د. عبد الهادي أعراب*
ما مَوقع الدّين في المُجتمعات المُعاصرة؟ أهو نفسه كما في المُجتمعات التقليديّة وما قبل الحداثيّة؟ ما مُستقبله في ظلّ التحوّلات السياسيّة والعِلميّة والتكنولوجيّة الكبرى؟ هل ثمّة إمكانيّة لحياةٍ من دون دين؟ أَمِنَ المُمكنِ حقّاً الاستغناء عنه في الحياة المُعولَمة الجديدة؟ أَتُعَدُّ الحداثة والعلمانيّة قَطعاً نهائيّاً مع الدّين؟ وإلى أيّ حدٍّ يصحّ الكلام على استنتاجٍ مُماثلٍ؟
بالعودة إلى الفكر الغربي، نَجد أنّ الإرث الفلسفي والعقلاني تحديداً، أسهَم بشكل كبيرٍ في بلْورة دراسات سوسيولوجيّة حول الدّين، بعدما تمّ الفصْل تاريخيّاً بين الدّين والدولة وتقليص سلطة الكنيسة. وهي الخطوة التي لم يستطع السوسيولوجيّون العرب إنجازها. فَقَدت الكنيسةُ سلطتها الدنيويّة وأَمست عاجزةً عن مُراقَبة حياة الأفراد بالكيفيّة التي كانت تتمّ بها قبلاً، واقتصرت الجماعات الدينيّة على العمل التطوّعي. ولم يَعُد المُثقّف يتمّ إنتاجه داخل المؤسّسة الدينيّة، مُقارَنةً بمؤسّساتٍ حداثيّة علمانيّة كالجامعة. فقد تراجَعت مَنزلةُ الدّين وأهمّيته بعدما تفكَّك النسيجُ الاجتماعي الذي كان يؤطِّره ويُمثِّل رابطته، مثلما تفكَّكت عرى التضامُن التقليديّة اللّصيقة به. وبفعل التحوّلات العلميّة والتكنولوجيّة، تنامَت أفكارٌ وقِيَمٌ مُغايرة وجديدة. فهل يُستفاد من ذلك أنّ الدّين اختفى وتوارى؟ الجواب ببساطة هو لا. فتراجُع مساحة الدّين وقوّته لمصلحة زحْف العِلم على كلّ مجالات الحياة الحديثة، لا يعني اختفاءه النهائي، إنّما يعني تحوّلاً في أدواره ووظائفه المُعتادة، ما دام العِلم نفسه لا يستطيع أن يجيب عن كلّ الأسئلة التي يطرحها الناس حول الوجود والمرض والموت وما بعد الموت… إلخ.
أوضحَ إميل دوركهايم Émile Durkheim أنّ الدّين سيحضر في المُستقبل، لأنّ في مقدوره أن يُمثِّل عنصراً أساسيّاً لفائدة المُجتمع. فهو في المُجتمعات المُعاصرة بديلٌ وظيفيّ “لدينٍ تقليديّ” أو على نحوٍ أصحّ للدين في المُجتمعات التقليديّة. يتعلّق الأمر بدينٍ حاملٍ للقيَم الإنسانيّة السّامية، بعيداً من الهرميّة الكنسيّة وسلطة المُراقَبة لشؤون الأفراد، نحو تأسيس ارتباطات مُتحرِّرة وتضحياتٍ واعِدة بإمكاناتٍ مُتجدِّدة تتجاوَز الغرائز الفرديّة.
وبلغة ماكس فيبر Max Weber، فمساحة الدّين الجديدة انتصارٌ مُتنامٍ للعقلانيّة فَقَدَ فيها العالَم سحريّته وغرابته، لكنّ عالَم الحداثة الجديد ليس معناه نهاية الدّين، وإنّما ظهور أشكال جديدة منه، باتت تغزو المجال الاجتماعي بعدما تحرَّر من وصاية الديانات التاريخيّة المعروفة. ولئن حطَّمت سَيرورة العَلْمَنة النماذجَ التقليديّة لهَيمَنة الدّين، فإنّها لم تمنعه من أن يحتلّ حيّزاً مهمّاً في المُجتمعات المُعاصِرة يتمّ استحضاره والاحتماء به في فترات القلق والحيرة والأزمات، ليس على مستوىً فرديّ، بل على مستوىً يهمّ الدول والجماعات.
