أفق – د. محمَّد حلمي عبد الوهَّاب*
ثمَّة معطيات عدَّة توحي بتحوّلاتٍ عميقة جرت على واقع الفلسفة في ظلّ اتّساع ظاهرة العَوْلَمة، حتّى بات التساؤل عن مستقبل الفلسفة معبِّراً، في جوهره، عن قلقٍ أكبر حول حدود العقل مع تنامي النّزعات المُبشِّرة بـ “موت الفلسفة” حيناً، و”نهاية التّاريخ” حيناً آخر. وإذا كان المَلمح الفلسفيّ الأصيل عند أيّ فيلسوف يتمثّل في قدرته على طرح السُّؤال – فما الفلسفة عبر تاريخها الطويل إلَّا مجرّد سؤال – فإنَّ هذا المَلمح قد تحوَّل بدوره من إثارة التساؤلات في الكثير من القضايا المُعاصِرة إلى التساؤل عن “مُستقبل السُّؤال” بحدّ ذاته!
نعني بذلك التساؤل عن “مآلات الفلسفة” في أوضح ملامحها، بخاصّة بعدما قَضت الثورة العلميّة التقنيّة – أو كاد الذكاء الاصطناعيُّ يقضي – على كلّ مساحة في “جغرافيا العقل” كان للفلسفة وجودٌ بارز أو وحيد فيها. فهل تخلّت “أمّ العلوم”، طوعاً أو كرهاً، عن أرضيّة إبداعاتها، بحيث لم يبقَ لها سوى البحث في “بعض” ما هو ورائيّ، غَيبيّ، ميتافيزيقيّ؟!
أزمة النّزعة الإنسانيّة
ابتداءً من ستّينيّات القرن العشرين لاحت في أُفق النقاش الفكريّ العالميّ ظاهرةٌ ثقافيّة أثارت الانتباهَ لجهة تركُّز خطاباتها حول ما أَسمته بـ “أزمة النّزعة الإنسانيّة” التي تتّسم، بحسبها، بمجموعة من الصفات المحدّدة من بينها: كلّ فلسفة تهتمّ بالإنسان باعتباره مركزاً للعالَم، وكلّ فلسفة تؤكِّد على أولويّة الوعي والإرادة في كلّ مشروعٍ تأسيسيّ. وكذلك أيضاً: كلّ فلسفة تؤمن بأنَّ المُبادرات الإنسانيّة تُسهِم في صناعة التّاريخ (سلباً أو إيجاباً)، أو في سيرورة المَعرفة.
وممَّا أَسهم في إثراء هذا النقاش، انخراطُ مجموعة من الفلاسفة المُعاصرين ممَّن جمعهم هذا القاسِم المُشترَك فعبَّروا عنه من مواقع فكريّة مُتباينة، ومن مستوياتٍ خطابيّة مُتعدّدة، فيما بقيَ المضمون على الرّغم من ذلك واحداً: ظلّت الفلسفة، طيلة تاريخها، تكذب على نفسها عندما آمنت بالإنسان كوعي وإرادة، وكذاتٍ خالِقة للمعنى مُبدِعة للدّلالات! ونتيجةً لذلك، أَوشك إنسانُ الفلسفةِ هذا على الانقراض، ولم يبقَ له من ملاذٍ سوى بقايا متهاوية من الفكر الميتافيزيقيّ، أو بعض إيديولوجيّاتٍ أوشكت هي الأخرى على الاندثار! وفي الواقع لم يقتصر الأمر على نقد النّزعة الإنسانيّة فحسب، وإنَّما تجاوزها لنقد الفكر التَّاريخيّ أيضاً. ولو أنّ البعض لم يفقد الأمل تماماً في إمكانيّة تأسيس نزعة إنسانيّة جديدة، عوضاً عن تلك التي سادت خلال العصور الغابرة؛ بخاصّة خلال العصور الوسطى، شريطة أن تُستلهَم من تقدُّم العِلم ذاته.
