أفق – حسام الدّين صالح*
ماذا لو استبدلنا مكان التّابع بالمُهاجِر في مقولة غايتري سبيفاك الشهيرة “هل يستطيع التّابع أن يتكلّم؟”؛ في هذه الحالة فإنّنا إزاء احتمالَين: ظهور امتداد لفكرة سبيفاك عن التّابع في دراسات الهجرة، أو حدوث ارتداد لفكرة المُهاجِر التّابع من الأساس. إنّ العلاقة الوثيقة بين دراسات ما بعد الكولونياليّة ودراسات الهجرة وقضايا تمثيل المُهاجرين تجعل احتمال امتداد فكرة التّابع في حقول الهجرة أكثر ترجيحاً من احتمال ارتدادها؛ لأنّ توظيف فكرة التّابع في قضايا الهجرة الدوليّة يُمكن أن يفتح آفاقاً أوسع، ليس لمُقارَبة مشكلة الهجرات غير المنظَّمة فحسب، ولكنْ لمُقارَبة حلولها أيضاً. ويُمكننا حينها أن نُجيب إنْ كان المُهاجر أسوةً بالتّابع، يستطيع أن يتكلّم أم لا.
بدأت نظريّات ما بعد الكولونياليّة في التحوّل إلى مجالٍ بحثيّ نقديّ مع ظهور نتاجاتٍ فكريّة لعددٍ من المفكّرين الذين ينتمون إلى الدول التي تأثَّرت بهَيْمنة الاستعمار مثل إدوارد سعيد، غايتري سبيفاك، وهومي بابا وغيرهم.. وغيرهم. وهو حقل بحثيّ أكاديميّ يهتمّ بدراسة العلاقات والتفاعُلات المستمرّة بين الدول الأوروبيّة والمُجتمعات التي كانت تستعمرها.
تتركّز أهداف نظريّات ما بعد الكولونياليّة في نقد خطابات السلطة والهَيمنة والمركزيّة الأحاديّة للعالَم الغربي، ومُحاولة كسر سيطرتها على المجال الإدراكي الذي يخوّل لها التحكُّم في تمثيل الآخرين، وفق الرؤية المركزيّة الخاصّة بها. وتدور اهتمامات نظريّات ما بعد الكولونياليّة حول قضايا جوهريّة تتعلّق بمفاهيم الاستشراق، الهويّة والآخر، الذاكرة والمكان، الهَيمنة والتبعيّة، الإمبرياليّة والعَوْلمة، القوميّة والنسويّة، الهجرة والهجنة، المركزيّة الغربيّة والتهميش، وغيرها من القضايا المحوريّة.
وتُعتبر الناقدة الأميركيّة ذات الأصول الهنديّة غايتري سبيفاك صاحبة المقال الشهير “هل يستطيع التّابع أن يتكلّم؟” (سبيفاك: 1988) من الروّاد المُهمّين في دراسات ما بعد الكولونياليّة؛ وقد حاولت المزْجَ بين أدب الاستعمار والنقد النسويّ، عن طريق التركيز على دراسات التّابع التي اهتمّت فيها بأوضاع المرأة الهنديّة على وجه الخصوص.
على الرّغم من انتهاء الاستعمار بشكلٍ رسميّ في العديد من الدول التي كانت مُستعمَرة، إلّا أنّ إدوارد سعيد في مقالته “تمثيل التّابع والمُحاورون الأنثربولوجيّون” كان يرى أنّ الوجود الاستعماري للقوى الغربيّة ظلّ موجوداً في مناطق عديدة، وخصوصاً في أفريقيا وآسيا، لأنّ فكرة التّابع لم تكُن جزئيّة تاريخيّة انتهت مع حصول الدول المحتلّة على حقّ السيادة القوميّة، بل هي فئة يُصنَّف تحتها ساكن الدول حديثة الاستقلال. ويرى سعيد أنّ واقع “التّابع” ظلّ يتشكّل من خليط من الفقر والاعتماد على الغير والتخلُّف والعديد من أمراض السلطة والفساد، بالإضافة إلى بعض الإنجازات الملحوظة في مجالات الحروب ومحو الأميّة والتنمية الاقتصاديّة.
