لا حداثة عربيّة إلّا عبر المُنجَز النسائيّ

أفق – د. فاطمة واياو*

تحتفل النساء العربيّات هذه السنة بمرور 100 سنة على التّظاهرة النسائيّة المصريّة، التي تزعَّمتها هدى شعراوي سنة 1919، والتي كانت حدّاً فاصِلاً بين مُجتمع الخنوع والعزل ومُجتمع المُشارَكة والاندماج للمرأة المصريّة في الحياة العامّة. وبهذه المناسبة يتوجَّب استحضار بعض محطّات المُنجَز النسائيّ العربيّ الذي لم يَأخذ حقّه في كُتب التاريخ، بل هُمِّش لتُصبح الذاكرة العربيّة ذكوريّة بامتياز.

تناقَلت وسائل الإعلام في المغرب في الأشهر الأخيرة خصوصاً، خبرَين فريدَين يحملان معاني الكرم والوعي والأمل. يتعلَّق الأوّل بتبرُّع السيّدة فاطمة المدرسي من مالها الخاصّ لبناء “المدرسة العليا للتجارة والتسيير” التّابعة لجامعة محمّد الأوّل في مدينة وجدة شرق المغرب. 

والخبر الثاني من مدينة سطات المغربيّة، حيث تبرَّعت السيّدة نجيّة نظير، وهي سيّدة أعمال، بما قدره أكثر من مليار سنتيم من مالها الخاص لبناء ثانويّة تأهيليّة، وتأهيل وحدة مدرسيّة في دائرة ابن أحمد الجنوبيّة التّابِعة لمدينة سطات المغربيّة، وهي منطقة ريفيّة.

قد يبدو الخبران عاديَّين إذا ما كنّا في دول أخرى، وليس في المغرب. من هنا الاهتمام بالخبرَين؛ ذلك أنّ السيّدتَين ليستا في لائحة أثرياء العالَم الوارِدة في مجلّة “فوربس”. تتّخذ المُبادَرة أهمّيتها لكَون السيّدتَين تبرَّعتا لمصلحة قِطاعٍ حيويّ يَعرف الكثير من الهشاشة وسوء التسيير؛ إذ إنّ وضعيّة التعليم المُزرية تصنِّف المغرب في مَرتبة متأخِّرة بحسب تقارير الأُمم المتّحدة للتنمية. 

غير أنّ هاتَين المُبادرتَين تأتيان من سيّدتَين تنتميان إلى بلد فاطمة الفهريّة التي تبرَّعت لبناء أوّل جامِعة وأقدمها في التاريخ، وهي جامعة القرويّين في فاس. ويُمكن اعتبارها مَغاربيّة، حيث إنّها وُلدت في تونس، ثمّ نزحت برفقة عائلتها إلى مدينة فاس المغربيّة، وبعدما توفّي والدها وزوجها، ورثت عنهما ثروة هائلة، نَذرت جزءاً منها لبناء جامع القرويّين، الذي ما يزال صرحه شامِخاً إلى يومنا هذا.

تحكي كُتب التاريخ أنّ السيّدة فاطمة الفهريّة، وهي فاطمة بنت محمّد الفهري القيرواني، المعروفة بأمّ البنين الفهريّة، هي مؤسِّسة أوّل جامعة في العالَم في بلاد المغرب الأقصى، وهي جامعة القرويّين. وماتت السيّدة فاطمة نحو 266 ه – 878م. ويورِد المؤرِّخ العلّامة محمّد المُنتصِر بالله الكتاني في كِتابه “فاس عاصمة الأدارِسة”، أنّ “جامعة القرويّين تُعدّ أقدم جامعة في العالَم، وقد سَبَقت جامِعة الزيتونة في تونس، والأزهر في مصر. كما أنّها تُعدّ أقدم من جامعات أوروبا بمائتَي عام إلّا تسع سنين”.