يؤكِّد هذا الطرحَ بروزُ بعض أشكال التديُّن في قلب المُجتمعات المصنّعة بحمولة المُقدَّس الكبرى. يتعلّق الأمر بما أسماه توماس لوكمان Thomas Luckman “الدّين اللّامرئي La religion invisible”، بحثاً عن معنىً وجوديّ يتمّ تنشيطه عبر الإنجاز الذاتي. هو نسقٌ من الدلالات يُمثِّل إطاراً نظريّاً لفهْم التنمية الذاتيّة كتمظهُرٍ لديانةٍ لا مرئيّة، ولا تستند إلى أيّ مؤسّسة دينيّة رسميّة، لكنّها تبرز في الفضاء الخاصّ للأفراد. فالدّين الجديد والمُعاصِر إذن، لم يَعُد مثلما كان عليه الأمر مُهَيمِناً ومُمتدّاً، بل صار لامرئيّاً.
الثابت في هذا التحوُّل مفهوم “المقدّس”، ولعلّه الأكثر قدرة على تخزين التصوّرات الظاهرة والكامنة إزاء قيَمٍ ومُثلٍ عليا يضطّلع عبرها بأدوارٍ مُختلفة داخل المُجتمع. ففي المُجتمعات الحديثة والمُعاصرة، ما زال الدّين يُقدِّم نفسَه حلّاً لمجموعة من المشكلات، على الرّغم من تراجُع “الدّين المُنظّم”؛ لأنّ تغيُّر مَلامح الدّين لم تُغيِّر أهميّة الاعتقاد وحيويّته. تغيَّرت لعبة الترتيبات والمَواقع، فالتحوّلات الجارية وما أفضت إليه داخل الأسرة من تراجُع المُراقَبة العائليّة والجماعيّة والقرابيّة، أَفرزت مستوياتٍ وأشكال تديُّنٍ جديدة ومَلامِح توجُّهٍ فرديّ.
في مؤلَّفِه “المُقدَّس والدنيوي”، يؤكِّد مرسيا إلياد Mircea Eliade على أطروحةٍ مَفادها أنّ الإنسان الحديث يخضع لوضعٍ وجودي جديد يتعرَّف فيه على نفسه كذاتٍ فاعِلة في التاريخ، برفْض كلّ استدعاء لما هو مُتعالٍ أو كلّ نموذجٍ خارج الشرط الإنساني. لكنْ ماذا عن إمكانيّة حياة من دون دين؟ هل بإمكان الإنسان العقلاني أن يسلكَ سبلَ حياةٍ خارج المُعتقد؟ أفي مقدوره ذلك بعيداً عن الوعي الديني؟
الإنسان الحديث سليل الإنسان الدينيّ
إنّ الإنسان الحديث في النهاية سليل “الإنسان الديني”؛ فهو الذي أوجده شاء أم رفض، وهو وريثه مهما سعى إلى خلْقِ وضْعٍ جديد أو خيارٍ وجوديّ مُخالف. قد نتّفق على عظمته وأهميّته، لكن لن يكون في مقدوره القطْع مع ما بثّه فيه الأسلاف. غير بعيد عن هذه الإجابة، يؤكِّد جون هَروود هيك John Harwood Hick فطريّةَ التديُّن وكونيّته. فالأفكار والمُمارسات الدينيّة لها طبيعة عالَميّة ولا يختصّ بها مجتمعٌ أو زمنٌ دون آخر، فالدّين له طابع إنساني كَوني.