استمدَّت مجموعة “دراسات التّابعين” جذورَها من كتابات أنطونيو غرامشي عن التّابع التي حدّدها من حيث الفئات الاجتماعيّة والطبقات التّابعة. ترى الباحثة الأكاديميّة رينيلا شيري أنّ غرامشي كان مهتمّاً بتحديد هذه المجموعات، فضلاً عن دراسة تاريخها وتصوّراتها التي ستؤدّي في النهاية إلى تحوّلٍ ما في وعيها وظروف معيشتها الماديّة.
بجانب موضوعات الآخر والاستشراق التي تشترك في مناقشتها دراسات ما بعد الكولونياليّة ودراسات الإعلام في إطار مشكلة التمثيل، يكتسب موضوع التبعيّة أهميّة مُماثِلة. إذا كان إدوارد سعيد قد اشتهر بمفهوم الاستشراق، فإنّ زميلته في دراسات ما بعد الكولونياليّة غايتري سبيفاك قد اشتهرت أكثر بمفهوم التبعيّة ودراسات التّابع. ومثلما استطاعت سبيفاك الجمْعَ بين قضايا النسويّة ودراسات ما بعد الكولونياليّة، استطاعت أيضاً أن تجمع بين قضايا التبعيّة وبين قضيّة التمثيل التي يهتمّ بها الإعلام.
الهجرة كمشكلة ما بعد كولونياليّة
بعد شهرتها وتوسُّع دائرة اهتمامها، أصبحت دراسات ما بعد الاستعمار، كإطارٍ نظريّ ومَنهجٍ تحليليّ، تتقاطع مع العديد من الحقول المعرفيّة. يُعتبر الحقل الأدبيّ والثقافيّ عموماً من أشهر الحقول المعرفيّة ارتباطاً بنظريّات ما بعد الكولونياليّة؛ إلّا أنّ بقيّة الحقول الأخرى كالدراسات السياسيّة ودراسات الإعلام والدراسات التي تُركّز على قضايا الهويّة والهجرة، أصبحت تشهد اهتماماً ملحوظاً، وتقدِّم إضافاتٍ مهمّة للقضايا التي تهتمّ بها دراسات ما بعد الكولونياليّة.
ارتبطت نظريّات ما بعد الكولونياليّة منذ تأسيسها بقضايا الهجرة والمهجّرين، فليس من المُصادفة كما يقول غراهام هاغان أن تهتمّ نظريّة ما بعد الكولونياليّة اهتماماً خاصّاً بتجارب الهجرة والمُواطنة التي مرّت بها نخبة مثقّفة تنتمي إلى عصر ما بعد الاستعمار، فقد كان إدوارد سعيد وهومي بابا وغايتري سبيفاك من المُهاجرين الذين تلقّوا تعليماً جيّداً ومن الميسورين الذين هاجروا من الشرق الأوسط أو جنوب آسيا إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة أو بريطانيا.
ولمّا كان الشتات انتقالاً طوعيّاً أو إجباريّاً لشعبٍ ما، من أرضه الأمّ إلى مناطق أخرى، فإنّه يُعتبر واقعاً تاريخيّاً محوريّاً بالنسبة إلى الكولونياليّة. وبهذا الفهْم فإنّ الاستعمار في المحصّلة النهائيّة يُعتبر “حركة شتاتيّة” مثلما يقول بيل أشكروفت وآخرون، تضمّنت التفريق المؤقّت أو الدائم واستيطان الملايين من الأوربيّين في العالَم بأسره، واستمرّت التأثيرات واسعة النطاق لهذه الهجرات مثل التي أُطلق عليها اسم الإمبرياليّة الييئيّة على نطاقٍ عالَمي.
