كيشور محبوباني: كورونا كرَّس عَولَمَةَ الصّين

أفق – أحمد فرحات*

“لن تُغيِّر جائحةُ كورونا الاتّجاهات الاقتصاديّة العالَميّة بشكلٍ جوهريّ، لكنّها ستُسرِّع من وتيرة التغيير الاستراتيجيّ فقط، والذي بدأ بالفعل يتمثّل بانتقال عَوْلَمَةٍ تتمحور حول الولايات المتّحدة إلى عَوْلَمَةٍ تتمحور حول الصين”.

هذا ما قاله المفكّر السنغافوري/ العالَمي كيشور محبوباني لمجلّة “فورين بوليسي” الأميركيّة في عددها الصادر في 20/3/2020، والتي استفتت فيه 12 مفكّراً استراتيجيّاً بارِز اًحول العالَم بشأن توقّعاتهم لمصير النّظام العالَمي بعد تفشّي وباء كورونا. ومحبوباني كان في الطليعة بينهم، إلى جانب أسماء أخرى مهمّة مثل ستيفن والت، أستاذ العلاقات الدوليّة في جامعة هارفرد، وروبن نيبلت، المدير التنفيذي للمعهد المَلكي للشؤون الدوليّة في لندن (تشاتام هاوس)، وجوزيف ناي، كبير الأساتذة في جامعة هارفرد، وجون ألين، رئيس معهد بروكينغز، وشيفشنكار مينون، من كِبار باحثي معهد بروكينغز ومُستشار الأمن القومي السابق لرئيس الوزراء الهندي مانموهان سينغ وغيرهم.. 

وأستطيع القول بثقة إنّ كيشور محبوباني، يُعدّ من بين الخبراء الأكثر مَعرفة استراتيجيّة بالشؤون الصينيّة – الأميركيّة واستطراداً الشؤون الآسيويّة – الغربيّة ككلّ. يؤكّد ذلك، ليس كُتبه وأبحاثه وكِتاباته المتوالية في تلكم الشؤون فقط، وإنّما دعوات كبرى هيئات المؤتمرات الدوليّة له، ومعها أيضاً كبرى مَراكِز البحوث العالَميّة، للوقوف على رأيه وتحليلاته الوازنة واقتراحاته بشأن الرّاهن والمُستقبل. ومن كُتبه نذكر: “هل يستطيع الآسيويّون التفكير؟”، “ما بعد زمن البراءة: إعادة بناء الثقة بين أميركا والعالَم”، “نصف العالَم الآسيوي الجديد: التحوّل الحتمي للقوّة العالميّة نحو الشرق”، “هل يُمكن لسنغافورة النجاة؟”، “هل ضيَّع الغرب بوصلته؟”، “هل فازت الصين: التحدّي الصيني للهَيمنة الأميركيّة؟”… إلخ. 

وبالعودة إلى خلاصة ما كان قاله في “الفورين بوليسي”، نَجِد البروفسور محبوباني يضع الولايات المتّحدة أمام خيارَين لا ثالث لهما: 

الأوّل، ويرى فيه أنّ أميركا إذا ما أرادت أن تُحافِظ على تفوّقها وريادتها العالَميّة، فعليها الانخراط في مُواجَهةٍ جيو/ سياسيّة صِفريّة مع الصين على المستويَين السياسي والاقتصادي.

أمّا الخيار الثاني، فيفيد بأنّ من مصلحة واشنطن التي تظلّ تُكرّر الكلام على تحسين مستوى حياة الأميركيّين، التعاوُن الاقتصادي الجدّي والمفتوح مع بكين. ونظراً لأنّ البيئة السياسيّة الأميركيّة تجاه الصين مسمومة وسلبيّة للغاية، فقد لا تؤتي فكرة حكمة التعاوُن الصيني الجدّي هذه أُكُلها.

كما يرى محبوباني، وهو في المناسبة وزير خارجيّة سنغافورة الأسبق، ومُمثّلها الدائم لدى الأُمم المتّحدة، ورئيس الجمعيّة العامّة للأُمم المتّحدة (سابقاً أيضاً)، أنّ “الشعب الأميركي فَقَدَ ثقته بالعَولَمة والتجارة الدوليّة التي بات يعتبرها سلبيّة، سواء بوجود الرئيس ترامب أم من دون وجوده”.