بالتأمُّل في نماذج مُجتمعيّة ودوليّة كبرى، نجد مثلاً أنّ الاتّحاد السوفياتي استبدلَ الدّين بعقيدة أخرى، جسَّدتها الماركسيّة في بُعدها المُلحِد، عقيدة مثَّلت نِظاماً مثاليّاً لمُجتمعٍ جديد بدا فيه الحزب الشيوعي أشبه بكنيسةٍ لكهنوتٍ ونصوصٍ مُقدَّسة صارمة تُوجِّه سهامها للرأسماليّة فكراً وقيَماً ونِظاماً، وتَعدّ كلَّ اقترابٍ منها خطيئة أو لوثة ينبغي التخلّص منها.
أمّا في أميركا، فلا يعكس الفصلُ دستوريّاً بين الدّين والدولة، فصلَ العلاقات القائمة والمُعقَّدة ما بين الكنائس والسلطة، لأنّ للدّين تأثيراً قويّاً في المؤسّسات العموميّة والحياة الانتخابيّة والسياسيّة، بل إنّ له تأثيراً في مَواقف الأفراد الحيويّة وخياراتهم بشأن الحروب والمشروعات والتعليم والصحّة والتدخّلات الطبيّة المُستجدّة…إلخ.
في الولايات المتّحدة الأميركيّة يُقسِم الرئيسُ المُنصَّب على الإنجيل، ولا تُفتتح دَورات البرلمان إلّا بتلاوةِ نصٍّ ديني. وبالتأمُّل في لغته، نجدها لا تخلو من عباراتٍ دينيّة، سواء مع “بوش” الابن أم قبله مع “ريغن” و”كارثر”، اللّذَين كانا يدعوان إلى العودة لله والتمسُّك بالقيَم الدينيّة. فقد أيَّد ريغن اقتراحَ واجب الصلاة في المَدارس، رافِعاً شِعار “باللّه نَثِق” (in God we trust) المختوم على الدولار، وأدّى كلٌّ من “أوباما” و”ترامب” بعده، القسمَ بوضْع اليد على إنجيلَيْن. أمّا الخطابات الرئاسيّة، فلا يُمكن أن تُختتم إلّا بجملة: “ليَحفظ الله الولايات المُتّحدة الأميركيّة”.
يُعَدُّ هذا الربط بين الدّين والدولة خيانةً للفصل الدستوري الذي سنّه “توماس جيفرسون” في العام 1787، متى استثينا عبارة “جون كيندي” الشهيرة في أنّ “الحكومة الأميركيّة ليست مؤسَّسة على دينٍ مسيحي”. لكنّ الواضح أنّ استحضار القَسَم كافٍ لوحده للقول بالحضور المُكثَّف للديني في دولةٍ تُعِدّ نَفسَها لائكيّة. فوضْعُ رؤساء أميركا أياديهم على الإنجيل لقرنَينِ ونيّفٍ، تقليدٌ لا يُمكن إنكاره مُذ رسَّخه “جورج واشنطن” حين قبَّلَ الكِتاب المُقدَّس أمام أنظار الجميع.
