أفق – مازن مجوّز*
عاماً بعد عام، تتزايد التحدّيات المائيّة التي تُواجِه منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فالمشكلة قد تسارعت نحو الأسوأ على مدى العقد الماضي، وستستمرّ على هذه الوتيرة، وخصوصاً أنّ بعض دولها تُصنَّف من بين الدول الأكثر تأثُّراً بظاهرة تغيّر المناخ العالَميّة، مع ما يصاحبها من انتشارٍ للجفاف وارتفاعٍ مُستمرّ في درجات الحرارة، وندرة سقوط الأمطار.
مؤشّراتٌ بيئيّة جديدة تُضاف إلى لائحة مؤشّرات السنوات العشرين الفائتة، بدأت تعكس عواقب العجز المائي الذي تتخبّط به الكثير من الدول العربيّة، ولاسيّما على مستوى البنى التحتيّة وحياة سُكّان كلٍّ منها، ومن بينها ما حمله تقرير اليونسيف الصادر في22 آب/ أغسطس 2021 بأنّه “يعيش حوالي 9 من كلّ 10 أطفال في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في مناطق تعاني من شحٍّ مائيّ مرتفع أو مرتفع للغاية، مع عواقب وخيمة على صحّتهم وتغذيتهم وتطوّرهم المعرفي وسُبل عيشهم في المستقبل”.
ففي حزيران/ يونيو من العام الحاليّ، عادت “مدينة زاخيكو” إلى الظهور بعد 3400 عام، إثر جفاف جزءٍ من خزّان سدّ الموصل على نهر دجلة، بعدما غمرتها المياه لعقود، واكتشف علماء الآثار بعد انحسارها إنشاءاتٍ ضخمة ومئاتٍ من القطع الأثريّة التي تعود إلى الإمبراطوريّة الميتانيّة. وفي سوريا أدّى انحسار نهر الفرات وانخفاض منسوبه إلى الكشف عن مدينة أثريّة في ريف الرقّة، بقيت مُخبَّأة لعقودٍ نتيجة غمرها بالمياه، بعدما قارب انخفاض النهر الـ 7 أمتار، ورجّح عُلماء الآثار هناك أنّ التجويفات التي ظهرت، ما هي إلّا مقابر أثريّة لحضاراتٍ غابرة، قامت على ضفاف الفرات قبل أن تندثر.
ويبدو جليّاً من خلال المشاهد التي التقطت من مناطق مُختلفة في محافظات ذي قار ودهوك والرقّة والحسكة، أنّ الجفاف القاحل والتربة المتعطّشة والأنهار المنحسرة، مظاهر آخذة بالتوسّع، إذ يوضح تقرير لـ “وكالة ناسا الأميركيّة” صادر في كانون الثاني/ يناير 2022 أنّ الجفاف الذي بدأ في العام 1998 ويستمرّ في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسّط التي تضمّ سوريا ودولاً أخرى، من المُحتمل أن يكون الأسوأ خلال القرون التسعة الماضية.
بالطبع، هذا الواقع يسري أيضاً على ينابيع وعيون المياه العذبة ومصادرها، سواء أكانت مياهاً سطحيّة أم جوفيّة، في أغلب الدول العربيّة، وفي هذا السياق أَطلق العديد من الجمعيّات والمنظّمات العربيّة والعالَميّة المعنيَّة بالبيئة والمناخ جرس الإنذار حيال جفاف هذه الينابيع والعيون واندثارها، مستبعدةً قُدرة البلدان العربيّة على المواجهة، مُرجّحةً، في الوقت نفسه، أن يستفيق العرب خلال العقود الثلاثة المقبلة، على واقعٍ تختفي فيه مصادر المياه العذبة الجوفيّة، بعد تعرُّضها لإجهادٍ كبير في العقود الماضية.
وفي لغة الأرقام يُظهر تقرير صادر عن الأُمم المتّحدة الإسكوا في 4 آذار/ مارس 2021 تحت عنوان “المياه الجوفيّة في المنطقة العربيّة” أنّ المياه العذبة تُشكّل أكثر من 50% من مصادر المياه العذبة في 60% من المنطقة العربيّة، وتصل إلى أكثر من 80% في المَملكة العربيّة السعوديّة وليبيا وفلسطين وجيبوتي ولبنان، فيما تأتي قطر في طليعة البلدان الخليجيّة اعتماداً على المياه المحلّاة، تليها البحرين والكويت والإمارات العربيّة المتّحدة وسلطنة عُمان، وبعدها الأردن من خارج مجلس التعاون الخليجي.
