بقلم حسن فاتح
مات أحمد بوهلال، لتختفي صفحة أخرى من صفحات دفتر مزغان، رحل أحمد كولير، لينطفئ مصباح آخر من مصابيح مدينة الجديدة، لن يحس بفراقه سوى من جرب صداقة كولير، طيبوبة كولير وسخاء كولير، ولن يشعر بغيابه سوى من تعود على رؤيته مشاءا على البحر، متجولا بين أرصفة المرسى، أو جالسا بمقهى صديقة يشق سكونها بضحكاته المتبخترة.
ينتمي احمد بوهلال الى جيل الخمسينات، رأى النور بمدينة مزغان أوالجديدة، من أب تنحدر أصوله من قبيلة الرقيبات، الضاربة عمقا في الصحراء المغربية، فهو أحمد ابن امحمد بن بوشعيب الرقيبي، والده كان من أوائل البنائين في منطقة دكالة، كثيرة هي المنازل العتيقة التي تحمل لمسات بنائه، أما أمه فهي “حسنية” بنت الحوزي، كانت تجيد الخياطة منذ زمن بعيد بدرب بن ادريس، حتى أنها كانت قيدومة الخياطات بالجديدة، إنه الابن الثاني ل “بويا امحمد”، يتوسط إخوته الذكور الإثنين من أبيه، له أخت شقيقة واحدة، اما أخواته الخمس فهم من الأب فقط، لم يعرف أحمد أبدا حنان الأب منذ ولادته، فأمه اضطرت للطلاق من زوجها وهي تحمله في أحشاءها، تربى مع أخته الشقيقة “خدوج” في حي القلعة، لكن كان دائما يبحث عن رابط او سبب يجمعه مع باقي إخوته بالبادية، من أجل أن يعيش قليلا من العطف ولو عبر لقطات متناثرة في طفولته.
لم يكمل احمد دراسته ولم يرغب الاستمرار فيها، هدر المدرسة وهجرها باكرا، ليس من أجل اللعب او ضياع الوقت، بل من أجل البحث عن وجهة تغير نمط حياة لا يحبها، فعثر على فضاء سخي لا يكل ولا يمل، إنه البحر، ارتمى بين أحضانه وكأنه والده الذي لم يلده، ألفت جيناته “ليود البحر”، حتى أصبح يجدبه كل يوم من “السكويلة” نحو الميناء دون أن يشعر، بسبب ذلك كان يتلقى أحمد وابلا من اللوم والعقوبة، ومع ذلك كان يعاود الكرة في كل مرة، حتى اندمج مع أصدقاء جدد بالمرسى، ليسوا كما كانت تتمنى له اسرته، وبفضلهم تعلم أبجديات مهن البحر، نظف الزوارق والبواخر، رتق شباك الصيد، حمل الصناديق الخشبية وأفرغ حمولات السمك، كما كون شخصية فرض بها وجوده على عالم لا يجتمع فيه سوى الاكثر قوة وعنفا، مع رصيد مهم من فهرسة الكلام السوقي والقبيح، ومن الأشياء التي شفعت له الاندماج بسرعة في المرسى، هو أنه كان قوي البنية والبديهة، سريع الغضب والعراك، خصوصا إذا انتزع منه حق، حتى لقبوه ب “كولير” أي الانسان شديد الغضب، كان له جسد مليء كبحارة “الموبيديك”، ونظرة حادة كقرصان “الكرايبي”، وشهامة “ماركو بولو” ونبل “روبن هود”.
تدحرج الشاب أحمد وتدرج في كل حرف المرسى الشاقة حتى أصبح “موسا” او حارس مركب لصيد السمك، ورغم صعوبة هذه المهمة رغبها وتشبث بها للوصول الى حلمه الطفولي كقائد سفينة، وبفضل تفانيه في العمل أصبح “كولير” عملة مهمة ضمن فريق البحارة، ليتحصل بفضل ذلك على رزق حلال، يعيش منه ولو انه غير قار وهزيل.
في شتاء كل سنة، يسود طقس مضطرب كالمعتاد، تعم فيه الرياح العاصفة والامواج العاتية، تحكم على المرسى سكونا وكأنه أبدي، لتحد من ضجيج البواخر ولغط الصيادين، إذ ذاك لا تسمع سوى صخب الامواج وأصوات النوارس، يوقف البحار أنشطته طيلة “الموفيطا”، وهي أيام يكرهها المسترزقون من البحر، لأنهم يضطرون الى العيش من مذخراتهم أو الاقتراض من المتاجر، ليس لهم سوى الارتكان في بيوتهم بحثا عن الدفء بجانب إبريق شاي، أو يقتلون الزمن بلفحات دخان الطابة والكيف، مع الحكي بشيء من الخيال عن فترات صيد كانت زاخرة بالأسماك، الكل يستسلم لذلك السبات العميق خلال “الموفيطا”، ما عدا “كولير” الذي لا يغادر الميناء إلا ليلا، لعل السماء تجود عليه في يوم ما بخلاص من هذه الأزمة، وباب رزق ينعثق بسببه.
