أفق – محمود برّي*
الميتافيرس ضربٌ جديد وعجيب من الأداء الحياتيّ على تخوم الخرافة. فَتْحٌ بَرمجيّ في مدى العالَم الافتراضيّ يقوم على “عجيبة” الإنترنت. يدمج الواقع بالخيال، ويُتيح لنا أن “نعيش فيه” ونعمل ونتعلّم ونُرفِّه ونبني المشروعات ونكسب الأموال ونفعل كلّ ما يمكن فعله في حياتنا الواقعيّة، كأنّما يفتح لنا حياة أخرى مُوازية في العالَم الافتراضيّ يكون واحدنا فيها صورةً رمزيّة ثلاثيّة الأبعاد (آفاتار) تتفاعل مع الحياة. فيه يتمكَّن العُمّال والخيّاطون والأطبّاء والمُدرّبون والطلّاب والباحثون وحتّى الجنود ورجال الإطفاء ورجال الشرطة… من العمل عن بُعد وخَوض الغِمار وحضور الحفلات والمعارض وزيارة المتاحف والنوادي والمُدن البعيدة وأيّ مكان… ليس بالطريقة المعروفة كما هو الحال الآن، ولكن من خلال “غمر أجسادهم” بالكامل في مواقع الميتافيرس. وعمليّة “الغمر” هذه لها وسائلها وأدواتها وظروفها.
لكن مهلاً… غمر الجسم في الميتافيرس، مُمارَسة الأعمال في الميتافيرس، حياة موازية في الميتافيرس. فما هو الميتافيرس أساساً..؟ وكيف كلّ هذا..؟!
هو ثمرة هندسة رقميّة تبني لنا عالَماً (إضافيّاً) رحباً ثلاثيّ الأبعاد في المجال السيبراني (أي البيئة التفاعليّة الرقميّة، وبمعنى آخر الفضاء الرقمي الذي أتاحته لنا الإنترنت)، نوعاً من وجود افتراضى يشترك الإنترنت والواقع معاً في توليفه. كأنّما هو “كَون” افتراضي في أرجاء الشبكة العنكبوتيّة، يربط منصّاتٍ متعدّدة ويَجمع بين عوالم افتراضيّة وواقعيّة مُختلفة، فيتيح (لدى اكتماله) عالَماً افتراضيّاً عملاقاً يفتح عهداً مبتكَراً لحياةٍ مُوازية.
هنا لا بدّ من محطّة مع الكلمتَيْن المفتاحيّتَيْن: عالَم افتراضي/ ثلاثيّ الأبعاد. “الافتراضي” أوّلاً هو غير القائم واقعاً، بمعنى أنّه نوعٌ من التخييل يعرفه الذين يُمارسون “ألعاب الإنترنت” الحديثة الشائعة. أمّا “ثلاثيّ الأبعاد”، فيعني هندسةً تصويريّة تمنح الشخص أو الشيء على الشاشة، شكلاً شبه مجسّم وقريباً إلى الواقع، كأنّه يتجسّد على مسرح الحياة ولا يبقى مجرّد صورة على شاشةٍ سينمائيّة.
في توصيفٍ للـميتافيرس، يُبسِّط مُبتَكِرُهُ مؤسِّس الفايسبوك “مارك زوكربيرغ” فيقول: “بدلاً من الاتّصال بي عبر مكالمة هاتفيّة، ستكون قادراً على الجلوس (كصورة هولوغراميّة ثلاثيّة الأبعاد) على أريكتي، أو سأجلس كصورة هولوغراميّة ثلاثيّة الأبعاد على أريكتك، وسنشعر بالفعل كما لو كنّا في المكان ذاته، حتّى لو كنّا في أماكن مختلفة أو على بُعد مئات الأميال”.
في لحظةٍ نادرة ابتدأ الأمر كلّه بكلمة صغيرة: “ميتافيرس ــ metaverse “. مفردة من اللّغة اليونانيّة وتتكوّن من شقَّيْن، (ميتا) وتعني (بَعد) و(يونيفيرس، أي العالَم، وقد جرى اختصارها إلى فيرس)، والمعنى المقصود: عالَم ما بعد الواقع.
مُبتكِرُ هذا العالَم لم يكُن مُخترعاً ولا عبقريّاً في هندسة الاتّصالات ولا “ساحراً”، بل مجرّد كاتب خرافة علميّة، أميركي، هو “نيل ستيفنسون”… نَشر في العام 1992 روايةً خياليّة تحت عنوان “سنو كراش” (تحطّم الثلج)، أبطالها شخصيّات إنترنتيّة افتراضيّة جَعَلَها تلتقي في مبانٍ ثلاثيّة الأبعاد وسط بيئات واقع افتراضي.
