بقلم – حسن أوريد
عنوان قد لا يوحي بشيء، وخاصة حينما يقترن بعيد الحب، أو سانت فالنتاين. لكن إذا ظهر السبب بطل العجب. مصطلح الحاءات الثلاثة، أو الهاءات باللغة الإنكليزية صاغه وزير خارجية الولايات المتحدة مايك بومبيو، خلال لقاء وارسو، الذي انتظم بتاريخ 14 فبراير/شباط حول الأمن والسلم في الشرق الأوسط، كناية على الأعداء الثلاثة الذين يهددون، من منظور أمريكا وحلفائها، الأمن والاستقرار في المنطقة: حزبُ الله وحماس والحوثيون.
لعيد الحب في الشرق الأوسط قصة لا بأس أن نعيدها على الأذهان، حين عرّج الرئيس الأمريكي الأسبق روزفلت بعد مؤتمر يالطا على السعودية ومخر عُباب البحر الأحمر، وحمل معه على متن الباخرة كوينسي، الملك سعود في 14 فبراير 1945. ومنذ ذلك التاريخ قام ما سمي بحلف كوينسي المرتكز على المعادلة التالية: ضمان تدفق البترول، وحماية المملكة الناهضة. القصة معروفة، ولم يتعرض حلف كوينسي إلى الاهتزاز إلا مرتين، مع 11 سبتمبر 2001 وقضية خاشقجي. صمد مع شروط جديدة ودلال جديد من لدن عراب سانت فالنتاين، ينبغي أن تلتزموا بما نرسمه لكم، وتأتمروا بما نمليه عليكم، ثم ينبغي أن تدفعوا أكثر.
للرموز أهميتها في السياسة، اختيار انعقاد لقاء مؤتمر وارسو حول الشرق الأوسط في 14 فبراير ليس مصادفة أو اعتباطا. أمريكا تريد أن تكتب قصة «حب» جديدة. لم توفَّق كثيرا عقب سقوط حائط برلين، بعد عاصفة الصحراء والثعلب المراوغ في كتابة سرد جديد في المنطقة. جمعت المتحاربين في مدريد في أكتوبر 1991، ووضعت المعادلة الشهيرة، الأرض مقابل السلام، والقضية الفلسطينية لب النزاع، من أجل حال عادل ودائم وشامل. كم يبدو ذلك بعيدا، السرد الجديد يقوم على السلام مقابل الاستسلام، والقضية الفلسطينية صفقة. هناك قصة أخرى أوحى بها المحافظون الجدد ومعاهد أمريكا التي «تُفكّر» للعالم العربي، ترسم توجهاته، من أجل «دمقرطة الشرق وانغماره في عهد الاقتصاد الحر»، من بوابة العراق غداة حرب 2003. رسم الجنود الأمريكيون بعد إذ وضعت الحرب أوزارها على متن حاملة الطائرات شعار «المهمة اكتملت». وتكللت المهمة المنتهية بنظام طائفي، ومليشيات حلت محل الدولة، وصور الدمار بالعراق، ووحدة البلد على كف عفريت.
تعيد أمريكا كتابة سيناريو لقصة حب جديدة ما بين العرب والإسرائيليين، مع التلويح لهذا العدو المتضمن في الحاءات الثلاثة، وعرابه إيران. إنما هناك «لكن»، كما يقول الفرنسيون، قد تكون غابت عن أذهان حفلة سانت فالنتاين وارسو، أولا ليس التاريخ ميكانيكيا، وخياله أخصب من خيالنا، ولعل القاعدة الثابتة هي أنه لا يكرر نفسه إلا في صور مختلقة. يبدأ تراجيديا، وينتهي كوميديا. بدأت الكوميديا في المنطقة، ولكنه ضحك كالبكاء كما يقول صناجة العرب، المتنبي.
