ممدوح مبروك* (نُشِرَ هذا المقال في دوريّة أفق التي تصدر عن مؤسّسة الفكر العربيّ)
ممّا لا شكّ فيه أنّ التطوُّرَ الذي شهده العالَم على مرّ التاريخ كانت له انعكاساته الواضحة على التركيبة السكّانيّة، والعلاقات الاجتماعيّة والإنسانيّة؛ فالثورة الصناعيّة في أوروبا، بمَوجاتها الثلاث مثلاً، كانت تهدف بشكلٍ أساسيّ إلى زيادة الإنتاجيّة من خلال استخدام وسائل وأدوات أكثر تطوّراً. وعلى الرّغم من ذلك، أدَّت إلى إلغاء بعض الوظائف واستحداث غيرها كقطاع التصنيع الذي زاد الإقبالُ عليه بشكلٍ كبير، وبسبب ذلك شهدت أوروبا موجات هجرة واسعة من الريف إلى المُدن.
أمّا اليوم، فقد صار التقدُّم أكثر تعقيداً؛ حيث تتحكَّم فيه التكنولوجيا الذكيّة بشكلٍ يمكن أن يصل إلى حدّ الاستغناء الكامل عن البشر في شتّى مجالات الحياة، وهذا ما أَطلق عليه “المنتدى الاقتصادي العالَمي” في دافوس في العام 2016 اسم “الثورة الصناعيّة الرّابعة”، التي قال عنها الاقتصادي الألماني كلاوس شواب Klaus Schwab، مؤسِّس المنتدى “إنّها ستعمل على إزالة الحدود بين العالَم المادّي، والعالَم الرقمي، والعالَم الحيوي، وستُغيِّر نمطَ حياتنا وعملنا وعلاقاتنا الاجتماعيّة بشكلٍ كامل، كما أنّ التطلُّعات والمخاطر الكامنة من ورائها ستكون غير مسبوقة على المستويات كافّة”.
مناخُ عملٍ غير آمن
أَحدثت تقنيّةُ الذكاء الاصطناعي ثورةً في مختلف المجالات؛ ففي مجال التعليم كان من المُفترَض أن يصلَ الحجم النموذجي للفصل الدراسي إلى بضع عشرات من التلاميذ، أمّا الآن فالوضع اختلف تماماً حيث يُمكن لمُدرِّسٍ واحد الوصول إلى ملايين المُشاهدين عبر الإنترنت، وذلك بتكلفةٍ أقلّ للطالب، وجودة قابلة للتحسُّن مع مرور الوقت. وبالتالي لم يعُد الذهاب إلى الجامعات أمراً ضروريّاً طالما أصبح الطالِب قادراً على الوصول إلى أفضلها من المنزل.
وفي مجال الخدمات الماليّة، أدَّت المُنافَسة الشرسة إلى إلغاء عشرات الآلاف من وظائف المكاتب الخلفيّة، ووظائف التعامُل مع العُملاء؛ حيث تُقدِّم أجهزةُ الكمبيوتر خدمات الدَّفع، وتخصيص الائتمان، والتأمين، ودعْم سوق رأس المال، وإدارة الأصول بشكلٍ أسْرَع وأدقّ من البشر.
تُعَدّ ثورةُ الذكاء الاصطناعي أوّل ثورة تدمِّر الوظائف والأجور بشكلٍ عامّ؛ فاحترافُ شخصٍ ما لمهنةٍ معيّنة لا يعني امتلاكَ وظيفةٍ آمنة؛ حيث أصبح من السهل أن يحلّ الروبوت محلّ البشر.
يعتبر الفيلسوفُ السويديّ والأستاذ في جامعة أكسفورد “نيك بوستروم” Nick Bostrom مؤلِّف كِتاب “الذكاء الخارق” (الذكاء الاصطناعي) أنّ الذكاء الاصطناعي يُمثّل تهديداً وجوديّاً للبشريّة شأنه شأن ضربات الكويكبات العملاقة، والحرب النوويّة.
بَدأ الأمرُ بالوظائف الروتينيّة، ثمّ توسَّع ليَشملَ الوظائف المعرفيّة والإبداعيّة؛ حيث يُمكن باستخدام الذكاء الاصطناعي إجراءُ مَسْحٍ لمجموعاتٍ كبيرة من النصوص، والترجمة بين اللّغات، وإنشاء نصوصٍ جديدة بجودةٍ عالية. وفي هذا الصدد يقول مصطفى سليمان، أحد مؤسِّسي شركة الذكاء الاصطناعي البريطانيّة DeepMind، والرئيس السابق لسياسة الذكاء الاصطناعي في شركة Google: “إنّ التمييز بين النصوص، والصور، والصوت التي يتمّ إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي ونظيره الذي يُنتجه الإنسان سيُصبح أمراً في غاية الصعوبة، وسيؤدّي في نهاية المطاف إلى انتهاء أعداد كبيرة من وظائف ذوي الياقات البيضاء التي تَستخدم مستوياتٍ متقدّمة من الإدراك”.