وكثيراً ما تطرَّق المُفكّر السنغافوري الكبير إلى الصراع التجاري الصيني – الأميركي قبل جائحة كورونا، ووَضعَ كُتباً في الموضوع عَينه، أشرنا إلى عناوين بعضها قبل قليل. وهو يرى، من ضمن ما يرى، أنّ الطبقات الحاكِمة في الولايات المتّحدة، سواء في الإدارة الحاليّة أم في الإدارات السابقة، تعتقد أنّ المُواجَهة مع الصين، هي بمثابة إعادة للحرب الباردة مع الاتّحاد السوفياتي السابق.. وأنّ المسألة لديها مسألة وقت، ستعمل خلالها واشنطن على التخلُّص التدريجي والقاطِع “من هذه الديكتاتوريّة الشيوعيّة الصينيّة المُتعجرِفة”.

ويسخر محبوباني من عبارة “عَودة الحرب الباردة” بمفعولها الرجعي، قائلاً إنّ الأمور باتت معكوسة تماماً الآن بين القطبَين العُظميَين، بحيث صارت الولايات المتّحدة هي القطب الإيديولوجي الرأسمالي الشامل في مقابل القطب الصيني البراغماتي وصاحب الذكاء الاستراتيجي المَرِن. ويقول بالحرف الواحد: “الولايات المتّحدة باتت تتصرّف اليوم مثل الاتّحاد السوفياتي، والصين تتصرّف مثل الولايات المتّحدة”.

وفي الوقت الذي تتّهم فيه الولايات المتّحدة الصين بـمُمارَسة “الغشّ التجاري”، وتدعو إلى فرْملة الاندفاعة التجاريّة الكاسحة للتنّين الصيني على القارّات كلّها، وتتهيّأ لتطويق الصين بحريّاً، بهذه الكيفيّة العسكريّة أو تلك، تتغافَل واشنطن عن “حقيقة مفادها أنّ الواردات الصينيّة الرخيصة عملت، وبشكلٍ فعّال، على تحسين نوعيّة حياة العُمّال الأميركيّين الذين ظلّت دخولهم المتوسّطة راكدة طوال أربعين عاماً”.

ويستشهد البروفسور محبوباني بتقريرٍ خاصّ بشركة الاستشارات البريطانيّة “أكسفورد إيكونوميكس” جاء فيه “إنّ شراء الواردات الصينيّة يوفِّر لكلّ أسرة أميركيّة نحو 850 دولاراً سنويّاً. ولأنّ 63 في المائة من الأسر الأميركيّة لا تدّخر حتّى 500 دولار لحالات الطوارىء، فإنّ هذا ليس مبلغاً ضئيلاً”.

ويرى محبوباني أنّ الولايات المتّحدة، أضحت، ومنذ سنوات عديدة، تتخبّط في سياساتٍ عشوائيّة وردود أفعال فوضويّة تجاه الصين الصاعدة. وباتت لا تمتلك خططاً استراتيجيّة مُتماسِكة لتطوير اقتصادها المُترنِّح، فتلجأ حيناً إلى التهديد بالاستعراضات العسكريّة في بحر الصين الجنوبي، وحيناً آخر إلى تحريض حلفائها الأوروبيّين وغير الأوروبيّين على بلاد كونفوشيوس، لكنّ مَصالِح الحُلفاء لم تنطبق دوماً مع مَصالِح القطب الأميركي الأكبر، وخصوصاً لجهة جريرة العلاقات الاقتصاديّة وتطويرها مع الصين؛ وجاء تفشّي كورونا ليُعزِّز أكثر من هذا التقارُب، وخصوصاً لدى دول مثل إيطاليا وإسبانيا وصربيا، حيث لم تَجِد في “الملمّات الكورونيّة” التي رزحت تحتها إلّا الصين صديقاً ومُنقِذاً تاريخيّاً لها.

