محمّد سبيلا.. رحيل فيلسوف الحداثة العربيّة

أفق – علي البزّاز*

تعرّفتُ إلى مُفكّر الحداثة العربيّة بامتياز محمّد سبيلا (1942-2021) في الرباط، وكنتُ يومذاك في صددِ مُواجهةِ فِكرةٍ مَفادها، هل الفلسفة أيديولوجيا أم هي إبداع مفاهيم (دولوز)؟ وهكذا هي، أسوةً بالشعر والأدب والفنّ، وليست بمنأىً عن الإبداع أصلاً، وخصوصاً في مُجتمع ما بعد الحداثة! كيف للشاعر إذاً أن يكتبَ في الفلسفة مِثل المعرّي؟ البون الشّاسع بين الشعر والفكر، قد يعود إلى أنّ الشّعرَ كان موجوداً في حين أنّ الفِكرَ لم يشرع بعدُ في التفكير، أو بالأحرى لم ينبثق الفكرُ إلّا لكي ينحدرَ في الحينِ إلى الفلسفة، أي إلى الميتافيزيقيا. 

“الحوار مع الشعر لا يُمكن أن ينطلق إلّا مِن فِكرٍ بالكاد يكون مُبلوراً، والشعر يمكنُ أن يكون فِكراً مُتحرِّراً من الميتافيزيقيا ومِن آلة مفاهيمِها” (جان بوفريه). 

كيف للفيلسوف أن يكتب في الأدب مِثل بلانشو؟ كنتُ أطمحُ أن أجدَ جواباً، أكان اتّفاقاً مع تصوّراتي الآنفة أم تصحيحاً لها، لدى فيلسوفٍ اشتغل بكدٍّ تأليفاً وترجمةً على مشروع الحداثة وما بعدها، وصولاً إلى الحداثة التقنيّة، فصَرفَ نظره الفلسفي إلى قضايا معرفيّة وأنطولوجيّة وقِيميّة، ذات صلةٍ بموضوعَيْ الحداثة وما بعد الحداثة، فاستطاع في سنين عدّة أن يجعلَ من هذَين المفهوميَن إشكالَه الأثير، وأن يُراكم بشأنِهما عشرات الكُتب والدراسات الجَادّة، كما اشتغلَ أستاذاً للفلسفة الحديثة والمُعاصِرة في كلّيّة الآداب – جامعة محمّد الخامس في الرباط، فاستحقّ عن جدارةٍ نَعتَ “فيلسوف الحداثة العربيّة” بلا مُنازعٍ.

من بين مؤلّفاته: “الأصوليّة والحداثة”، “الحداثة وما بعد الحداثة”، “دِفاعاً عن العقلِ والحداثة”، “زمن العَولمة في ما وراء الوهم”؛ وفي الترجمات: “الفلسفة ما بين العِلم والأيديولوجيا”، “ألتوسير. التقنيّة – الحقيقة – الوجود” لمارتن هايدغر، و”نِظام الخطاب” لميشيل فوكو، وغيرها.

شكَّل التأليف والترجمة لدى سبيلا ما يُشبه العلّيّة كمكانٍ مُرتفع في فكره وحياته، وهُما فعلان اقترنا بانتمائه اليساري الطبقي، إذ لا فلسفة إلّا وهي تكميلٌ للمَعرفي والنضالي، وفي معيّة نِظام الحداثة وآفاقها، وفي استهدافٍ كُلّي للمستقبل. 