برأي إدوارد سعيد، كما في كِتابه الثقافة والإمبرياليّة، فإنّه ليس ثمّة من شكّ في أنّ إحدى الخصائص الأشدّ بؤساً لهذا العصر، هي أنّه أَنتج عدداً أكبر من اللّاجئين والمُهاجرين والمُشرَّدين والمَنفييّن من أيّ وقتٍ آخر في التاريخ. بل إنّ إدوارد سعيد كان يرى أنّ المُهاجِرين واللّاجئين يمثّلون عاقبة من عواقب تفكيك الاستعمار. يتحدّث إدوارد سعيد عن الهجرات والشتات بالنسبة إلى الشعوب المُستضعَفة كقضايا (غير مدجّنة)، مثل قضايا اللّاجئين وأهل القوارب، الذين يصفهم بجوّابي الآفاق “الذين لا يعرفون راحة، والمستعضعفون المعرّضون للخطر،… العمّال الضيوف المستغَلّون الذين يوفّرون أيدي عاملة رخيصة وموسميّة في العادة”.
ومنذ انطلاق البدايات الأولى لدراسات ما بعد الكولونياليّة في سبعينيّات القرن الماضي وحتّى العصر الحاضر، تفاقمت ظاهرة حركة الهجرة من دول العالَم الثالث إلى الدول التي كانت تمثِّل الإمبراطوريّات الاستعماريّة في الماضي؛ ولهذا فإنّ قضايا الهجرة تظلّ من القضايا الأكثر إلحاحاً في نقاشات دراسات ما بعد الكولونياليّة.
المُهاجِر كتابع
تقدِّم نظريّة غايتري سبيفاك حول التّابع الكثيرَ من الإمكانات النقديّة لدراسة مُختلفة لقضيّة الهجرة والمُهاجرين، وخصوصاً في بحوث الاتّصال والإعلام. والتفكير بالمُهاجِر غير النظاميّ كتابعٍ مهمَّش يُساعد كثيراً في رؤية الجوانب التي لم يتمّ التطرُّق إليها في مشكلات الهجرات غير النظاميّة، ولاسيّما الهجرات من البلدان التي كانت مُستعمَرة أوروبيّاً من قبل. وتُجادِل سبيفاك في أنّ الافتراض المُعاصِر الذي يفيد بأنّ التّابع يُمكنه التحدُّث عن نفسه، ما هو إلّا افتراض إشكالي، أي أنّ التّابع لا يُمكنه التحدُّث عن نفسه.
ترى رينيلا شيري أنّ اعتماد غايتري سبيفاك مصطلح غرامشي عن التّابع يُعتبر مفهوماً رئيساً ومهمّاً في الإجابة عن الأسئلة حول الثقافات المحرومة اليوم، وأنماط المُقاوَمة المُعاصِرة، بالإضافة إلى الإجابة عن مكان وكيفيّة حديثهم في وسائل الإعلام. هذا الاتّجاه يُمكن أن يكون مفيداً في تفسير نفي الفاعليّة عن التّابعين، ولكنْ أيضاً يُمكن أن يكون مجالاً لاستعادة سلطة الأقليّات العرقيّة في وسائل الإعلام.