وإذا كانت الولايات المتّحدة هي أقوى دولة عسكريّة في العالَم، حيث إنّ ميزانيّتها العسكريّة تُعادِل نصف الإنفاق العالَمي على الدفاع، غير أنّ هذا الأمر لم يعُد له أهميّة كبرى تُذكر، بحسب كيشور محبوباني الذي يتساءل: “ما مدى فائدة القواعد العسكريّة الأميركيّة التي تغطّي جغرافيّاً القارّات كلّها، ومعها أيضاً هذا العتاد العسكري الضخم المُتنقّل عبر البحار في عصر البرمجيّات والأسلحة البالستيّة الثابتة؟”. ويجيب هو نفسه: “إنّ حاملات الطائرات الأميركيّة التي قد تصل تكلفتها إلى 13 مليار دولار، يُمكن إغراقها بسهولة بواسطة صواريخ “دي. أف. 26″ الصينيّة، والتي لا يكلِّف الواحد منها، بضعة آلاف من الدولارات”.

ويرثي محبوباني لحال الولايات المتّحدة التي “استولت على الحُكم فيها طبقةٌ من الأغنياء المُتنفّذين قصيري النظر، فهُم لا يقرّرون ولا يتصرّفون إلّا بكلّ ما يطيح بهذا البلد الإمبراطوري شيئاً فشيئاً، في حين يظنّون أنفسهم – وهنا المُفارَقة – أنّهم المُنقذون التاريخيّون له من الغرق!!”.

صديق الحداثة والاقتصاد الحديث 

كيشور محبوباني مُنفتِحٌ جدّاً على الولايات المتّحدة والغرب عموماً، وانفتاحه، دائماً حرّ وسياديّ ومُستقلّ، وهو من أكثر الآسيويّين جاذبيّة معرفيّة لجامِعاتها الكبرى، ومن أكثر المُفكّرين الآسيويّين تقديراً لدى مفكّري أميركا وفلاسفتها وأكاديميّيها الخلّاقين.وعندما يُوجِّه محبوباني نقداً جذريّاً للسياسات الأميركيّة اليوم، فإنّما يدعو الولايات المتّحدة، في آخر المطاف، إلى أن تبقى دولة عالَميّة رائدة وحامِلة لقيَم مؤسّسيها الأوائل “وأكبر من أن تجرّها من رقبتها طبقة غنيّة معيّنة أو بضعة سياسيّين لا يفهمون التاريخ الأميركي نفسه، فكيف بالتاريخ السياسي والحضاري للأُمم الأخرى؟!”.

وفي غمرة الكلام في هذا المناخ الأميركي العامّ، ينبغي أن نلفت إلى أنّ البروفسور محبوباني هو عضو “الأكاديميّة الأميركيّة للفنون والعلوم”، وهي واحدة من أَقدَم الجمعيّات الأميركيّة وأعرقها، يعود تاريخ تأسيسها إلى زمن الثورة الأميركيّة التي قامت بين عامَي 1765 و1783، ومن المؤسّسين نذكر: جون آدمز وجون هانكوك وجيمس بودوين، وهُم من الذين أسهموا في إنشاء الدولة الأميركيّة الجديدة وحكومتها وقاموا بصوْغ دستورها وقوانينها الحرّة. 

وهكذا يُعدّ الانتساب إلى “الأكاديميّة الأميركيّة للفنون والعلوم” تشريفاً وتكريماً لصاحبه. وهو تشريف لا تحظى به إلّا قلّة قليلة مُبدِعة ولامِعة في هذا العالَم.. وكيشور محبوباني كان واحداً من هذه القلّة القليلة التي تشرَّفت بهم الجمعيّة نفسها بأن عَرضت عليهم الانتساب إليها، فقَبِلَه الرجلُ شاكراً، كيف لا والجمعيّة اليوم تتقاطع تماماً مع أفكاره الداعية إلى تحديث المُجتمعات وتنويرها وتكريس ما يسمّيه بـ “ثورة التعليم للجميع أينما كانوا ولأيّ أمّة انتموا”.. والدعوة إلى تعزيز سياسات البحث العِلمي في زمن انفجار الثورات العِلميّة ومنْع تأطيرها سياسيّاً.

