ماذا تُخبّئ لنا التكنولوجيا؟

أفق – د. حسن الشريف*

قلّما تُطرَح في الإعلام العربي، أو في الأدبيّات العربيّة العامّة، قضيّة “إيجابيّات التقدُّم التكنولوجيّ وسلبيّاته” على حياة الإنسانيّة، من النواحي الاجتماعيّة والنفسيّة المُختلفة، على الرّغم من أنّ هناك كُتباً ومقالاتٍ عدّة حول هذا الموضوع في أدبيّات عالَميّة مختلفة. ويطرح هذا الأمر نفسه بشكلٍ مُلحّ مع الزيادة المطّردة لتداخُل التكنولوجيّات البازغة في حياة الإنسان والمجتمع. 

ومن نافلة القول إنّنا غير قادرين على التكيُّف المُناسِب مع مثل هذا التداخُل المُتسارِع، سواء من النواحي النفسيّة أم المُجتمعيّة، وحتّى القانونيّة والأخلاقيّة، عدا عن التأثيرات الاقتصاديّة العامّة.

تَطرح التكنولوجيّات البازغة والمتعدّدة الكثير من التساؤلات عن مَخاطرها وفوائدها في الظرف الرّاهن وفي المستقبل الأبعد. وإذا كان من الأكيد أنّ “جودة الحياة الماديّة” قد تحسَّنت بشكلٍ ملحوظ في القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، بسبب التقدُّم التكنولوجي، إلّا أنّ هذا التحسُّن لم يُرافقه بالضرورة تحسُّن مُماثِل في البيئة الإنسانيّة العامّة، من حيث سعادة الإنسان الذاتيّة والنفسيّة.

الأدبيّات العالَميّة ذات العلاقة تُناقِش تطوُّر التكنولوجيّات البازغة وتأثيراتها على الإنسان. ومن المستحيل رصْد كلّ التقدُّم المُتسارِع في التكنولوجيّات المُختلفة وتأثيراتها، لذا سنكتفي بذكر أهمّ تقدُّم متوقَّع لهذه التطبيقات في المستقبل المباشر وفي المدى المتوسّط.

أوّلاً: التقدُّم الهائل في القدرات الحاسوبيّة 

ربّما كان التقدُّم الهائل في القدرات الحاسوبيّة وانتشار تطبيقاتها في مُختلف نواحي الحياة، من الذكاء الاصطناعي إلى الهندسة الوراثيّة إلى هذا التداخُل المتزايد والمتوسِّع بين الإنسان والحاسوب، هو الأهمّ والأخطر في التطوّر التكنولوجي المذكور. 

مَن يُراجِع هذا التطوُّر الهائل في تكنولوجيا الحاسوب يتفاجأ بالسرعة والانتشار الذي طبع هذه التكنولوجيا، منذ وضعها في ميدان التطبيق في أواسط القرن الماضي، حيث كان القانون الحاكِم، قانون مور، يتمثَّل في تضاعُف القدرات الحاسوبيّة وكثافتها في فترةٍ ما تتراوح بين عامٍ ونصف العام إلى عامَين؛ وهذا يعني “التصغير” المستمرّ في حَجم الحواسيب وانخفاض أسعارها بشكلٍ مستمرّ. 

ومن هنا انتقلنا من الحاسوب الذي كان يملأ مبنىً بكامله، إلى الحاسوب الصغير المحمول باليد والمُتمثِّل حاليّاً بالهاتف الذكي النقّال. كما انتقلنا من الحاسوب ” الحاسِب”- الذي كان “متخصّصاً في العمليّات الحسابيّة” والمتميّز بالسرعة والقدرة الهائلتَين مُقارنَةً بقدرات الدماغ البشري- إلى الحاسوب الذكي القادر على مُحاكاة الدماغ البشري في الكثير من وظائفه وتخصّصاته.

لقد مرَّ الحاسوب بقفزات متعدّدة خلال مَسار هذا التطوُّر، وربّما كانت أهمّ تلك القفزات، التالية:

1- رقْمَنة تقنيّات الاتّصالات في أواسط الثمانينيّات من القرن الماضي، وما رافق ذلك من تطوّرات أوصلتنا الى الهاتف الذكي المحمول.