عندما نفكّر في المُهاجِر غير النظامي كتابعٍ من وجهة نظر غايتري سبيفاك، سوف نلحظ من خلال دراسة أخبار المُهاجرين غير النظاميّين في وسائل الإعلام الغربيّة، والأوروبيّة بالذّات، غلبة كثير من السرديّات عن الآخر المُهاجِر التي لا تنبع من ذاتيّة المُهاجِر، بل من نظرة الآخر له؛ فإذا أخذنا المُهاجرين غير النظاميّين القادمين من أفريقيا كمثال، نجد أنّ معظم الأسباب الجذريّة لهجرتهم وفق وسائل الإعلام الأوروبيّة تدور حول الأزمات السياسيّة والاقتصاديّة المحليّة، كالفقر والفساد والصراعات والحروب، والبحث عن فُرص عمل في أوروبّا، ولا يتمّ التطرُّق للأسباب التاريخيّة القديمة كالاستعمار الأوروبيّ الذي لا زالت آثاره الباقية تُمثّل مصدراً متجدّداً يدفع بالمزيد من مُهاجري الدول المُستعمَرة سابقاً إلى البحث عن طُرق الهجرة غير المنظّمة إلى دولٍ أوروبيّة ولو كانت عبر طُرُقٍ مميتة.
وفقا لنظريّة سبيفاك عن التّابع، فإنّنا هنا بإزّاء سرديّات كولونياليّة عن الهجرة غير النظاميّة والمُهاجرين غير النظاميّين تؤكّد على سوء الأحوال الاقتصاديّة والسياسيّة في الدول المصدِّرة للهجرة. كما تؤكِّد على براءة الآخر (المُستعمِر السابق) من التسبُّب بهذه المشكلات التي تؤدّي إلى التفكير بالهجرة غير النظاميّة في مقابل سرديّات ذاتيّة عن رؤية المُهاجِر غير النظاميّ لذاته ولأسباب هروبه من وطنه وتفضيله لهجرته غير المعترَف بها، بل والمحارَبة بشتّى السّبل من الآخر المتبوع؛ إلّا أنّ المفقود في هذه السرديّة هو غياب صوتها وصداها عن وسائل الإعلام الغربيّة، فنجدها في العادة غير مُمَثّلة بشكلٍ كافٍ وعادل في أخبار المُهاجرين أنفسهم، كما تشير الكثير من الدراسات التي تقصّت حول موضوع تمثيل المُهاجرين غير النظاميّين في الأخبار. أي إنّ المُهاجرين غير النظاميّين، بحسب نظريّة سبيفاك عن التّابع، ممنوعون من الكلام، أو لا يستطيعون.
وتشير غايتري سبيفاك في نظريّتها عن التّابع إلى ملاحظة “التعاطُف المزيَّف” الذي يُولِيه أطرافُ السلطة للتابعين المُهمَّشين، وينشأ هذا النَّوع السطحيّ من التعاطُف من سببٍ أساسيّ هو رؤية التّابع كآخر، لا كمتكلّمٍ مُنفصلٍ بكينونته الذاتيّة. ويُمكن أن نرى هذا التعاطُف السطحيّ ظاهراً في طريقة التناوُل الإعلاميّ لقضايا المُهاجرين غير النظاميّين، حيث تتركّز جُلّ التقارير الإخباريّة على التأطير العاطفيّ لقصص المُهاجرين والاهتمام البالغ بالأحداث المأسويّة وأعداد المُهاجرين المتزايدة وتهديدهم المتوقَّع للمُجتمعات المستقبِلة للهجرة، ويؤدّي هذا التعاطف السطحيّ إلى تناوُلٍ سطحيّ لمشكلات المُهاجرين غير النظاميّين، يحول بين الفهْم المتعمّق لمشكلات الهجرة وحلولها.
ستظلّ مشكلة الهجرات غير المنظّمة مصدراً لقلق الجميع: الدّول المصدِّرة لها والمستقبِلة لها على حدٍّ سواء، حتّى يصل كلّ أطراف المشكلة إلى فهمٍ عميق للأسباب والمحفّزات الطارئة والجذريّة، مع تفهّم حقيقيّ للآخر المُهاجر، بتعديل وضعيّته من التعامل معه كتابعٍ لا يحقّ له الكلام إلى فاعلٍ يمتلك سلطة الكلام، مثلما يُمكن أن يمتلك مفاتيح الحلّ.
*باحث وصحافي سوداني
قم بكتابة اول تعليق