وظائف مهدَّدة بالانقراض
وفقاً للدراسة التي أجراها فريقٌ من الباحثين في جامعة برينستون العام الماضي (2023) حول الوظائف الأكثر تأثُّراً بصعود الذكاء الاصطناعي، أفادت الدراسةُ أنّ المُسوِّقين عبر الهاتف هُم الأكثر عرضةً للخطر؛ حيث تتّجه شركاتٌ عدّة حاليّاً إلى استخدام روبوتات الدردشة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي لأداء تلك المهمّة.
من ناحيةٍ أخرى، أصبح الذكاءُ الاصطناعي غير قادر حتّى الآن على أن يحلّ محلّ القضاة البشريّين، لكنّ التكنولوجيا مفيدة في قاعة المَحكمة من نواحٍ كثيرة؛ حيث يُمكن لآلةِ الذكاء الاصطناعي جمْعُ الأبحاث، ما يُسهِّل على القاضي مهمّة الاطّلاع على الكُتب القانونيّة يدويّاً. كما يُمكن للذكاء الاصطناعي أيضاً أن يحلّ محلّ المُعلّمين مستقبلاً، ومحلّ موظّفي الخدمات العامّة لدى الشركات الكبرى، وكذلك الصحافة؛ حيث يستطيع تجميع التقارير الرياضيّة، ومُراقَبة حركة سوق الأوراق الماليّة وتلخيصها.
تقول الدراسة “إنّه من المرجّح أن يكون تأثيرُ الذكاء الاصطناعي على العمل متعدّد الأوجه؛ ففي بعض الحالات، قد يكون الذكاء الاصطناعي بديلاً عن العمل الذي قامَ به البشر سابقاً، وفي حالاتٍ أخرى، قد يُكمل الذكاءُ الاصطناعي العملَ الذي قامَ به البشر”.
من المُفترَض أن يُساعدَ انتشارُ الذكاء الاصطناعي على خلْقِ فُرص عملٍ جديدة في مجالاتٍ معيّنة مثل: علوم البيانات، والتعلُّم الآلي وغيرهما، وتتطلَّب هذه الوظائف مهاراتٍ مطلوبة بشدّة، ويُمكن أن توفِّر لأصحابها رواتب عالية.
يحتاج الأمر إلى القدرة على اكتساب مهاراتٍ جديدة لتظلّ العمالة قادرةً على المُنافَسة في سوق العمل، وبالتالي ستُصبح برامج إعادة تأهيل المهارات وصقْلها ذات أهميّةٍ متزايدة للعمّال ليظلّوا جاهزين للتوظيف.
على مستوى الكفاءات والمهارات يُمكن أن يُساعد الذكاء الاصطناعي في زيادة الكفاءات والإنتاجيّة في العديد من الصناعات، ما يؤدّي إلى زيادة الأرباح وارتفاع نموّ الوظائف في بعض المجالات.
خَلَلٌ اجتماعيّ
تشير الدلائل إلى إنّ بدائل الذكاء الاصطناعي ستؤدّي إلى خفْضِ الأجور والمرتّبات، ومن ثمَّ زيادة الفجوات الاجتماعيّة بين البشر؛ فالابتكار التكنولوجي كثيف رأس المال، ومُتحيِّز للمهارات العالية؛ وبالتالي إذا كنتَ تمتلك الجهاز فإنّ الذكاء الاصطناعي سيجعلكَ أكثر ثراءً وإنتاجيّة. أمّا إذا كنتَ موظَّفاً من ذوي الياقات البيض أو ذوي المهارات المُنخفضة، أو حتّى المتوسّطة، فسوف يقلِّل الذكاء الاصطناعي في النهاية من راتبكَ ويجعل وظيفتكَ قديمة.
أفادت وكالةُ الاستخبارات المركزيّة الأميركيّة أنّ مسألة عدم المُساواة في الدخل في الولايات المتّحدة الأميركيّة تتطابق تقريباً مع المستويات في الأرجنتين، وتركيا. هذا بالإضافة إلى خروجها عن السيطرة؛ فعلى مدى أربعة عقود قَفَزَ دخلُ الرؤساء التنفيذيّين من 28 ضعفَ دخلِ العامل العاديّ إلى أكثر من 376 مرّة في العام 2000. والحال نفسه بالنسبة إلى الصين، حيث تشعر الحكومةُ الصينيّة بالقلق إزاء الاختلال المُتزايد بين الأغنياء والفقراء. وبحسب ما أفادت به شركة Nikkei Asia في أيلول/ سبتمبر 2021 “أصبح عمالقةُ التكنولوجيا تحت أعيُن السلطات لمنْعِ أيّة مُمارسات احتكاريّة تتعارض مع المصلحة العامّة”.
