أفق – د. رفيف رضا صيداوي*
بقدر ما تعكس جائحة كورونا عدم المُساواة القائمة في المُجتمعات العربيّة، واختلالات نُظمها السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، فإنّها في الوقت عينه تُسهم في تعميق أوجه عدم المُساواة بين الجنسَين، وفي زيادة حدّتها. ويُشكّل المجال الخاصّ في هذا السياق المُختبر الواقعيّ والموضوعيّ الذي تعتمل فيه هذه الروابط كلّها وعلاقات التأثُّر والتأثير بين العامّ والخاصّ التي يحتلّ العنفُ ضدّ المرأة في الأسرة، أحدَ أبرز مَظاهرها.
يُشكّل العنفُ ضدّ المرأة في المُجتمع، وفي الأسرة ظاهرةً عالَميّة تلقي بتأثيراتها على النساء في البلدان الغنيّة والبلدان الفقيرة، أو المتقدّمة والنامية، بقدر ما تلقي بتأثيراتها أيضاً على النساء من الطبقات الاجتماعيّة المُختلفة، لكون أسباب هذه الظاهرة كامنة في البنية البطريركيّة الذكوريّة التي تسود العالَم بأسره، وتولِّد التمييز والعنف ضدّ النساء. فهذه السلطة الأبويّة الذكوريّة التي أنتجت تصوّراتٍ نمطيّة تجاه دَور كِلا الجنسَين، تقوم، فضلاً عن ذلك، بتكريس هذه التصوُّرات عبر شرْعَنَة العنف ضدّ المرأة في المجال الخاصّ، وفي دائرة العائلة على وجه الخصوص، وذلك كآليّة من آليّات إعادة تكريس هذه التصوّرات النمطيّة، إذ إنّه فضلاً عن علاقات القوى والسيطرة الأبويّة/ البطريركيّة الطبقيّة المُنتجة لأشكالٍ لا حصر لها من التمييز السياسي والاقتصادي والاجتماعي ضدّ المرأة، فإنّ العنف المُمارَس ضدّها يرتبط بمسألة الكيان الجنسي للأنثى، ومن هنا اتّخاذه في كثير من الحالات مَظهراً جنسيّاً، كتشويه الأعضاء الجنسيّة للأنثى، والاغتصاب، وما شابه. علماً أنّ الاضطّهاد القائم على أساس الجنس غير واضح بقدر وضوح الاضطّهادات الأخرى، الطبقيّة أو العرقيّة أو الإتنيّة أو غيرها من الاضطّهادات التي تقع على الجنسَيْن.
لكنْ، على الرّغم من عالَميّة ظاهرة العنف ضدّ المرأة، إلّا أنّها تكتسي دلالاتٍ تحيل على خصوصيّة النسق الثقافي الذي تندرج فيه، وعلى بعض مظاهر العنف أو أشكاله التي تُطاول النساء في مُجتمعاتٍ دون غيرها. ففي عدد لا يستهان به من دولنا العربيّة، تُواجِه النساء تمييزاً فاقعاً في تطبيق النصوص القانونيّة بحقهنّ، وهنّ، عدا كونهنّ غير مُتساويات مع الرجال أمام القانون، غالباً ما يُواجهنَ قوانين الظلّ التي تسنّها الأعراف والتقاليد لضبْط قواعد التصرُّف والسلوك المكرِّسَة لموقع المرأة الدونيّ.
من هنا، يُمكن تلمُّس، مثلاً، أسباب ارتفاع حالات العنف المُمارَس ضدّ النساء في العائلة في المُجتمعات العربيّة خلال الإغلاق بسبب فيروس كورونا، على الرّغم من عالَميّة هذه الظاهرة التي حذَّرت هيئة الأُمم المُتّحدة للمرأة من تفاقُمها واصفةً إيّاها بـ “الجائحة الظلّ”، وعلى الرّغم أيضاً من أنّ قضيّة النهوض بالمرأة، وتمكينها، كانت قد غدت واحدة من أهمّ القضايا المُعاصرة، ومحوراً أساسيّاً من مَحاور اهتمام الحكومات والهيئات الأهليّة ومُنظّمات المُجتمع المدني في غالبيّة دول العالَم، ومنها بلداننا العربيّة. فقد أشارت “مجموعة الحماية العالَميّة” في شهر آب/ أغسطس من العام 2020، إلى “أنّ العنف القائم على نَوع الجنس كان يحدث بمعدّل أعلى، بنحو 90 في المائة، عمّا كان عليه الحال قبل الجائحة، ولاسيّما في بلدانٍ مثل أفغانستان وسوريا والعراق”. وهذا ما يؤكّده أيضاً تقرير “كوفيد-19 والعنف ضدّ المرأة في إقليم شرق المتوسّط” (منظّمة الصحّة العالَميّة، 2020) في إشارته إلى أنّ إقليم شرق المُتوسّط يأتي في المرتبة الثانية على مستوى العالَم، من حيث انتشار العنف ضدّ المرأة (37%)، وإلى إنّ هناك زيادةً في حالات العنف خلال الجائحة بنسبة تتراوح ما بين 50% إلى 60% بناءً على مُكالمات الاستغاثة التي تُجريها النساء عبر الخطوط الساخنة لمنظّمات المرأة.