“زوكبرغ” التقطَ رأس الخيط، واقتبسَ فكرة ما صوّره الكاتب فى الرواية، وعمل على تجسيد ذلك من خلال برمجة عالَم افتراضي عبر الإنترنت أَطلق عليه تسمية “ميتافيرس”، وحديثاً أَطلق تسمية “ميتا” على (الفايسبوك).
ما جاء به عمليّاً هو فضاءٌ إلكترونيّ يمكِّن البشر من التواجُد افتراضيّاً فيه من خلال الصور الرمزيّة التي تعمل في الواقع الافتراضي والمعزّز، وتدور لحظاتها في كلا المكانَيْن (العالَم المادّي والعالَم الافتراضي). والميتافيرس لا يكون من دون الإنترنت، لكنّه يختلف عنها بأنّه يَمنح المُستخدِم الشعور بـ “التواجُد” داخل العالَم الافتراضي وليس بمتابعته عن بُعد فقط، فيتفاعل جسديّاً مع الأشخاص والأماكن بدلاً من مشاهدتهم من النافذة. وبحسب “ساتيا ناديلا” الرئيس التنفيذي لشركة “مايكروسوفت”، فهو “لن يغيِّر الطريقة التي نرى بها العالَم فقط، ولكن كيفيّة مشاركتنا فيه أيضاً، من المصنع حتّى غرفة الاجتماعات”. هو مستقبل الإنترنت إذن والثورة التكنولوجيّة الكبرى التالية. المستقبل الذي تُقَدَّر سوقه بتريليونات الدولارات.
حدوده المخيّلة
خبراء التكنولوجيا الرقميّة المتقدّمة يرون اليوم أن “لا حدود للواقع سوى خيالك.. فيُمكنكَ فعل ما تريد والظهور بالشكل الذي ترغب فيه والذهاب إلى أيّ مكان، من دون أن تُغادِر مكانك”. أليس هذا ما قاله بطل رواية الخيال العلمي “وايد واتس” للمؤلِّف الأميركي “إرنست كلاين” والتي حوَّلها “ستيفن سبيلبرغ” إلى فيلم سينمائي في العام 2018؟
على ذكر هذا الفيلم (للّذين لم يشاهدوه)، فإنّ أحداثه تدور في العام 2045، حول مسابقة تجري في عالَمٍ افتراضي (الواحة)، يتحرّك فيه الأبطالُ عبر نظّاراتٍ خاصّة تتيح لهم تفاصيل الواقع الافتراضي. والفيلم يُقدّم صورة شبيهة بعالَم الميتافيرس (Metaverse) الذي يجري الإعداد له اليوم.
الانغماس
دخول الميتافيرس يقتضي “الانغماس” فيه كما سبقت الإشارة. وهذا لا يجري ببساطة الدخول إلى شبكة الإنترنت، لأنّك لن تكون أمام الشاشة… بل في داخلها (!). هذا يتطلّب أدوات وأجهزة خاصّة. فكما يستعين الغطّاس البحري بأدوات الغطس في الماء، من بذلةٍ خاصّة وقناع للتنفُّس وقارورة هواء (أوكسيجين)، فيمضي يتجوّل كالسمكة في الأعماق، كذلك الميتافيرس، لا تدخله بل تنغمس فيه… وتعيش حياتك المُوازية، وأنتَ جالس في البيت أو في المكتب أو حيثما كنت، مستعيناً بالأدوات والأجهزة المناسبة.
من خلال “الانغماس” يستطيع واحدنا المُشاهَدة والسماع والإحساس والشمّ والتذوُّق وتحديد المكان.. مكانه. هذا هو هدف الميتافيرس (هو لم يتحقَّق بأكمله بعد). فاليوم، ونحن في سبيلنا إلى استكمالِ هذا الابتكار الرائد، لا يُمكن للميتافيرس (بعد) تغطية أكثر من ثلاثٍ فقط من حواسّنا الخمس وهي: البصر والسمع واللّمس. وكما سبق التلميح، فالانغماس يتطلَّب استخدامَ خوذاتٍ خاصّة (خوذات الواقع الافتراضي والواقع المعزّز)، ونظّارات خاصّة أيضاً للرؤية، وقفّازات للّمس والشعور بالذي يجري لمسه. هذه الأدوات متوافرة، وإن كانت لا تزال تحتاج إلى المزيد (الكثير) من التطوير؛ ثمّ إنّها بحالتها (فوق البدائيّة اليوم)، باهظة الثمن وأقلّ تلبيةً من المطلوب منها، أي أقلّ كفاءة بعد ويلزمها التعديل والضبط والتطوير لتتمكَّن من خدمة الشبكة.