في مناسبةٍ تُمثِّل تقليداً ومَوعداً مُهمّاً بالنسبة إلى البيت الأبيض منذ “أيزنهاور”، وتُعرف بـ “فطور الصلاة الوطني”، الذي يحضره المُنتخِبون والفاعلون والاقتصاديّون، وَقَفَ “ترامب” في 8 شباط (فبراير) 2018 أمام 3800 شخصيّة مسيحيّة، ليُرسِّخ هذا اللّقاء الخمسيني، مؤكِّداً على الحريّة الدينيّة، كعنوانٍ يُناسب الحساسيّة الدقيقة لمسيحيّي أميركا، وعلى مركزيّة الإيمان في حياتهم، واصِفاً إيّاهم بـ “أمّة المؤمنين”، وبأنّ أميركا بلدُ “تقوى بفعل السلطة والصلاة”، مُردِّداً: “إنّنا نشكر الله اليوم، لأنّه مكَّننا من نعمة أن نكون أميركيّين”. الربْطُ هاهنا واضحٌ بين الدّين وحريّة التعبير، لكنّه أوضَح بين المُعتقد والسلطة؛ أَلَم يُجاهِر برغبته في إلغاء نصٍّ قانوني يَمنع الكنائس من تمويل المُرشّحين للانتخابات؟
ولأنّ “فطور الصلاة الوطني” لقاءٌ سنويٌّ لزواجِ السياسة بالمال والدّين في عالَم الأعمال، يحرص الكونغرس على تأطيره؛ ولأنّ المجموعة الكبرى المُهَيمِنة أخويّة مسيحيّة، صارَ اللّقاءُ حَدَثاً وطنيّاً مُهمّاً لا غنىً عنه لمَن يعتلي البَيت الأبيض، يُواجَه فيه المُنتخِبون والفاعلون الاقتصاديّون المحلّيون، لتقوية شبكة العلاقات والمَصالح مع المسؤولين الدينيّين. لكنْ أمام هَيمنة البروتستانت، حاولَ الكاثوليك منذ العام 2004، عقْدَ نسخةٍ كاثوليكيّة منه، كما تمّ نقْله منذ العام 2011 نحو قصر (Westminster) في المَمْلَكة المُتّحدة على يد برلمانيّين مسيحيّين.
ثمّة إذن تجلٍّ بارز للدين في خطاب أكبر دولة. ففي مؤلَّفَيه: “أحلام أبي” (1995) و”جرأة الأمل” (2006)، اعتبرَ “أوباما” نفسَه مسيحيّاً مُمارِساً، مُبيّناً تعقُّد الظاهرة الدينيّة في الولايات المتّحدة وتأثير الدّين في تنمية شخصيّة الأميركي، مثلما أكَّد أنّ الإيمان عبر خطاب الأمل حول مُجتمعٍ عادل هو تقليدٌ إصلاحيّ بروتستانتيّ مسيحيّ أميركيّ. أمّا عن أنّ النسق السياسي يستند إلى مبدأ عدم الفصْل بين الدّين والكنيسة، فهو لحماية الأشخاص من كلّ مُضايَقةٍ يتعرّضون لها بسبب مُعتقداتهم. فالتطرُّف والأصوليّة الدينيّة لديه لا تُوافقان ديموقراطيّة تعدُّديّة، بحيث تبقى الحريّة الفرديّة الدعامة الأساس للثقافة السياسيّة الأميركيّة، رافضاً كلّ قراءة خطيّة/ حَرفيّة للإنجيل. وعوض الاصطدام بين الدّين والسياسة، وبين أميركا المؤمِنة وأميركا اللّائكيّة، آثَرَ المُصالَحةَ بين الإيمان الديني والمُجتمع المُتعدِّد، مُعيداً ربْط الصلة الاجتماعيّة بالإنجيل وقراءته لتوحيد المسيحيّين حول أهميّة النضال ضدّ الفقر.
مؤدّى الفكرة أنّ المسيح ليس حكراً على حزبٍ سياسيّ واحد، بل من المُمكن توزيع المسيحيّة على القيَم التي ينخرط فيها الناس من دون أن يكونوا أقلّ مسيحيّة أو تديُّناً. ومن ثمّ على الديموقراطيّين إعادة تملُّك الخطاب الديني والتوقُّف عن التهيُّب من استحضاره، لمُجابَهة المشكلات ذات الطّابع الأخلاقي بفعاليّة. كما يجدر بالسياسيّين اللّيبراليّين المؤمنين إعلان إيمانهم وتوضيح أنّه لا يتعارض مع قيَم اللّيبراليّة التي ينافحون من أجلها. ولا ينبغي أن ننسى أنّ كِبار المُصلحين في أميركا أمثال فريديرك دوكلاس وأبراهام لينكولن ومارتن لوثر كينغ… لم يخشوا أن يدافعوا عن أطروحاتهم بقاموسٍ ديني.
*كاتب وأكاديمي من المغرب
قم بكتابة اول تعليق