2- “شَعْبَنة” الحواسيب، التي بدأت في أواسط الثمانينيّات أيضاً، بظهور الحواسيب الشخصيّة، بحيث أصبح كلّ إنسان قادراً على اقتناء حاسوبه الشخصي، يستخدمه في مختلف التطبيقات “الشعبيّة”، وصولاً أيضاً إلى الهاتف الذكي المحمول.

3- التطوُّر الهائل، الذي جمع كلّ ما سبق، والمتمثِّل في انتقال الإنترنت من “الميدان العسكري المحصور” إلى الإطار التجاري العامّ في تسعينيّات القرن الماضي، وما تلا ذلك من تطبيقات مُختلفة ومُتعدّدة بتنا نعرفها اليوم.

4- الذكاء الاصطناعي: بدأ تطبيق “الذكاء الاصطناعي” بمعناه الأوسع، مع بداية استخدام الحواسيب في حلّ شيفرات التعمية، وانتشر ليشمل كلّ شيء في حياة الإنسان، بحيث يصعب حصر كلّ التطوّرات والتطبيقات المتعلّقة بذلك اليوم. والبداية، ربّما كانت أتْمَتَة الخطوط الصناعيّة، ثمّ التطوّرات المُتلاحقة للروبوتات، وصولاً إلى مختلف الجهود لمُحاكاة الدماغ البشريّ في وظائفه كافّة.

وبما أنّ المجال هنا ليس مُخصَّصاً للبحث في الذكاء الاصطناعي بأوجهه كافّة، فلا بدّ من طرْح بعض الأسئلة الحسّاسة المتعلّقة به:

أ‌- ماذا يجري عندما يستطيع الإنسان تطوير حاسوب فائق بقدراته وسرعته يكون قادراً على مُحاكاة قدرات الدماغ البشريّ بالكامل؟ ولا بدّ هنا من الإشارة إلى المشروع الذي تنفّذه جامعة مانشستر في إنكلترا في هذا المجال. فمنذ فترة وجيزة أَطلق العُلماء في جامعة مانشستر أكبر “دماغ آلي”، على شكل حاسوب يحتوي على أضخم وحدة مركزيّة “مفكِّرة”، يأملون أن تعمل على غرار عمل الدماغ؛ ويضمّ هذا الحاسوب أكثر من مليون مُعالج صغري microprocessor، ويعمل بنظام يُشابه شبكات العصبونات والأعصاب عند الإنسان، وبما يختلف عن طريقة عمل الحواسيب المُشابِهة الأخرى، وبشكل أسرع من أيّ حاسوب آخرٍ إلى اليوم. وسوف يُستخدم بشكلٍ أساس لتطوير نماذج متقدّمة للدماغ البشري بأجزائه المُختلفة.

ب‌- هناك جهد حثيث، على المستوى العالَميّ، ليس لتوسيع القدرات الحاسوبيّة فحسب، ولكن أيضاً لتعميق وظائفها وترابطها في شبكات عالَميّة موسَّعة. من ذلك تطوير “مَكتبة إلكترونيّة” عالَميّة تضمّ كامل إنتاج الحضارة البشريّة؛ وتطوير الترابط الحاسوبي وخدماته، من خلال العديد من الأساليب، ومنها الحَوسبة السحابيّة وإنترنت الأشياء وأخيراً إنترنت الأجسام…إلخ.

السؤال الحتميّ هنا، هل تصل هذه الكتلة الضخمة والمُتعاظمة من الحواسيب المترابطة إلى مرحلة الوعي الذاتي consciousness، وبشكل يجعلها مُستقلّة عن التدخُّل البشري؟

ثانياً: تطوّر تكنولوجيا الجينات، والهندسة الوراثيّة، وعلوم الأعصاب والدماغ

ثمّة تطوّر تكنولوجي هائل آخر، ما زال في بداياته، في علوم وتكنولوجيا الجينات، والهندسة الوراثيّة، وعلوم الأعصاب والدماغ. فقد بدأ عهد “البيوتكنولوجيا” في أواسط القرن الماضي مع اكتشاف الحلقتَين الحلزونيّتَين للحمض النووي DNA، الذي يشكِّل اللّبنة الأساسيّة للجينات الوراثيّة. وقد كانت هذه التكنولوجيا وتطبيقاتها المتنوّعة واعِدة جدّاً في تحسين جودة حياة البشر وقدراتهم. 