في هذا السياق قدَّم الدكتور عبد الرزَّاق الدَّواي مُقارَبةً تحليليّة ونقديّة لهذا التيّار في كتابه موت الإنسان في الخطاب الفلسفيّ المعاصر، الذي توقّف فيه مطوّلاً عند نقد نيتشه Friedrich Nietzsche (1844 – 1900) الميتافيزيقيا، وقراءة ألتوسير Louis Althusser (1918 – 1990) الجديدة للماركسيّة، والنقد الهايدغريّ Martin Heidegger (1889 – 1976) لفلسفة الذَّات والنَّزعة الإنسانيّة، والنقد الأنتربولوجيّ البنيويّ الذي ظهر بصورة واضحة في أبحاث كلود ليفي ستروس Claude Lévi-Strauss (1908 – 2009)، وأخيراً النقد الأركيولوجيّ (الحفريّ) في مشروع الفيلسوف الفرنسي المُعاصر ميشال فوكو Michel Foucault (1926 – 1984).
العدميّة الفلسفيّة
يهمّنا هنا خصوصاً الوقوفُ على الجهود التي بَذَلَها ميشال فوكو في أبحاثه، وبتفانٍ كبير، من أجل التقويض الجذريّ لأُسس النَّزعة الإنسانيّة، وخصوصاً أنَّه انتحل لمشروعه النقديّ ميدانَ نشأة العلوم والمعارف الذي ظلَّ مُهملاً حتّى ذلك الحين إلى أن قام فوكو بعزله تماماً عن كلٍّ من: الحياة والبشر والتاريخ، مُبلْوِراً من خلاله أطروحته الخاصّة التي تزعم أنَّ المعرفة، كمجالٍ تاريخيّ تظهر فيه العلوم، تتّسم بكونها متحرّرة من كلّ ذاتٍ مؤسِّسة، وأنَّ ثمَّة في كلّ حقبة تاريخيّة معيَّنة ثوابت قبليّة تاريخيّة، هي التي تتحكَّم في إنتاج المعارف المُتعدّدة وتنظيمها. وبذلك يكون فوكو قد قام في خطوةٍ واحدة بإلغاء الذّات الفعَّالة والمُبدِعة في مجال المعرفة، كلّ معرفة، من ناحية، وتصدَّى مباشرةً إلى مفهوم الإنسان ذاته كي يستأصله من الثقافة والمعرفة، مُضفياً طابع الظَّرفيّة العابرة على حَدَثِ ظهوره ونشأته من ناحيةٍ أخرى. ونتيجةً لذلك، خَلُصَ فوكو إلى القول إنَّ “التَّفكير لم يعُد مُمكناً في أيَّامنا هذه، إلَّا داخل الفراغ الذي يُخلّفه اختفاءُ الإنسان“!
هكذا تؤسِّس تلك الفلسفات لوضعيّةٍ شاذّة من “العدميّة الفلسفيّة” التي يتحوّل الإنسانُ في إطارها من مُشيِّدٍ للحضارات، ومُبدعٍ للثقافات، إلى مجرّد نسخة متكرّرة من سيزيف Σίσυφος! وذلك كلّه في الوقت الذي اغتنتْ فيه مجالات العقلانيّة والعقْلَنة، واكتَسحت فيه ميادين جديدة من الفعاليات البشريّة، فإذا بالفكر العدميّ والنَّزعات الظلاميّة تعود ثانيةً لتتصدَّر واجهةَ المشهد الفلسفيّ. وهكذا انتهت الفلسفةُ إلى مُحاكَمةِ مُبدعها الأوّل (الإنسان)، غير مُنتبهة إلى حقيقة أنَّ “موت الإنسان” هو “موت للفلسفة” ذاتها! وأنَّ الحجج التي تسوقها لتبرير إعلان هذا الموت، وعلى رأسها: ضرورة التحرُّر من جميع الأوهام الإنسانيّة، بما فيها وهْم الإنسان “الإنسانيّ”، أي الواعي والفاعِل والمُبدِع والمسؤول، أُقيمت على افتراضٍ واهٍ بأنَّ البشر جميعاً إنَّما يقيمون المشروعات والأهداف كافَّة والغايات الخاصَّة بحياتهم، استناداً إلى تأويلاتٍ ميتافيزيقيّة للوجود، في الوقت الذي يعلمون فيه عِلم اليقين بأنَّهم قد وُجدوا من أجل أن يموتوا فقط!