في “غَيريّة” سبيلا

لم تكُن الفلسفة لدى سبيلا سوى القدرةِ على التحوّل ما بين المفاهيم والأفكار، وعليه، فهي تنشدُ التغيير والحياة السعيدة، بعيداً من الصرامة والتقليدانيّة المعهودتَين من الدروس والمتون الفلسفيّة، علاوة على أنّ الرجل يؤطِّر ذلك كلّه اجتماعيّاً بأريحيّة وطيبةٍ وتواضع، وبشغفٍ كبيرٍ مُفكّراً بالآخر وبمساعدته، وهذا ما يؤكّد عليه طلّابُه جميعهم، وكأنّهم في خاطرِه، ذلك “الغير” فلسفيّاً، وعلى هذا النحو، يتقاسم معهم الوجود والدروس والتاريخ. ووفقاً لهذه “الغيريّة”، كنتُ أحظى منه بالرعاية والاهتمام، وكان يقول لي “أنتَ غريب تعيش في ما بيننا، والغريب هو قوّةٌ ومنجمٌ للمستقبل”. 

كُنّا في زيارةٍ إلى منزله في الرباط في العام 2019، مع الصديق الشاعر والكاتب أحمد فرَحات ، فجعلَ اللّقاءَ بعفويّته ذا أجواءٍ معرفيّة وإنسانيّة، يسأل مُستقصياً أحوال الناس والأوطان، نتنقّلُ معه من فكرةٍ إلى أخرى ومن مفهومٍ إلى غيره، يُشيدُ بتواضع بكلّ فكرة حيويّة وبأقرانِه من دون حرج، مثلاً صديقه المفكّر الإيراني داريوش. 

وَجَّه سبيلا نَقداً حادّاً استناداً إلى خبرةٍ نضاليّة وفكريّة (كان فاعِلاً في الحركة الطُلّابيّة المغربيّة، ثمّ مُناضِلاً في حزب الاتّحاد الوطني للقوّات الشعبيّة مع رفاقه في الفكر: محمّد عابد الجابري وسالم يفوت)، “الاشتراكيّة هي أكبر كِذبة” و”لا فَرق ما بين المُناضِل الاشتراكي والإرهابي الإسلاموي” (جريدة “المساء المغربيّة”)، ما أثار سخطَ بعض اليسار المؤدلَج (عبد الرّحمن النوضة). وفي السياق ذاته، انتقدَ المفكّرُ اليساري كريم مروّة الاشتراكيّةَ ونَعتَها بالكِذبة أيضاً – (مجلّة “الفيصل”).

“يقع المثقّفُ أو المناضل الثوري في أخطاءِ المُناضل الإسلاموي ذاتِها، إنْ هو تفحّصَ نضاله على أساسٍ أيديولوجي عقائدي، وليس نضالاً يتغيّأ التحوّل بحسب المراحل التاريخيّة والمفاهيم، وخصوصاً أنّ العالَم قد تغيّر نتيجة الحداثة التقنيّة التي ينبغي الاستفادة منها وجعْلها تحوّلاً في المفاهيم والأفكار سواءٌ بسواء”. يسيرُ فِكر الحداثة بوتيرةٍ أبطأ من سَيره تقنيّاً. الحداثة التقنيّة باعتبارها أنطولوجيا وقدراً لا بدّ منه، ومن هنا جاء اهتمامه على عكس مُجايليه المغَارِبة بثورة “البيوتكنولوجيا”. 

“الحداثة تقنيّاً، يُمكن الإحاطة بها عن طريق تعلُّم برمجيّاتِها، بينما تكمنُ المعضلة في الحداثة المَعرفيّة”، وهذا ما هو حاصِل في مُجتمعاتنا العربيّة، إنّها تَستعمل مُنجزات التقنيّة لكنّها عاجزة عن إلغاءِ قانونٍ عشائري أو تعسّفي.

جاء انتقادُه المُثقّف الاشتراكي والإرهابي الإسلاموي، إشارة لِما قاله الفيلسوف ديفيد أبتر في كِتابه “الدولة ضدّ الدولة”: “إنّ الإرهاب هو مفعول من نتائج مُجتمع ما بعد الحداثة”.