هناك «لكن» أخرى، وهي أن سياق الأحادية القطبية الذي أعقب سقوط حائط برلين انتهى. العالم متعدد الأطراف، ولم تعد تربطه أيديولوجيا. أوروبا وأقطابها فرنسا وألمانيا وبريطانيا خارج جوقة أمريكا، في ما يخص العقوبات المفروضة على إيران، ومتمسكة بالاتفاق حول النووي. وروسيا لم تعد كما كانت، ولم تعد قابلة لتتجرع مهانات أمريكا، هذه الأخيرة تقرر وروسيا تنصاع، كما في عاصفة الصحراء، وما تلاها.
هناك «لكن» ثالثة، وهي ديناميات الشعوب، هل ستنصاع الشعوب للزفة، وترى ما أريد لها أن ترى، أن ترى القريب بعيدا، والبعيد قريبا؟ هل ستجهز على ذاكرتها وعلى مقتضيات العدل والمنطق؟ هناك أخطار ذهل عنها مؤتمر وارسو، تهدد الأمن والاستقرار في المنطقة، وهي الفقر، وسوء التوزيع العادل للثروات، والاستفراد بالسلطة، وخرق حقوق الإنسان والاستهانة بكرامته. وهي «الأناّت» التي كان حريا بمسؤول الخارجية الأمريكية أن يستنفر الهمم من أجل التصدي لها، ولآل يعرب والمؤلفة قلوبهم أن يشُدوا إليها الرحال.
نعم سيعقب لحظة وارسو «الفارقة»، و»التاريخية»، بعض التسريبات عن «الأجواء الإيجابية» للقاء وارسو، والعشاء الودي الذي تخلله، مع التجني عمن يحنون للماضي، واللقاءات الجانبية الواعدة، والحلم بشرق أوسط جديد، وتحيين أدبيات شمعون بيريز من أجل واحة من الازدهار في الشرق الأوسط. سيُزاح الغابر عن متن متآكل وأسطوانة مشروخة، مثلما سيكشف سبق صحافي أو على الأصح تسريب مقصود، عن مسار تطبيع مستتر، ووعد بزيارة… ثم لا شيء. سوى الفاتورة. دعوة ترامب حلفاءه بالإسهام أكثر في نفقات الحماية وأتعاب الرعاية. الشاطرون سيسعون لأن يوفقوا بين النقيضين، ينصاعون للعم سام، ويتحدثون لقناة «روسيا اليوم»، حتى لا يضعوا بيضهم في سلة واحدة.
في صيف 1986، حل شمعون بيريز، بمنتجع إفران بالمغرب. كان مما حكاه لي مسؤول مخابرات مغربي، أنه كان الوحيد مع المدير العام السابق للمخابرات، من كانا على علم بالزيارة، وكان الشرط أن تتم في سرية تامة. دقائق بعد أن حطت الطائرة في مطار فاس سايس، وقبل أن تصل السيارة التي تُقل شمعون بيريز إلى إفران، كان راديو تل أبيب قد أذاع الخبر عن زيارة بيريز للمغرب، ما وضع المغرب في موقف حرج، عبّر عنه الملك الراحل الحسن الثاني في ندوة صحافية، اعتبرها الأصعب في حياته. هل يأمن حلفاء إسرائيل، الظاهرون والمستترون، التسريبات التي تحرجهم مع شعوبهم؟
لا يمكن للعالم العربي أن يظل خارج منطق التاريخ، لأنه بكل بساطة إن ظل كما هو فإنه سيؤول إلى الانتحار. هناك ديناميات تعتمل قد لا تبرز للعيان.
هنيئا للشيوخ بحيويتهم الجديدة وفحولتهم المستعارة في عيد الحب، بسان فالنتاين. هنيئا لهم ارعواءهم، وزكانتهم (وهي الفطنة مشفوعة بالفراسة) وتوقد أذهانهم وبُعد نظرهم، لكن مثلما يقول المثل العربي: دمعة من عوراء غنيمة باردة.
كاتب مغربي ( القدس العربي )
قم بكتابة اول تعليق