ذات مساء جامد وصامت من سنة 1970، كان احمد يغط في النوم بإحدى العنابر الخاملة، فإذا به يسمع شذرات صوت بعيدة تناديه، قفز مسرعا وقال “إنه فرج من الله، سيكون عمل استرزق منه وأعوض به الأيام العجاف”، انطلق “كولير” كالشبح للبحث عن المنادي، بين البضاعة المرفوفة والصناديق المركونة على رصيف الميناء، وقوة الرياح تغير اتجاه مصدر الصوت، تعب أحمد كثيرا ولم يجده فجلس على المربط الحديدي يلتقط أنفاسه، فبدأ الشك واليأس يتسلل في دواخله، وما هي إلا لحظات حتى سمع الصوت مرة أخرى، وبشكل واضح هذه المرة، فأسرع نحوه قبل أن يختفي، إنه صديق سبق أن أسدى له عدة خدمات، فقال له ” إن الله يحبك يا كولير، هذه فرصتك في النجاة، لقد رست باخرة شحن يونانية بالميناء، وهم في حاجة لشخصين من أجل العمل على مثنها، اذهب فالباخرة مركونة في آخر الرصيف البحري”، خطى أحمد خطوات مسرعة، ورأسه تتضارب فيه كثيرة من الأسئلة، لكنه كان يردد: “العمل لا يرعبني، أنا مستعد لفعل اي شيء للانعتاق من هذه البلاد”، وحينما رأى اليونانيون بنيته الجسدية بدت على وجوههم علامات القبول، فطلبوا منه بعض الوثائق، نسخة من عقد الازدياد والدفتر البحري.
كان طلب نسخة من عقد الازدياد عقدة أمام “كولير” للظفر بهذه الفرصة، وهو يعلم جيدا طبيعة والده الصارمة ذو الطابع الحاد، لجأ الى أخيه الأكبر للتدخل لدى “بويا”، أي والده، من أجل الحصول على دفتر الحالة المدنية، بدل أخوه “الهواري” جميع الوسائل الممكنة، لكن تطلب الأمر سرقة الدفتر من دولاب الأب العجوز، وانطلق مسرعا كالريح نحو “كولير” لاستخراج نسخة عقد الازدياد وإرجاع الدفتر قبل افتضاح الامر، أكمل “كولير” الملف والتحق بالباخرة اليونانية فكانت تلك هي انطلاقته نحو حياة جديدة مليئة بالمغامرات والاكتشافات.
جال “كولير” كل بقاع العالم، البلدان والقارات، الجزر والأرخبيلات، البحار والمحيطات، يصعب إحصائها بمذكراته، طاف بالكرة الارضية أكثر من مرة، قصصه عبر العالم تفوق خيال حكايات “جيل فيرن”، ورحلاته تضاهي في جمالها رحلات “كريسطوف كولمبوس”، كان يجيد الحديث بثلاثة لغات وهو ابن الابتدائي، الفرنسية، الانجليزية واليونانية، كان يطوف على موانئ العالم كطائر “الألباطروس”، يترك قلبه عند كل مدينة بحرية يحط فيها، تعلقن به اليونانيات، البرازيليات، الكوبيات، الافريقيات، الاوروبيات والاسيويات، لكن ظل يؤجل فكرة الارتباط حتى ينهي تجواله ويفك ارتباطه بالشركة اليونانية.
يقول المثل الشعبي “لي ما جال ما اعرف بحق الرجال”، وهذا هو سر شخصية أحمد بوهلال، لقد عاش حياة بطولها وعرضها، ذاق من كل ملذات الدنيا، تصرف في أموال كانت من الممكن أن تجعل منه من أغنياء هذا البلد، عاش وغرف من كل الحضارات واحتك بكثير من الشعوب، لقد شبع قلبه وبطنه وعقله، حتى أصبح حب التملك أو الثراء لا يعني له شيئا، ليقرر بعد ذلك بأن يختم مساره المهني، ويعود للاستقرار بالجديدة، مدينته المحبوبة، حتى وإن قصت عليه ذات يوم من أيام شبابه، فهو يؤمن بقول الشاعر “بلادي وإن جارت علي عزيزة .. وأهلي وإن ظنوا علي كرام”.
كان الاصدقاء ينتظرون “كولير” على أحر من الجمر، يترقبون دخوله الى البلاد خلال إجازاته من البحر، فلقد عودهم على توزيع الهدايا والإكراميات، لا أحد يؤدي ثمن مشاربه ومأكولاته حينما كان “كولير” يلج مقهى او مقصف، إنه الكرم الحاتمي في أبهى تجلياته بعصرنا البخيل، لقد استفاد منه الأهل والأقارب والجيران، لكن والدته “مي حسن” كانت تحظى بالنصيب الأوفر، إذ لا يهدأ له بال إلا وهي راضية عليه وفي صحة جيدة، يغدق عليها المال ويملأ ثلاجتها بكل ما لد وطاب، رغم أنه يعلم جيدا بأنها أكثر سخاء منه وستوزعه بدورها على الآخرين.
كانت آخر محطة عالمية ل”كولير” في مساره المهني هي دولة كندا سنة 1987، الا أن المناخ البارد والثلوج جعلته يأخذ قرارا بطلب العودة الى المغرب، فوضع حدا للعقدة مع الشركة اليونانية، من أجل العيش الى جانب أمه التي يحب، فيما ما تبقى له معها من الأيام، قررت أن تزوجه بفتاة تؤنسه وتكون سندا لها في أيامها الأخيرة، فاختارت له فتاة من أصول صحراوية عريقة، يفوح منها عبق الواحات ونخيل ورزازات، فكانت له “عزيزة” وانجبت له خمسة أبناء ، امحمد، نجوى، زهير، زكرياء، وياسين آخر العنقود.
قصصت عليكم جزءا يسيرا من حياة كولير، حياة كلها كفاح وتعب، رحلاته ومغامراته العالمية لا يسعها في الكتابة مدادي وقرطاسي. رحمك الله يا كولير، رحمك الله يا خالي.
قم بكتابة اول تعليق