تتضمَّن هذه الشبكة أنواعاً معقّدة ومتداخلة من تكنولوجيا الواقع الافتراضي (VR) والواقع المعزّز (AR) والواقع المختلط (MR) والبيئات ثلاثيّة الأبعاد (3D)، بالإضافة إلى تقنيّات الذكاء الاصطناعي (AI) التي تنقل المُستخدِم إلى بيئةٍ افتراضيّة غامرة، يتمّ التفاعُل فيها خلال الوقت الحقيقي، كما في الحياة الاعتياديّة. في هذه البيئة يتمّ تكوين كائنات افتراضيّة تتكامل بشكلٍ وثيق مع المحسوسات الماديّة والبشريّة، وتتداخل معها أيضاً تقنيّات الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والرؤية الحاسوبيّة ومستشعرات حسيّة وتقنيّات أخرى (كالبلوكتشين) لضمان تخزين البيانات والتعامل معها بما يضمن الحماية والخصوصيّة للمُستخدِمين. وهؤلاء يجري تشكيلهم على شكلِ رموزٍ وصورٍ ثلاثيّة الأبعاد. وهذا كلّه لم يتحقَّق بكامل مقوّماته بعد، لكنّه في طريقه إلى أن يُصبح كذلك. الأمر يحتاج إلى سنواتٍ بعد… وربّما أكثر.
موجود الآن…
ليس مجرّد “بناء في المخيّلة”، بل إنّه قائم الآن إنّما بشكلٍ “بدائي”. يجمع بين العديد من التقنيّات المتوافرة مثل السينما ثلاثيّة الأبعاد، والعملات المشفّرة، ومنصّات الألعاب الإلكترونيّة، وألعاب الفيديو ثلاثيّة الأبعاد (مثل “روبلوكس Roblox” و “فورتنايت Fortnite”) وسواها. وللعلم فإنّ هواتفنا الذكيّة اليوم ليست مؤهَّلة لمُجاراته، لأنّها غير مصمَّمة للمساحات ثلاثيّة الأبعاد. لذلك لن نحتاجها حين ندخل عالَم الميتافيرس. ولذا أيضاً تنشط الشركات المُختصّة في تصميم هواتف “ميتافيرسيّة”… لم تَظهر بعد. فالدخول في ذلك العالَم الجديد لن يكون عبر شاشات الكمبيوتر وأجهزة الهواتف الذكيّة المتوفّرة اليوم، بل بفضل نظّارات الواقع الافتراضي كالتي يجري استخدامها في ألعاب الفيديو حاليّاً، إنّما بعد إعادة تصميمها وإغنائها تكنولوجيّاً لتُصبح بديلاً كفؤاً للهواتف الذكيّة، ويجري دمْج تقنيّات الواقع المعزّز فيها، ما يجعلها جهاز “الهاتف الميتافيرسي” الذي سيُرافقنا مكان الموبايل اليوم. وبالتالي فالميتافيرس هو الخطوة المنطقيّة التالية لما بعد مرحلة الهواتف الذكيّة وشبكة الإنترنت التقليديّة التي نعرفها. وهذا يحمل إلينا وعوداً مُدهشة… فنحن اليوم نعيش “خارج الإنترنت” الحالي، بمعنى أنّ الشاشات أمامنا ونحن على مقاعدنا. أمّا غداً فسوف يكون واحدنا “آفاتار”… و”يعيش” في الشاشة وداخل الشبكة.
…والمشكلات
طالما أنّ هذا العالَم الجديد سيكون بيئة مصطنعة ومرتّبة وفق خيال المُستخدِم ورغباته، فسيكون عالَماً “مُفصَّلاً” على القياس، يُتيح للشخص تحقيق طموحاته وبناء حياة مثاليّة. لكنّ هذا يفتح الباب على تشكيلة واسعة من المشكلات، إذ سيكون عالَماً لا أسرار شخصيّة فيه ولا أيّ ورقة توت، وهنا المطبّ. فمعلوماتكَ ستكون كلّها في الفضاء السيبراني الذي “تعيش” فيه، ولن يسعكَ حمايتها. ومن هنا تنشأ المشكلات التي من أبرزها “التحرُّش الإلكتروني” اللّفظي والجنسي أيضاً.هذا حَدَثَ ويَحدث بالفعل. ومن أبرز هذا النَّوع ما حصل مع سيّدة أميركيّة (تدعى “نينا باتيل”، وهي أمٌّ لأربعة أطفال)، حيث تعرَّضت “شخصيّتها الميتافيرسيّة” للاغتصاب العلني بينما كانت تلهو على منصّة “هورايزون وورلد” الافتراضيّة، الأمر الذي لاقى أصداءً سلبيّة واسعة في حينه.
والأسوأ أنّ مثل هذه الحوادث لا يُمكن (حتّى الآن) مَنْعُها. لكن: هل نقفل باب الميتافيرس قبل أن يجري فتحه تماماً على مصراعَيْه؟
الجواب القطعي: لا.
*كاتب وإعلامي من لبنان
قم بكتابة اول تعليق