جدير بالذكر والتذكُّر أيضاً، أنّ سيّدة كريمة أخرى هذه المرّة من أرض مصر، هي الأميرة فاطمة إسماعيل، التي وُلدت سنة 1853 وتوفّيت سنة1920، وهي إحدى بنات الخديوي إسماعيل، كانت مُحبَّة للخير والعمل العامّ، وخصوصاً في مجال العِلم والثقافة. لذلك، عندما اطَّلعَت الأميرة فاطمة على الصعوبات الماليّة التي تعانيها الجامعة المصريّة، بادَرت إلى تخصيص مساحة من أراضيها الزراعيّة وقفاً على الجامعة، حتّى يجري رَيعها المادّي على الجامعة، فتَضمَن بذلك مَصدراً للتمويل. 

كما تبرَّعت بجواهرها الثمينة لتوفِّر للجامعة سيولة ماليّة عاجلة، وامتدّ كرمها إلى مَنْح الجامعة مساحة من الأرض ليُقام عليها الحرم الجامعي. كما شاركت في وضع حجْر الأساس للجامعة المصريّة. ومع كلّ هذه الإرادة والكَرم، تورِد المَصادِر أنّ المرأة المصريّة كانت تعيش في عزلة تامّة لدرجة أنّ الأميرة فاطمة المُتبرِّعة، حُرمت من حضور حفل تكريمها.

ويورِد د. جابر عصفور في إحدى مقالاته، أنّ الأميرة فاطمة إسماعيل لم تَستمع مع الحضور إلى قصيدة أحمد شوقي التي مدحها بها واضطرَّت إلى أن تُنيب عنها أبناءها الذكور ووكيل أعمالها، وظلَّت هي حبيسة جدران قصرها، والسبب في ذلك أنّ تقاليد المجتمع المصري ما كانت تسمح لامرأة أن تحضر احتفالاً عاماً للأمّة وأن تُشارِك فيه، أو أن تكون مَوضع التكريم منه(صحيفة البيان الإماراتيّة، 27 /10 / 1999). 

والسؤال الذي يُمكن طرحه بهذا الصدد: هل الذاكرة العربيّة ذكوريّة إلى حدّ تهميش المُنجَز الأنثوي؟ سؤال قد يبدو غريباً، ولكن إذا ما تمعنّا في التاريخ الفكري العربي، وخصوصاً النسائي، نقف عند هذه الحقيقة الصادمة بالعودة إلى قضيّة المُناداة بتحرير المرأة وتمكينها من المُشارَكة في الحياة العامّة، حيث نَجد أنّ مَن أستأثرَ باهتمام الذاكرة العربيّة، مثلاً في هذا المجال، هو قاسم أمين، وذلك بمؤلَّفَيه “المرأة الجديدة” و”تحرير المرأة”، حيث اعتُبر رائد تحرير المرأة في مصر والعالَم العربي. ولئن كنّا لا ننكر فضله على المرأة المصريّة والعربيّة عموماً، فإنّ ملك حفني ناصف، كانت أوّل امرأة تنادي عَلَناً بتمكين النساء من المُشارَكة في الحياة العامّة وفي التحصيل العِلمي.

أسسَّت ملك حفني ناصف “اتّحاد النساء التهذيبي” بهدف توجيه المرأة إلى السُّبل الكفيلة بإصلاح أحوالها والنهوض بوضعيّتها. كما كوَّنت جمعيّة لإغاثة المنكوبين المصريّين والعرب، والتي تُعتبَر النواة الأولى لِما سيُعرف في ما بعد بالهلال الأحمر. وأقامت في بَيتها، وعلى نَفقتها الخاصّة، مدرسة لتعليم الفتيات مِهنة التمريض، ومثَّلت المرأة المصريّة في المؤتمر المصري الأوّل العام 1911 لبحث وسائل الإصلاح، وقدّمت فيه المَطالب التي تراها ضروريّة لإصلاح حال المرأة المصريّة. وعندما أُعلن عن مشروع الجامعة المصريّة، كانت “ملك” الآنسة الوحيدة التي ألَّفت لجنة لدعم المشروع الكبير، وجَمَعت قدراً من المال حتّى يتحقَّق أمل البلاد بظهور جامعة حديثة. لقد ترَكت ملك حفني ناصف مجموعة مقالات كانت توقِّعها باسم باحثة البادية، والتي صدرت في كِتاب تحت عنوان ” نسائيّات”، وهي أوّل امرأة مصريّة تنال الشهادة الابتدائيّة وشهادة التعليم العالي لاحقاً. وهذا الإنجاز هو الذي مكَّن واحدةً مثل هدى شعراوي من ولوج الجامعة وحمْل مشعل تحرير المرأة المصريّة، وبالتالي أن تكون نواة الحركة النسويّة العربيّة في ما بعد.