تُعاني الاقتصادات من مشكلةِ استهلاكٍ حينما يُصبح الأثرياء أكثر ثراءً والعاملون أقلّ دخلاً؛ حيث سيؤدّي الأمرُ في نهاية المطاف إلى انخفاضِ معدّلات النموّ بسبب إنفاق الأُسر، ذات الدَّخل المُنخفِض، كلّ ما لديها تقريباً، ومَيل الأثرياء إلى المزيد من الادّخار. وفي هذا الصدد يحذِّر العالِمُ الأميركي “مارتن فورد” Martin Ford في كتابه “صعود الروبوتات“، الحائز على “جائزة فايننشال تايمز لكُتب الأعمال”، من خطورة افتقار الجزء الأكبر من المُستهلِكين إلى الدخل والقوّة الشرائيّة اللّازمة لدفْعِ الطَّلب اللّازم للنموّ الاقتصادي المُستدام.
مستقبلٌ ضبابيّ
يرى الخبراءُ أنّه خلال العقود المُقبلة سيكون هناك فائزون في أجزاءٍ من أوروبا، والصين، وأميركا الشماليّة، ومن ناحيةٍ أخرى ستَخسر العديد من البلدان الأخرى، حيث ستكتسحها البطالةُ التكنولوجيّة، وستغرقُ في الديون التي لا تستطيع سدادها.
بالنسبة إلى فئة المتعلّمين والمَهَرَة الذين فقدوا وظائفهم بسبب الذكاء الاصطناعي، سينتهي بهم الأمر إلى العمل المؤقَّت بدخلٍ غير مستقر،ّ ومن دون فوائد، وسوف ينتقلون من وظيفةٍ إلى أخرى بلا مُستقبل، ويَسقطون في شبكةِ أمانٍ مُهترِئة؛ فمع انخفاض الدخل قد يحاولون اقتراضَ المزيد، ومن ثمَّ تزداد أعباء الديون مع اتّساع فجوات الدخل.
لم يعُد التعليم حلّاً للتصدّي لهجوم الذكاء الاصطناعي؛ حيث كانت عوائد التعليم أعلى عندما يُمكن أن تؤدّي الترقية المتواضعة في المهارات إلى وظيفةٍ أفضل ومزيدٍ من الدخل أو عندما تتطلَّب وظائف المُبتدئين درجاتٍ علميّة متقدّمة.
يُشير البعض إلى تعديلِ نظامِ الضرائب كحلٍّ لإزالة الفجوة الاجتماعيّة، بحيث يتمّ فَرْض الضرائب على مالكي الآلات، والتعامُل مع الروبوتات كما لو كانت بشريّة.
أيضاً تمّ اقتراح أحد الحلول خلال الحملة الرئاسيّة لعام 2020 في الولايات المتّحدة الأميركيّة، مفاده أنْ يتمّ مَنْحُ كلّ فرد حصّةً في ملكيّة جميع الشركات، بحيث يحصل هؤلاء الأفراد على عوائد الرأسماليّة، على الرّغم من كونها فكرة تبدو في مضمونها شكلاً من أشكال الاشتراكيّة، بسبب امتلاك كلّ عامِل لوسائل الإنتاج.
في ضوء ما سبق، يمكن القول إنّ تأثير الذكاء الاصطناعي على سوق العمل سيَعتمد على العديد من العوامل مثل: وتيرة التقدُّم التكنولوجي، وتوافُر الأيدي العاملة الماهرة، وقدرة الحكومات والشركات على التكيُّف مع هذه التغييرات. في حين أنّه قد يكون هناك فقدانٌ لبعض الوظائف على المدى القصير، ومن المرجَّح أن يكون التأثير الإيجابي للذكاء الاصطناعي على سوق العمل قائماً على مدىً طويل، مع إمكانيّة زيادة الإنتاجيّة والابتكار، وإمكانيّة مساعدة الشركات على اتّخاذ قرارات أفضل، وخفْض التكاليف، وتحسين تجارب العُملاء، ما قد يؤدّي إلى زيادة الأرباح.
لن يتمّ توزيع فوائد الذكاء الاصطناعي بالتساوي في جميع الصناعات ولدى مختلف المهارات؛ فقد تكون بعض الوظائف أكثر قابليّةً للتطوُّر من غيرها، وقد يحتاج بعضُ العمّال إلى اكتساب مهاراتٍ جديدة ليَظلّوا قادرين على المُنافَسة في سوق العمل.
*باحث في العلوم السياسيّة من مصر
قم بكتابة اول تعليق