ومن المحطّات المهمّة التي أُنجزت في هذا المجال، تطبيقات عمليّة في الزراعة باستخدام تنمية الأنسجة وتحسينها في المُختبر لرفْع إنتاجيّة المَحاصيل؛ وكذلك في الطبّ من أجل فهْمٍ أفضل للأمراض الوراثيّة ومُعالجتها. إلّا أنّ هذه التطبيقات يُمكن وصفها بقمّة “جبل الجليد العائم”، مُقارَنَةً بما يُمكن أن يتحقَّق من تقدِّم، في المدى المتوسّط وفي المستقبل الأبعد؛ ومن ذلك ما تحقَّق في السنوات القليلة الفائتة، من قراءة الأفكار برصْد مَوجات الدماغ ودراستها، من خلال تطوير أجهزة جديدة، كما في جامعة بركلي في كاليفورنيا، لدراسة النشاطات الكهربائيّة للدماغ، والعمل على فكّ شيفرة الموجات الصادرة عن الدماغ لفهّم كيفيّة عمل الدماغ بشكلٍ أعمق “عند التفكير”. وكذلك العمل، على المدى الأبعد، على مُعالَجة الأمراض العصبيّة والدماغيّة بدراسة هذه المَوجات. ويقدِّر الباحثون أنّهم سيصلون قريباً إلى تطوير أجهزة قادرة على الدخول إلى أعماق الدماغ لقراءة الأفكار المدفونة فيه، ومن ثمّ التأثير على هذه الأفكار والمُعتقدات لتغييرها بحسب ما يريد الباحث، سواء لأغراض تجاريّة أم لأغراض أمنيّة – عسكريّة.

في المقابل، تجري حالياً تجارب مكثّفة، في جامعة ميتشغن وجامعة روكفلر، في الولايات المتّحدة الأميركيّة، لرسْم خريطة الجينات الوراثيّة للجنين لتحديد الأمراض الوراثيّة التي يُمكن أن يتعرَّض لها الجنين في حياته بعد ولادته، وهُم يعملون على إعادة صياغة هذه الخريطة وتركيبها لتجنُّب هذه الأمراض و/أو علاجها المبكّر.لكنّ هذه الأجهزة والتراكيب يُمكن أن تُستخدم في المدى المتوسّط والطويل لإعادة صوْغ الخارطة الجينيّة لتغيير كلّ ما له علاقة بالصفات والخصائص الوراثيّة للفرد، بما في ذلك مَهاراته وميوله وقدراته العقليّة والجسديّة والنفسيّة. ونَجَحَ باحثون في جامعة كيمبردج، في المَملَكة المتّحدة أيضاً، في “تركيب صناعي” يُقارب جنين فأر، باستخدام الخلايا الجذعيّة الأوليّة للفأر. وقد اعتبروا أنّ هذه هي خطوة أولى على طريق طويلة لتركيب جنين من خلايا جذعيّة بشريّة (من دون تزاوج ومن دون بويضات). وهذا قد يكون من شأنه إعادة تشكيل الخصائص الوراثيّة “للجنين المركَّب”، تبعاً لما يرغب به الذين “ركَّبوا الجنين”، أو الذين طلبوا منهم القيام بذلك.

ثالثاً: تفاعُل الإنسان والآلة وتداخُلهما

تتضافر تطبيقات الحاسوب الجديدة اليوم – مثل الذكاء الاصطناعي، والروبوتات على أنواعها، والحقيقة المزيدة والافتراضيّة، والحوسبة السحابيّة – لوضع تصوُّر متقدِّم للتشارُك المُثمر في المستقبل بين الإنسان والحاسوب، ولتغيير الكثير من صيَغ التعامُل المُشترَك في المجالات كافّة: في التربية، وفي الاقتصاد، وفي الصناعة، وحتّى في السياحة والتسلية، بما يؤدّي إلى زيادة الإنتاجيّة والتنوُّع في هذه المجالات كلّها.