في المقابل تُشير تقارير الأُمم المتّحدة الصادرة في تمّوز/ يوليو 2022 إلى أنّ 12 دولة عربيّة تعيش تحت خطّ الفقر المائي، من بين 17 دولة تُصنّف أنّها على خطّ الفقر المائي من أصل 22 دولة عربيّة، وأنّ 16 دولة حول العالَم مُهدَّدة بالجفاف بحلول العام 2040. واستَثنت الأُمم المتّحدة سلطنة عُمان من بين الدول الخليجيّة الستّ، من “ندرة المياه” المحسوبة بمعدّل 500 متر مكعّب من المياه للفرد سنويّاً، من أصل 1000 متر مكعّب سنويّاً، تُمثِّل حصّةَ الفرد التي تلبّي حاجاته الاعتياديّة.. وبالإضافة إلى دول الخليج تعيش كُلٌّ من اليمن وفلسطين وليبيا وتونس والجزائر والأردن تحت خطّ الفقر المائي، وفق الإحصاءات الخاصّة بـ “التقرير العربي الموحّد لعام 2020”.
فعلى سبيل المثال تُصنَّف الأردن ثاني أفقر دولة في العالَم بالمياه، بحسب المؤشّر العالَمي للمياه، ومن المتوقَّع أن تصل مستويات حصّة الفرد الأردني إلى 60 متراً مكعّباً سنويّاً في العام 2040 وفق تصريحات رئيس وزراء الأردن في كانون الأوّل/ ديسمبر 2021، وهو العام الذي حذّرت فيه الأُمم المتحدة في أحد تقاريرهاليبيا من خطر الشحّ المائي، معتبرةً أنّها تعيش تحت خطّ الفقر المائي بنسبة تصل إلى 88 في المائة، نسبة تُقابلها معاناة أكثر من 62 في المائة من سكّان اليمن، ليس من الفقر المائي فقط، وإنّما من القدرة على الوصول إلى المياه الصالحة للشرب.
واقع مائيّ مرير
أمام هذا الواقع المائيّ المرير الذي تُعاني منه الدول العربيّة، تبرز موريتانيا بتصنيفها الدولة العربيّة الوحيدة التي تتمتّع بحالة اكتفاء ذاتي، حيث تصل حصّة الفرد السنويّة من المياه لأكثر من 1700 متر مكعّب.
وفق تقرير الإسكوا 2021 (الآنف الذكر)، فإنّ الضغوط التي تواجهها المياه الجوفيّة في المنطقة العربيّة تتمثّل بالنموّ السكّاني، وندرة المياه السطحيّة، واستنزاف المياه الجوفيّة، والزراعة وتغيُّر المناخ. لكنّ تقرير اليونسيف الآنف الذكر الصادر خلال الأسبوع العالَمي للمياه، يلقي الضوء أكثر على الأسباب الرئيسة لشحّ المياه في المنطقة، ولاسيّما ارتفاع متطلّبات الزراعة والتوسُّع في الأراضي المَرويّة باستخدام المياه الجوفيّة. فبينما تُمثّل الزراعة على مستوى العالَم ما معدّله 70 في المائة من استخدام المياه، فإنّها تُمثِّل أكثر من 80 في المائة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. فيما تشمل العوامل الإضافيّة التي تُسهم في شحّ المياه النزاعات، وخصوصاً في سوريا واليمن والسودان، وهجرة الناس من المناطق الريفيّة إلى المناطق الحضريّة، والنموّ السكّاني وسوء إدارة المياه وتدهور البنى التحتيّة للمياه ومشكلات الحَوكمة وقضاياها.
بالإضافة إلى ذلك، لا يتوقّف معدّل استهلاك المياه عن الارتفاع لتلبية احتياجات الحياة المدنيّة الحديثة، وتحسين مستويات المعيشة للمواطنين، ومُمارسة الأنشطة الحياتيّة المعتادة، وخصوصاً تحت وطأة أزمة المناخ والارتفاع المستمرّ في درجات الحرارة، حيثحلّت 3 دول عربيّة في صدارة سلّم الدول الأكثر حرارة في العالَم وفق موقع تتبُّع حالة الطقس “إلدورادو ويذر” وهي العراق والكويت وسلطنة عُمان.. أصبح الجميع بحاجة إلى مياه أكثر في حياتهم اليوميّة ولقطاعَي الزراعة والصناعة وحتّى داخل أحواض الأنهار العابرة للحدود، تضمّ منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بعضاً من أكثر دول العالَم جفافاً، بما في ذلك تونس والجزائر ومصر والأردن.