الإرهاب وأبعاده

رَبَطَ سبيلا الذي أسّسَ الجمعيّة الفلسفيّة وترأَّسَ تحرير مجلّة “مَدارات فلسفيّة”، ظاهرة الإرهاب بثلاثة أبعاد وهي: البُعد السياسي، والتكنولوجي والإعلامي: 

نحن أمام ظاهرة شموليّة، لها أساسات ثقافيّة ودينيّة، تستعملها السياسة لتحقيق ما تريد من غايات ونتائج، ولها أبعاد نفسيّة أيضاً، كُلّها تَدخل في آليّة الدّفاع عن الذات، أي نقول: نحنُ لا علاقةَ لنا بالإرهاب وثقافتنا غير إرهابيّة، وديننا الإسلام، هو مُسالمٌ ويدعو إلى التسامُح، وإلى غير ذلك من أشكال الدفاع الذاتي، الذي سرعان ما يتحوّل إلى نوعٍ من التضليل الواعي وغير الواعي. أمّا في ما يخصّ علاقة الإرهاب بالتقنيّة والإعلام، فالإعلام باعتباره شكلاً من أشكال الثقافة التقنيّة، يُشكّلُ واحدةً من وسائل مُعالجة هذه الظاهرة ذات الوسائط المُتعدّدة. واللّافتُ هو أنّ الإرهاب “اليساري” الذي ظَهَرَ في القرن العشرين، استعمَل هو الآخر وسائل وتقنيّات الإعلام ذاتها، لكن كِلا النوعيَن الإرهابيّين، ذلك الذي انحدر من اليسار “الماركسي المتطرّف”، والإرهاب المُنحدر من ابن تيميّة وسيّد قطب، قد ترسَّخ في الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة، مستعملاً الصحف والأدبيّات والتلفزيون. أعتقد أنَ ديفيد أبتر بتوصيفه ذاك، كان يقصد الإرهاب “اليساري” وليس العربي الإسلاموي، لأنّه توفّي في العام 2010، ولم يكُن على بَيّنة حينئذٍ بطبقة الإرهاب ذاك، وعلى هذا النحو، يقصد أبتر الإرهابَ المُرتبطَ بمُجتمعِ ما بعد الحداثة. وهكذا، فإنّ نَوعَيْ الإرهاب المذكورَين يُعبّران عن توظيفٍ أيديولوجي، لأنّهما ينحدران من منبعٍ عقائدي، خَلفه مَعين ثقافي، وإن اختلفا في المُمارَسة والوسائل. 

أَشار في كِتابه “زمن العولَمة في ما وراء الوهْم”، إلى أنّ الإرهاب هو سليلٌ عضويّ للعَوْلَمة، وعليه، ما نُعاينه في السياسة الدوليّة وكذلك العربيّة، هو نتيجة عَوْلَمة متوحّشة، تستعمل كلّ شيء لصالحها بما في ذلك تفكيك الهوّيات واستعباد الشعوب. يتّسم الواقع العربي ببلْورة عمليّة إنكارٍ واضحةٍ لهذه الظاهرة، بمعنى محاولة تبرئة الثقافة العربيّة عن طريق القول:

إنّ الإرهابَ لا دينَ له (أستعملُ هنا كلمة الإنكار بحمولة التحليل النفسي، أي الإنكار المَرَضي)، ما أدّى إلى عدم بلورة سياسة صريحة لمراجعة مُجمل التفكير سواء ثقافيّاً أم فلسفيّاً أم اجتماعيّاً لتقصّي بذور الإرهاب فينا وفي ثقافتنا. يهدف الإنكار هنا إلى تبْرئة الذات والتاريخ من جذور الإرهاب المستوطِنة في قسمٍ كبيرٍ من الماضي والحاضر. وهكذا، لا ينفع القول بتاتاً إنّ الإرهابَ مُصطنَع، وإنّه خارجي ذو حمولة تآمريّة، وقد خُلق أصلاً من أجل الإساءة إلى الثقافتيَن العربيّة والإسلاميّة. يُسهم الإنكار المَرَضي بتشجيع الإرهاب على التَمدُّد، وعليه، لا جدوى من القول إنّ الإرهابَ لا يرتبط بصِلةٍ إلى ثقافتنا وأنّه مُستورَد كصناعة. إنّ آليّة الدفاع الكاذب تلكَ وكذلك تبْرئة الثقافة الإسلاميّة، لهي بحقٍّ شكلٌ من أشكال الوعي المُزيَّف، ومُمارَسةُ التضليل مُرتبطة عضويّاً بتأويلاتٍ تبريريّة إلى حدٍّ ما. ثَمّة نسبة كبيرة من العنف السياسي في تاريخنا، وفي مآسينا الغابرة، كانت حاضرة في الثقافة البعيدة التي تعود مثلاً إلى مُمارسات الخوارج والمجموعات العُنفيّة، ذات الحواضن في الثقافة اليوميّة، وفي التراث بل وفي جزء من الثقافة الدينيّة حتّى.