وعلى الرّغم من الصعوبات الكامنة في رصد حالات العنف ضدّ المرأة في الأسرة في ظلّ الحجْر المنزلي الذي فرضته جائحة كورونا، وتعذُّر الأمر في أغلب الأحيان، ارتفعت في لبنان أسوة بباقي الدول، وتيرة هذا النَّوع من العنف، بحسب الجمعيّات والمنظّمات المختصّة بمُناهضة العنف ضدّ المرأة. كما أكّدت قوى الأمن الداخلي في لبنان، بالاستناد إلى الخطّ الساخن المُخصَّص لتلقّي شكاوى العنف الأسري، ارتفاع نسبة هذا النَّوع من العنف خلال الحجْر المنزلي، بنسبة 100% في شهر آذار/ مارس 2020 الفائت مُقارنةً بعدد التبليغات في آذار/ مارس 2019 (إيناس شرّي، “التبليغ عن حالات العنف الأسري في لبنان يرتفع بنسبة 100%..”، https://legal-agenda.com).
أمّا في مصر، فقد أَظهرَ “استطلاع رأي المصريّات حول فيروس كورونا المُستجدّ في الفترة من 4 إلى 24 نيسان/ إبريل 2020″، الذي أَطلقه المجلس القومي للمرأة، وأجراه المركز المصري لبحوث الرأي العامّ “بصيرة”، بالتعاون مع هيئة الأُمم المُتّحدة للمرأة، وشَمَلَ 1518 من الإناث فوق سنّ 18 عاماً، أنّ الجائحة أَسهمَت في إحداث تغييرٍ في نمط الحياة الذي كان سائداً ما قبل الجائحة، وأنّ 11% من الزوجات تعرَّضن للعنف من الزوج (ضرباً أو إهانةً لفظيّة)، وأنّ المشكلات الأسريّة زادت بنسبة 33%، مقابل 19% لنسبة زيادة العنف بين أفراد الأسرة.
و “في تونس، سجَّلت وزارة المرأة والجمعيّات الناشطة في حقوق المرأة ارتفاعاً في عدد الإشعارات المتعلّقة بحالات عنف ضدّ المرأة، حوالى خمسة أضعاف خلال الأسبوع الأوّل من الحجْر الصحّي الشامل لتصل إلى سبعة أضعاف في الأسبوع الثالث من تطبيق الحَجْر” (إقبال موسى، في فيروس كورونا وتداعياته الاجتماعيّة على النساء، 2020). وفي مطلق الأحوال، ومن خلال استطلاع شَمَلَ 9 بلدان عربيّة (ليبيا، تونس، اليمن، المغرب، لبنان، الأردن، فلسطين، العراق ومصر)، أفادَ “عدد أكبر بقليل من النساء مُقارنة بالرجال بأنّهنّ يشعرن بعدم الأمان في منازلهنّ، وأفادت امرأة واحدة على الأقلّ من بين كلّ خمس نساء في الدول التي شملتها الدراسة عن خوفها من العنف المنزلي (من قبل الزوج أو أحد أفراد الأسرة) باستثناء دولة واحدة (لبنان) حيث كانت النسبة أقلّ (حوالى 15%) (تقييم سريع حول تأثير جائحة كوفيد-19 على الأعراف الاجتماعيّة القائمة على النَّوع الاجتماعي، والعنف ضد المرأة. موجز من 9 دول عربيّة، هيئة الأُمم المتّحدة، 2020). والنتائج التي جاء بها هذا التقييم تشكِّل بحدّ ذاتها دلالة على الأعباء التي ترزح تحتها المرأة في الأسرة ضمن ثقافة وأعراف اجتماعيّة تُحمّلها مسؤوليّة تماسُك الأسرة أو تفكّكها، على اعتبار أنّ أيّ تغيير في أدوارها، يشكّل تهديداً للأسرة والمُجتمع في آن. حيث اتّفقت نسبة كبيرة من الإجابات في معظم البلدان التي استطلعت آراء الناس فيها على ضرورة أن تتسامح المرأة “مع العنف المنزلي للحفاظ على بقاء أسرتها معاً، بخاصّة في هذه الأوقات الصعبة، وسُجِّلت أعلى نسبة في اليمن 52%) وأقلّها في تونس (31%) ووافَق الرجال بنسبة أكبر من النساء، في جميع البلدان، على هذا البيان”. ما يعني ضرورة التزام الفتيات والنساء بيوتهنّ إلى جانب الأشخاص الذين يُمارسون العنف عليهنّ، إمّا مُراعاةً للتقاليد والأعراف الاجتماعيّة، وإمّا لأنّهنّ يعتمدن على الرجال في معيشتهنّ إذا كنّ غير مستقلّات اقتصاديّاً أو غيرها من الأسباب، فضلاً عن تعذُّر وصولهنّ إلى المؤسّسات والجمعيّات التي تدعم ضحايا العنف المنزلي، أو إلى المَخافر أو القضاء. وفي هذا الصدد أَفاد عددٌ من الناشطين في مؤسّساتِ وجمعيّاتِ مُناهضةِ العنفِ ضدّ المرأة عن عدم توافُر الهواتف المحمولة في متناول النساء، وخضوع هذه الهواتف في بعض الأحيان لسيطرة الأزواج أو الآباء وسواهم من ذكور الأسرة، ناهيك بمستويات مُختلفة من المَعرفة الرقميّة بين النساء.