أمّا إذا انتقلنا إلى لبنان، فإّننا نجد اسماً نسائيّاً آخر تمّ تهميشه، على الرّغم من أنّ صاحبته عاصرَت روّاد النهضة العربيّة؛ يتعلّق الأمر بنظيرة زين الدّين التي ألَّفت كِتاب “السفور والحجاب”. ونظيرة زين الدّين، المولودة سنة 1907، كانت أوّل عربيّة تنال شهادة البكالوريا فرع العلوم وذلك سنة 1928، وكِتابها “السفور والحجاب” يتجاوز مسألة اللّباس بطرْحه قضيّة المرأة العربيّة بشكلٍ شمولي، حيث طالَبت بحقّ المرأة في التعلُّم، وفي الاجتهاد، وفي المُشارَكة في الحياة العامّة، بما فيها الحُكم؛ وفي سنة 1929 ستُصدر كِتابها ” الفتاة والشيوخ” الذي طالبت فيه بحقّ المرأة في الاجتهاد والشرح والتفسير للآيات والأحاديث.

واليوم ونحن نحتفل بمرور 100 عام على المُظاهرة النسائيّة الشهيرة بقيادة هدى شعراوي، التي نظَّمت يوم 20 آذار (مارس) 1919 للتنديد بالاحتلال البريطاني، نتذكَّر أنّها كانت أوّل مُظاهَرة نسائيّة في التاريخ العربي الحديث. وهنا يجدر بنا ألّا نُغفل ما أَنجزته النساء عبر تاريخ مصر إلّا إذا كان أحدنا أو إحدانا، يتعمّد أو تتعمَّد، تكريس ذكوريّة المُنجزات. وليس أدلّ على ذلك من الاهتمام الذي حظيت به كِتابات المُصلحين الذكور، في حين تمّ إهمال ما أَبدعته النساء من سرديّات مُختلفة؛ فهل تُدرَّس الروائيّات العربيّات والشاعرات العربيّات مثلاً، اللّواتي طَبعْنَ الحياة الأدبيّة نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؟ وهل يُمكن لأحد اليوم أن ينكر أنّ تحديث المجتمع وتقدّمه لا يُمكن أن يتمّ إلّا من خلال تحرير المرأة، وهي حقيقة سبق أن أشار إليها المفكّر هشام شرابي في كِتابه”النّظام الأبوي وإشكاليّة تخلّف المجتمع العربي” قائلاً: “إنّ الحركة النسائيّة هي الفتيل المؤهَّل لإشعال فتيل النّظام الأبوي من الداخل … وستُرسِّخ نفسها على أنّها حجر الزاوية الذي سيقوم عليه نِظام الحداثة”.

فهل لي أخيراً أن أكرِّر ما سبق وأن صرَّح به أيضاً المفكِّر هشام شرابي، من أنّ المجتمعات العربيّة لا تُحسن الإصغاء للنساء، وهي قضيّة جوهريّة في اعتقادي، على اعتبار أنّ هذا ما دأب هذا المُجتمع، مُمثَّلاً في الرجل بخاصّة، على فعله، ما جعلَ التاريخ العربي يُهمِّش النساء، لأنّه كان دائماً تاريخاً نخبويّاً وسلطويّاً.

وإنّنا اليوم نرى ضرورة إعادة كِتابة التاريخ الفكري والسياسي العربي من خلال الاهتمام بالوضعيّة الاجتماعيّة لكلّ الفئات المُهمَّشة (كالفقراء، والعبيد، والجواري، والأطفال، والنساء) ومن ضمنها النساء المُبدِعات، لكي نُعيد بعض الاعتراف للمُنجَز النسائي العربي.

*كاتبة وباحثة من المغرب مُقيمة في إسكوتلانده

قم بكتابة اول تعليق

أترك لنا تعليق

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


+ 41 = 50