وهُم بذلك يرسمون صورةً لإنسانٍ عاجز وكائنٍ غارق في عالَمٍ لم يَختره، ولم تكُن له يدٌ في صُنعه، فضلاً عن بقائه أسيراً لوضعيّته المشروطة بحتميّاتٍ متعدّدة تحدُّ كلَّ ما يتوهَّم أنَّه محض “اختياراته” الذَّاتيّة، فيما هو مجرّد طَيْفٍ عابرٍ في عالَمٍ “مُعادٍ له، ويغمره كليّاً“! فهل تعني الدَّعوة اليوم إلى التخلّي عن النَّزعة الإنسانيّة، التخلّي عن الإنسان ككائن ميتافيزيقيّ فقط، أو أنَّها أضحت كذلك التخلّي عن البشر الواقعيّين، عن أَلَمِ الجماهير العريضة المحرومة من الحريّة والعدالة، ومن حقّ تقرير المصير؟!
مُساءَلة خطاب النهاية
هنا لا يبدو تساؤل جاك دريدا Jacques Derrida (1930 – 2004)، عن كيف يُمكن فهم خطاب النهاية والخطاب حولها؟ وهل يُمكن أن تكون “نهاية النّهاية” مفهومة بحدّ ذاتها؟!، تساؤلاً عبثيّاً أو محض سفسطة جدليّة، كما يزعم البعض، وإنّما كان في صميمه تساؤلاً فلسفيّاً يروم التَّمييز بين “خطاب النّهاية” الذي يدور في فَلَكِ ما يُسمَّى بـ “القيامة الحديثة Apocalypse Moderne “، الذي يضمّ بدوره كلّاً من: موت الإله (نيتشة)، موت الإنسان (فوكو)، موت الفلسفة (هايدغر)، موت المثقّف (سارتر)، من جهة، وما يُسمّى بـ “الخطاب حول النّهاية”، الذي يتمحور حول مُساءَلة خطاب النّهاية ونقْدِ أُسسه ومرتكزاته، وخصوصاً ما يتعلَّق بـ “موت الفلسفة” و “نهاية التَّاريخ”، من جهة أخرى؟!
السياق التَّاريخيّ للنزعات العدميّة
لا شكّ في أنّ الانهيار الحادّ الذي لحقَ بمنظومة الاتّحاد السوفياتيّ كان كفيلاً بأن يُبخِّر الآمال كافَّةً المُعلَّقة على الثورة التاريخيّة المُشيِّدة لعالَمٍ مثاليّ! ناهيك بأنَّ الأحداثَ التي شهدها العالَم، عقب انتهاء الحرب العالميّة الثانية، كانت قد أفضت هي الأخرى إلى وضعِ الفلسفة والفلاسفة في وضعٍ حَرِجٍ، نظراً لكونهم لم يستطيعوا مَنْعَ حدوثها ولا التنبّؤ بها، فضلاً عن تورُّط بعض الفلاسفة في اندلاعها. وقد ترتّب عن ذلك حدوثُ صدمةٍ تاريخيّة أفضت إلى وضع ارتهان الفلسفة بالثورة – على النَّحو الذي كان سائداً قبل انهيار الاتّحاد السوفياتيّ – مَوضِع تساؤلٍ لدى أولئك الذين رأوا بأمّ العَيْن اتّساعَ الفجوة بين عالَم المثال والواقع. ونتيجةً لذلك، عادَ الفلاسفة مرَّةً أخرى إلى الارتماء في أحضان العالَم لمُحاولة فهمه وتفسيره، بدلاً من إعلان الرَّغبة في تغييره، كما كان عليه الحال من قَبل. وبموازاة ذلك، وبفضل التطوّر التكنولوجيّ الهائل، حَدَثَ تحوُّلٌ آخر تعلَّق بكيفيّة النَّظر إلى الإنسان، من حيث هو إنسان؛ أي باعتباره كائناً مُنتَجاً اجتماعيّاً تاريخيّاً يُمكن تفسيره إلى مجرّد كائن بيولوجيّ مركَّب من مجموعة من الخلايا!
ليس غريباً إذاً، والحال هذه، أن تنتعش إزاء صدمة التَّاريخ وأمام هذه التحوُّلات نزعةٌ إسكاتولوجيّة تُعلن “نهاية التاريخ” على سياق من العالَم، ومن التَّاريخ ذاته! أو أن يدعو البعضُ الفلسفةَ لأن تتخلَّى طواعيّةً عن نزعتها “النَّبويّة” ممثَّلةً في إمكانيّة التنبّؤ بالمستقبل، وأن تسعى، بديلاً من ذلك، إلى الانخراط في العالَم، وفي إيقاظ استعداد الفرد للتكيُّف مع عالَمٍ واقعيّ مُمكن، حتَّى وإن بدا لها غامضاً. ومن شأن ذلك أن يؤدّي حتماً إلى نهاية الفلْسفة وموتها، حتَّى وإن تفرعَّت بكثرة، بحيث يبقى وجودُها في المحصّلة مجرّدَ وجودٍ عابر!