يكشفُ تنامي الإرهاب وكذلك الأوبئة (كورونا) والكوارث الطبيعيّة (ما شهدته أوروبا مؤخّراً) عن ضعفٍ في الدولة أيّاً تكُن، ونتيجة لما نشهده من الوباء والكوارث، ينبغي توسيع مفهوم الدولة ومسؤوليّاتها “الدولة هي الصحّة والأمن والتعليم” (ماكس فيبر). ففي أثناء أزمة كورونا (الفيروس الذي أودى بحياة سبيلا عن عمر 79 عاماً)، قال الراحل: “أزمة كورونا أظهرت الأهميّة القُصوى للدولة كمُمثّل للمُجتمعات”، وكأنّه يريد توسيع المجال الحيوي للدولة، بعدما تعرَّضَ للهتْكِ من قِبَلِ الشركات التجاريّة والعَولمة المُتوحّشة؛ فقد استدانَ الاتّحاد الأوروبي من البنوك والشركات التي أصبحت سلطةً داخل الدولة نفسها، وعوضاً عنها إلى حدٍّ ما، لتغطية أعباء أزمة كورونا، فيا للمُفارَقة! 

“إنّ العولَمة والتجارة، سوف يُعمّمان الاستعدادَ للعنف في الوقت نفسه، الذي ستنفجر فيه حركات الغضب” (ديفيد أبتر)، وهذا ما سوف ينسحب على المُجتمعات أوّلاً، ثمّ على الدولة تالياً.

إنّ التفكير الفلسفي، بل وحتّى النشاط النضالي لدى محمّد سبيلا، لم يكونا ذات يومٍ سوى نتاج الحداثة وتقنيّاتها، فيُمكن حاليّاً مُراقبة الفضاء والمُجتمعات والدولة وعمل مؤسّساتها عن طريق الإنترنت، وإخضاعها من قِبَلِ أيّ فردٍ إلى ثنائيّة الدولة المُراقَبة والدولة المُسيطَر عليها، تلك الصفة التي لم يكُن يتوقّعها حتّى فوكو مُنظِّر السلطة وميكروفيزيائيّتها. فها نحن أمام أشكالٍ جديدة من السلطة على الصعيد التجاري، العسكري، والأدبي والفنيّ، ويكاد يذهب القول بعيداً إلى الاستنتاج بحتميّة السلطة التقنيّة، التي ستحكم الدولة مهما كانت ديمقراطيّة وتُحدِّد المستقبل. 

فالدولة كما يقول سبيلا، هي نتاج الحداثة، وهي شكل التنظيم السياسي الحديث، الذي أسهمت الحداثة بتكوينه؛ تنظيم السلطة وتحويلها من سلطة تستمدّ مشروعيتها من المتعالي، إلى سلطة تستمدّ شرعيتها ووجودها من القاعدة الإنسانيّة الشاملة. إنّ كلمة الدولة في اللّغة العربيّة مزدوجة الدلالة، فهي تعني البلاد أو الوطن، مثلما تعني في الآن ذاته مؤسّسة الحُكم، أو نَوع السلطة، أو جهاز الدولة.

*شاعر وكاتب من العراق

قم بكتابة اول تعليق

أترك لنا تعليق

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


+ 23 = 27