
بقلم ـ الحبيب الدائم ربي
من شأن هذه القصص أن تتيح لقارئها جملة من المداخل الممكنة، التي قد يتقاطع فيها عدد من الأسباب الموجبة للاستدلال . فلئن كان باحثا فيها عن الصداقة والأصدقاء، فله فيها مغنم و ملاذ، . ولئن كان يروم اختبار إلى أي مدى قد ترتقي الكتابة المشتركة فهيت له، ولئن كان من محبي القصة القصيرة وكفى، فليغنم من لذة الحكى ما يكفي ويفي، ولئن كان يبغي ما وراء الأجمة من ميتاحكي وهلم خطابات واصفة فهو قاب قوسين أو أدنى مما يبغي، فهو وما يريد: بدءًا بأسباب التخلق والورود وانتهاء بمآلات التأويل مرورا بسيرورة الصنعة والإنتاج. سيما وأن المجموعة نسيج روحين و تجربتين معا وفي آن. فإذا كانت لكل قصة حكاية وأوَد وقوام، ولها أيضا قلب ويد، فإن قصص هذه المجموعةقصص أخرى، لأن لها أربع أياد في يد، وخيالا مجنحا لكنه مشدود إلى الواقع بوتد.
و ليس الحديث عن “التويزة”، بمعناها الفصيح والدارج، هنا والآن، مجرد فرضية تفيض عن الحاجة، ولا بديلا عن تسمية تنوب مناب “المجموعة”، لأن “المجموعات القصصية” عادة ما تكون، ولا مشاحة، تجميعا لما يُجمَع وما لا يُجمَع، في حين أن “اليد الرابعة” نسيج واحد في كتاب مسطور تأزَّ(أي تلاحم وتعاون) في شأنه شخصان بينهما وشائج عديدة. من ثم فالقول بأنها مجموعة مشتركة لا يخلو من شطط وقصور، سيما وأن مكوناتها لا تخضع لما دأب عليه الدائبون في تجميع العناصر إلى بعضها بعضا ضمن ثنايا كتاب. فهي فضلا عن تضامّ قصص، هي كذلك في بعض نصوصها، مقدودة من نبضين متماهيين حد الحلول، حتى أن الجملة الواحدة، أحيانا، مفكر فيها من قبل اثنين مجتمعين، وكذا والصوغ والإنتاج .
فالأستاذان عبد الجليل لعميري وعبد الرحمان الكياكي صديقان منذ القرن الماضي، صديقان لبعضهما ولي، وهذا في حد ذاته سند إضافي لتأكيد مفترض “التويزة”. فالصداقات الكبيرة والممتدة تقوي الوشائج الإنسانية إلى درجة أنها، حسب تعبير محمد عابد الجابري، تصبح إحدى أهم إنجازاتنا الشخصية. لذلك فإن خوضهما هذه المغامرة، ولهما سوابق فردية مشهودة في الكتابة، فليبرهنا على ما بوسع الصداقة ان تثمره من حس إنساني وفعل إبداعي، وليدفعا بمفهوم “الكتابة المشتركة” إلى أفق عالبا ما كانت تقف دونه. إذ ظل “المشترك” في الكتابة هو الحيز لا النبض، الموضوع لا الصنعة، النشر لا التأليف. وجدنا هذا في البحوث النظرية وأحيانا في الفن الروائي، وبعض الفنون غير اللغوية، وقليلا ما لمسناه في الإبداع القصصي. أما وأن يتم عجن سنخ النص عجناً من اثنين إذ هما في حضرة الإبداع فذلك تضام أقوى من المشاركة التي ينضاف فيها نص إلى نص فلا يبغيان.
وبقدر ما تسمح عتبة عنوان هذا التجربة “اليد الرابعة”، من خلال حفزها لأفق التلقي، بتوليد تناصات من مجالات فنية مختلفة كاستيحاء سونيتات موزار التي تدمج الإيقاع بين آلتي بيانو لشخصين معا، أو رواية الكاتب الأمريكي جون إيريفين ” اليد الرابعة” وغيرها. فإن الكاتبين ما يفتآن أن يكشفا هذه التقنية ويناقشاها ضمن قصة” حوار ليلي “، مما يؤكد حضور الوعي العلائقي لديهما مع سبق إصرار.
بيد أن نصوص “اليد الرابعة” لا تنساق وراء تجريب شكلاني يجهز على انسيابية الحكي وواقعيته . فكل نص فيها واقعي حد الخيال، ومفارق درجة الغرابة، كالواقع تماما أو أقرب قليلا. وحتى لا نلغي الفوارق الضرورية بين الصوتين الفاعلين في فعل الكتابة وجب التذكير بأن أي جنوح غرائبي قد يعود بظننا إلى الأستاذ لعميري بينما التصادي مع جرح الواقع هو إلى طبع الأستاذ الكياكي أدنى. وهذا محض تقريب ليس إلإ. وعلى هذه الوتيرة المراوحة بين جنوح الخيال وعنف المعيش سيتم رصد وتشخيص عدد من الأعطاب الاجتماعية لهذا الواقع الفج. كاستعارة أسباب التمدن التي كانت كلفتها غالية، و كيف أظهر الانتهازيون الدفاع عن المصالح العامة وأخفوا أطماعهم الشخصية، و استمرار النفوذ الأجنبي في المستعمرات السابقة، و الحنين إلى الاستعمار لدى بعضهم، وهكذا. لكن الكاتبين لم ينشغلا بمثل هذه القضايا الكبرى وحسب، بل خاضا في أمور تبدو بسيطة لكنها لا تخلو من أهمية وطرافة. كأن يضيع من كاتب مفلس مشروع قصة قصيرة، أو أن يتمنى متقاعد لو توفرت له نسخة أخرى من حياة، أو يموت فيلسوف دون أن يحضر جنازته أصدقاؤه، أو ما سيؤول إليه زواج فاشل بشخص فاشل، أو وقوع المثقف في فخ الأمي، إلخ.
قصص محبوكة بسلاسة خادعة، و بلغة مغموسة بسخرية لاذعة، يتساوق فيها الدارج بالفصيح والمعيش بالمتخيل، والبدهي بالمستحيل، مما يجعلها مفتوحة المداخل، متعددة المستويات، وما على القارئ إلا أن يبحث فيها عما يحب ويرتجي. ولكل قارئ فيها ما ينوى .

قم بكتابة اول تعليق