب النفع المادّي ( كالعلوم الإنسانيّة، واللّغات القديمة، والأدب، والفنون…إلخ)؛ ففي رأي نوتشيو أوردينه أنّ هذه المَعارِف من شأنها وحدها أن تُسهِم في تطوير الفكر وفي الارتقاء بالسلوك البشري والحضارة الإنسانيّة: المُعادلة الوحيدة- يقول أوردينه ” التي لا رَيْبَ في صِحّتها هي التّالية: إنْ تخلَّينا عن كلِّ هذه الأشياءِ التي لا لزومَ لها ولا جدْوى أنيَّةً مِنها، وألقَيْنا السَّمْعَ إلى نداءِ الرِّبْحِ والكَسْبِ دون أيِّ نِداءٍ آخرَ، فلنْ يعنيَ ذلك مِن شيء سوى الحُكْمِ على الأجيالِ الطّالِعة من البشر أن تكون أجيالاً بدونِ ذاكرةٍ لا تَفْقَهُ للحياة، ولوجودِها في هذا العالَم، مِن معنى. عندئذٍ، لا دَهْشَ أن يجدَ الإنسانُ (العاقلُ) (الـ”الهومو ساپيانس”)، نفسَه مُستقيلاً حُكماً من المسؤوليّةِ التي وُجِدَ لكي يَحمِلَها: مَسؤوليّةِ أن يَسيرَ بإنسانيّتِهِ إلى مَزيدٍ من الإنسانيّة!”.
فكأنّنا بتلك المُقاربات وأمثالها من الرؤى الفكريّة، على اختلاف أجناسها، أمام طريقٍ موصلة إلى نموذجٍ فكريّ إنسانيّ أوّلاً وآخراً، غايته الخروج من استبداد المَنطق النفعيّ وجبروته المُهدِّد للإنسان.
ولعلّ هذه الحقيقة التي لا رَيْب فيها، هي التي جَعلَت إدغار موران Edgar Morin يدحض مقولة المفكِّر السياسي الأميركي فرنسيس فوكوياماFukuyama في أنّ القدرات الخلّاقة للتطوّر البشري قد استُنفِدَت مع الديمقراطية التمثيليّة والاقتصاد اللّيبرالي، إذ في رأيه، وبحسب ما كَتبَ هو نفسه في جريدة “لوموند”Le Monde الفرنسيّة (10/01/2010)، ” يجدر بنا التفكير عكس ذلك، أي التفكير بأنّ التاريخ هو الذي استُنفِدَ وليس القدرات الخلّاقة للإنسانيّة”؛ أوَ ليست هذه القدرات والطّاقات هي القمينة بإعادة تصويب التاريخ على قاعدة “أَنْسَنة” تحوّلاته أو باتّجاه هذه الـ”أَنْسَنة”؟
*مؤسّسة الفكر العربي
قم بكتابة اول تعليق