مقطع القول، كيشور محبوباني صديق ثورة الحداثة الغربيّة منذ بزوغها الأنواري الأوّل على الأرض الفرنسيّة وحتّى اليوم. ولطالما تميَّز الرجل بدعوته إلى “حداثة اقتصاديّة” مُتجدّدة وخلّاقة في نظرتها لبناء الهياكل الدولتيّة للشعوب والمُجتمعات. وهو بناء ينبغي أن يظلّ مُتواصِلاً باقتصادٍ مُستقبلي عادِل، مَرِن وغير مُتكلّس. فالعالَم يزداد كثافةً سكّانيّة مُعقّدة، والضغوط تزداد بدَورها على الجنس البشري نفسه، وعلى الطبيعة نفسها.. و”كلّ ما علينا القيام به هو تنظيم علاقة السياسة بالاقتصاد.. والعكس صحيح أيضاً بطريقة خلّاقة، ودائماً في ضوء المُتغيّرات المُتسارِعة لحركة الإنسان والعالَم”.

الجدارة.. البراغماتيّة والمُحاكاة

أكثر من مرّة التقيتُ بالبروفسور كيشور محبوباني. مرّة يتيمة في بلاده الأنيقة الجميلة: سنغافورة ومرّة ثانية في أبو ظبي، حيث زار هذه المدينة العربيّة الجميلة والأنيقة في العام 2011 لإلقاء مُحاضَرة بعنوان “التكامُل بين الخدمة المدنيّة والتنمية الاقتصاديّة في سنغافورة”، بيَّن فيها عناصر نجاح سنغافورة، البلد النموذجي في جنوب شرق آسيا، والحاصل على الدرجة الأولى في مؤشّر جودة الحياة في القارّة الآسيويّة. ومن بين العناصر التي ذكرها، أوّلاً، الجدارة، أي اختيار العقول الأفضل والأكفأ في عمليّة بناء الدولة في الحقول كافّة. وثانياً البراغماتيّة والمُحاكاة، أي قراءة أفضل ما لدى الدول الأخرى من تجارب ونقْلها إلى سنغافورة. ومن هنا كان، مثلاً، اللّجوء إلى اليابان ونقْل تجربتها في مجال التعليم، وقد نجحت التجربة بشكلٍ مُذهل، وغدونا أمام نظامٍ تعليمي سنغافوري متطوّر جدّاً، بات لا يتجاوز نظيره الياباني فقط، وإنّما نظيره النرويجي الذي يحتلّ المَرتبة الأولى عالَميّاً. وفي هذا الإطار يقول البروفسور محبوباني إنّ أهمّ عنصر من عناصر الورشة التعليميّة في سنغافورة، هو جعْل التعليم مِهنةً من الدرجة الأولى، ودفْع رواتب مُرتفعة جدّاً للمُعلّمين، لأنّهم هُم الأساس، وهُم البداية والنهاية في نهضة الدول وتطوّرها.

وأشار محبوباني إلى أنّ بلاده استثمرت في التعليم أكثر من أيّ قطاعٍ تنمويّ آخر.

وبخصوص القطاع الصحّي أشار محبوباني إلى أنّ بلاده حقَّقت مُعجزة على هذا الصعيد، و”أنّنا اليوم أفضل مَن يقدِّم خدماتٍ طبيّة في العالَم”، وقد خصَّصت الدولة السنغافوريّة 4 % من ناتِجها الإجمالي المحلّي للإنفاق على الرعاية الصحيّة وخدماتها المُتشعّبة.

ومن دواعي نجاح التجربة السنغافوريّة في بِناء دولة عصريّة رياديّة، تملك الآن تاسع أعلى احتياطي مالي في العالَم، اعتماد هذه البلاد على نِظامٍ اقتصادي حرّ تندمج فيه عدالة اجتماعيّة “متطرّفة”، حتّى لَيحار المرء الذي يزور سنغافورة، أهو في بلدٍ رأسمالي أم في بلدٍ اشتراكي؟.. ويُعلِّق البروفيسور محبوباني: “سنغافورة أكبر دولة رأسماليّة في العالَم، وأيّ استثمار أجنبي ترفضه دولٌ أخرى، تُرحِّب به سنغافورة. ولأنّ اقتصادها أصبح ناجحاً، بل وراسِخاً في نجاحه، باتت سنغافورة كذلك جنّة الاشتراكيّة، وبات 70 % من السنغافوريّين يمتلكون بيوتاً مريحة وصحيّة وأنيقة للغاية”.

*مؤسّسة الفكر العربي

قم بكتابة اول تعليق

أترك لنا تعليق

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


5 + 2 =