لقد أدّت ندرة المياه العذبة والاعتماد على الواردات الغذائيّة، والتعرُّض لصدمات التجارة الغذائيّة الدوليّة إلى صعوبة التعامل مع أزمة الغذاء في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. والأخطر من ذلك كلّه أنّ شحّ المياه قد يزيد من مخاطر نشوب النزاعات، حيث باتت الخلافات حول الموارد المائيّة قضيّة شائعة في المنطقة التي تتقاسم فيها دولتان أو أكثر العديد من الأنهار والبحيرات.
واستناداً إلى مبدأ “لكلّ مشكلة حلّ”، يجدر التوقُّف عند أبرز الاستراتيجيّات التي أَوردها تقريرٌ في موقع “إنترريجونال” للتحليلات الاستراتيجيّة نُشر في 5 أيلول/ سبتمبر 2022 تحت عنوان “تحدّي الجفاف: كيف تواجه الدول تهديدات الشحّ المائي؟” وهي:
– توسّع الدول في برامج الاستمطار: وهي برامج بدأت بعض الدول تهتمّ بها بصورة ملحوظة، فعلى سبيل المثال، تبذل دولة الإمارات جهوداً كبيرة من أجل زيادة معدّل الأمطار، عبر تبنّي برنامج طموح لاستمطار السحب؛ حيث تحقن الدولة موادّاً كيميائيّة في السحب في محاولةٍ لتحفيز هطول الأمطار؛ مرجّحاً أن تباشر بعض الدول الشرق أوسطيّة بتوفير المزيد من المخصّصات الماليّة لهذه البرامج.
– الاهتمام باستراتيجيّات إدارة الموارد المائيّة: لقد نبّهت مَوجة الجفاف الرّاهنة دول المنطقة إلى ضرورة تبنّي استراتيجيّات فعّالة لإدارة الموارد المائيّة التي تتّسم بالندرة؛ ما يُخفّف من هَدْرِ هذه الموارد. وتتضمّن هذه الإستراتيجيّات بعض الآليّات مثل التوسُّع في الزراعة الذكيّة، وتشجيع تقنيّات توفير المياه كالري بالرشّ والتنقيط لزيادة كفاءة الإنتاج الزراعي وتجنُّب هدر المياه، التي تتعرّض لخسائر أعلى بكثير مع طُرق الريّ التقليديّة؛ غير أنّ التنفيذ الفعّال لمثل هذه التقنيّات يتطلّب أيضاً المراقبة والتقييم المُستمرَّيْن وبشكلٍ علمي.
في الختام، يبدو أنّ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا دخلت في سباقٍ مع الزمن في ظلّ ما تضمّنته تقديرات البنك الدولي للعام 2021، بأنّ أكبر الخسائر الاقتصاديّة التي تواجهها المنطقة ستكون بين 6% و14% بحلول سنة 2050، بفعل ندرة المياه المرتبطة بالمناخ. واستناداً إلى هذه المؤشّرات بات من المُلحّ إطلاق تحالُفٍ عربيّ قادر على وضع استراتيجيّة جديدة متكاملة لإدارة المياه العذبة وتحسين أداء شبكات مياه الشرب، ومن بينها زيادة الاستثمار في إدارة النظم الإيكولوجيّة للمياه العذبة، كالاعتماد على منظومة التحوّل الرقمي لترشيد استهلاكها في كلّ القطاعات والمجالات التي تعتمد عليها، بما فيها مرافق مياه الشرب والصرف الصحّي. لكنْ يبدو أنّ العمل على اتّخاذ خطواتٍ حاسمة نحو تحقيق هذه الاستراتيجيّة بشكلٍ علمي متوازن ومُستدام، لا يزال بعيد المنال؛ حتّى أنّكَ ربّما لن تجد مَن يعمل على تجنُّب “عدم الاستقرار المتجدّد” الذي سيكون أكثر تكلفة على الجميع.
*كاتب من لبنان
قم بكتابة اول تعليق