مَوت الفلْسفة
بحسب ألان باديو Alain Badiou، فإنَّ انتشارَ أطروحة “موت الفلسفة” يعود إلى سببَيْن رئيسَيْن: أوّلهما سيادة التصوُّر الهايدغريّ الذي مفاده أنَّ ثمَّة مساراً فكريّاً واحداً هو المسار الميتافيزيقيّ ممزوجاً مع تاريخ الإنسان بإمكانه أن يُحدِّد مصير الإنسانيّة. ثانيهما افتقاد الفلْسفة ذاتها القدرة على تنظيم نفسها، أو إعادة تقديم نفسها كوعد، بخاصّة في ظلّ ضعف تأثيرها مُقارَنةً بالمجالات الأخرى “فلا هي تُتيح تغيير العالَم مثلما يحدث بالنسبة إلى السياسة، ولا هي تُتيح تقنيّات (كذلك) مثلما تفعل العلوم، ولا هي تُثير إعجاباً مُشترَكاً بين النَّاس، مثلما يحدث في مجال الفنّ“. ولعلّ ذلك هو ما عناه الفيلسوف الألمانيّ إدموند هوسّرل Edmund Husserl (1859 – 1938) حين قال: “لقد ضَربتِ الوضعيّةُ عنُقَ الفلسفة“! مُتسائلاً في حسرةٍ بالغة: “هل لا يزال بإمكاننا العودة إلى مُمارَسةِ مهنتنا؟!، وأن نستأنف العمل مجدّداً؟! هنالك حيث تركناه، بصدد هذه أو تلك من المشكلات الفلسفيّة، أن نستمرّ في بناء فلسفتنا الشَّخصيّة التي لن يكون لها سوى “مجرَّد” وجود عابر؟!“.
الغريب في الأمر أنّ هايدغر تطرَّفَ لدرجةٍ أَعلن فيها أنّ نهاية أو “موت الفلسفة” ما هو إلَّا إعلان عن بداية حضارة عالميّة جديدة تتّخذ طابعاً علميّاً تقنيّاً! وإن أكّد عدم أبديّتها وإمكانيّة تجاوزها عبر تساؤله: “هل ستتحطَّم هذه الحضارة العالميّة قريباً؟! أم ستُعزّز وجودها لحقب مطوّلة من خلال التغيير المستمرّ الذي يغدو فيه الجديدُ مُحتلّاً إلى الأبد موقعه الجديد؟!”. على أنَّ هذا العالَم الجديد الذي يُبشِّر به أنبياء الفجر الكاذب، ليس في حقيقة الأمر سوى قنبلةٍ موقوتة ومجرّد اختلال عالميّ جديد هاجسه الوحيد ترسيخ رأسماليّة جديدة، وليبراليّة جديدة، وديمقراطيّة جديدة وخالدة متحرّرة من الأشباح التي لا تزال، على الرّغم من ذلك تُطاردها. والمحصَّلة الطبيعيّة لسيادة مثل هذه النَّزعات العدميّة على مستوى الفلْسفة: الوصول إلى مسخٍ يحمل اسم الفلْسفة في ما هو معزولٌ عن العالَم القديم والجديد في آنٍ معاً، فلا هو تابَعَ مَسارَه الأوَّل وقدَّم الفلسفةَ على أنَّها بمثابة الوعد الذي ترسَّخ عبر آلاف السنين متمخّضاً عن “محبَّة الحِكمة“، ولا هو غاصَ في أعماق العالَم المُمكن سابراً أغواره! وما دون هذا وذاك، ثمَّة نذير مشؤوم بسيادة النَّزعات العدميّة وتوقُّف مسار الفلْسفة، وعجز التَّاريخ المُنتهي، والإنسان المُنتهي ضرورةً، عن الـمُضيّ قُدُماً على هَدْي “أمّ العلوم“!
*كاتب وباحث من مصر
قم بكتابة اول تعليق