هذا التفاعُل سيُعيد صَوْغ مفهوم “الحاسوب” و”الإنسان”، ولاسيّما أنّ “الحواسيب” لن تبقى بالكامل “خارج” جسم الإنسان، وأنّ هناك تطوّراً ملحوظاً في الإدماج البيولوجي لرقائق الحواسيب داخل جسم الإنسان لتعظيم قدراته ومَهاراته (النظَر والسمَع واللَّمس، وحتّى التفكير…إلخ)، بحيث سيكون بالإمكان “زرْع” رقائق قادرة على التفاعُل المباشر مع دماغ الإنسان لتوسيع قدراته الفكريّة وتعظيمها، وتسهيل تواصله مع الخارج، من خلال الاتّصال المباشر بين الدماغ وشبكة الحواسيب الضخمة، بما فيها من “معلومات” في المَكتبة الإلكترونيّة العامّة، وبما فيها من “قدرات تفكيريّة” أبعد بكثير من قدرة الدماغ البشري الفرديّ.

وسيسرًع هذا التطوُّر، في المستقبل المتوسّط، من عمليّة الاندماج والتكامل بين الإنسان والحاسوب. “فالحقيقة المزيدة” ستُستخدَم كأداة في التعلُّم المُستمرّ، وفي تحسين تدريب الأفراد أو إعادة تأهيلهم خلال العمل. و”الحقيقة الافتراضيّة” ستجعل من الممكن للإنسان المستخدم أن يغطس في سيناريوات متعددة كبدائل لحلولٍ مُمكنة. ومن خلال هذه التقنيّات، سيسود التعلُّم الفوري، لأنّ القدرة على امتلاك المَعرفة الفوريّة الجديدة ستجعل هذه المعرفة أكثر قيمة من كلّ تلك التي تعلّمها الإنسان في السابق. 

في المستقبل البعيد إذاً، سيكون من أهداف “الشراكة بين الإنسان والحاسوب”، أوّلاً، تسهيل التفكير الصياغي التجريدي للإنسان، وتيسير إيجاد الحلول للإشكالات ذات الصيغ العَمليّة الواضحة؛ ثانياً، تمكين الحاسوب والإنسان من التعاون في صنْع القرارات وفي السيطرة على الحالات المعقّدة، من دون الاعتماد على بَرامِج مقرَّرة مُسبقاً. وإذا ما افترضنا استحالة “استقلال” الحاسوب بالكامل عن الإنسان، فإنّ هذه الشراكة ستوكِّل الإنسان بوضْع الأهداف وصَوْغ الفرضيّات وتحديد المَعايير وتقييم النتائج، ليقوم الحاسوب من ثمّة بالأعمال الروتينيّة التي لا بدّ منها للتحضير لاستشراف المستقبل ولاتّخاذ القرارات في التفكير العِلمي والتقني. ويُمكن لمثل هذه الشراكة أن تنفِّذ عمليّات فكريّة ثقافيّة متقدّمة بشكلٍ أكثر فعاليّة من حالة الإنسان المستقلّ بذاته، أي غير المدعوم من الحاسوب.

أخيراً، ماذا بعد

في روايته الأخيرة “الأصول Origin”، بحثَ دان براون في أصول تطوّر الحياة من “نطفة من طين” إلى مرحلة متقدّمة تمثَّلت بالعرق البشري، واستشرفَ هذا التطوّر في المستقبل، ليصل إلى “مخلوق هجين” يجمع بين الإنسان والحاسوب، ويتمتّع بقدرات فائقة في كلّ المجالات.

ترى، هل تُخبّئ لنا التكنولوجيا مثل هذا التطوّر في اندماج الحاسوب بالإنسان؟

*باحث ومُترجِم من لبنان

قم بكتابة اول تعليق

أترك لنا تعليق

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


80 − 72 =