الضغوط على النساء داخل الأُسر
تُسجِّل الدُول العربيّة بحسب تقرير “Une avancée décisive vers l’égalité entre hommes et femmes OIT,2015” أعلى نسبة لجهة النساء اللّواتي يُقدّمن رعاية غير مدفوعة الأجر للآخرين وبدوام كامل (59,9%)، تليها آسيا والباسيفيكي (27,0%)، ثمّ الأميركيّتان (16,5%)، فإفريقيا (15,7%)، وأخيراً أوروبا وآسيا الوسطى (11,3%). وأعمال الرعاية غير المدفوعة الأجر هذه تقوم بها النساء، بوصفهنّ نساء، ما يدفعهنّ إلى تحمُّل مسؤوليّة القيام بمعظم أعمال الرعاية اليوميّة للأطفال، أو لكبار السنّ في الأسرة أو للأشخاص المُحتاجين إلى رعاية في الأسرة، ناهيك بالأعباء المنزليّة. ففي المنطقة العربيّة، تمضي النساء 5 ساعات و48 دقيقة يوميّاً في القيام بهذه الأعمال مقارنةً بساعةٍ واحدة و10 دقائق يمضيها الرجال في القيام بهذه الأعمال (التقرير العربي حول الفقر المُتعدّد الأبعاد).
وأظهرت دراسة حول أربعة بلدان عربيّة (مصر، الأردن، تونس وفلسطين) أنّ النساء المتزوّجات فيها، واللّواتي يعملن خارج المنزل، يتحمّلن العبء الأكبر من العمل، بسبب الرعاية غير المدفوعة الأجر للآخرين، والأعمال المنزليّة، وهو ما أُطلق عليه ظاهرة “العمل لفترتَين”، بحيث تتحمّل النساء المتزوّجات العاملات إجمالي عبء العمل الأكبر، إذ يعملن بنسبة 9% و 22% و 41% و 50% أكثر من الذكور في تونس ومصر وفلسطين والأردن على التوالي (اقتصاد الرعاية في الدول العربيّة نحو الاعتراف بأعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر ..، الأُمم المتّحدة، 2020). وقد ازدادت لا بل تضاعفت هذه الأعباء في ظلّ الحجْر الذي فرضته الجائحة، وما رافقه من تحوّل كبير إلى العمل عن بُعد في مجالات مُختلفة، ناهيك بتحوُّل الأبناء، من تلامذة وطلّاب جامعيّين، إلى التعلُّم عن بُعد من داخل المنازل.
وعليه، لا بدّ أن تكون الأزمةُ المتولّدة عن جائحة كورونا فرصةً لإعادة التفكير الجدّي في تصويب ما يشوب النُّظم الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة العربيّة من مَواطن ضعف واختلالات أسهمت إلى حدّ كبير في تعميق آثار الجائحة بعامّة، ولاسيّما لجهة تعميق اللّاعدالة والمُساواة الاجتماعيّة والجندريّة على حدّ سواء. على أن يستدعي ذلك بذْل الجهود لبلْورة رؤية مستقبليّة تتضمَّن إصلاحاً شاملاً وتَلحظ إعادة صياغة الأُطر القانونيّة والتشريعيّة والمؤسّسيّة النّاظِمة للحياة السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، وتدعيم مفهوم المُواطنة ببُعده العميق، بغضّ النظر عن جنس المُواطنين أو عرقهم أو طبقتهم أو دينهم.
قم بكتابة اول تعليق