حسام الدّين صالح*
لم يعُد الخبر مجرّد محتوى مصنوع من طرف أداة، لأنّه هو نفسه أداة، وسيلة، شكلٌ من أشكال تصوّراتنا وتعبيراتنا عن أنفسنا وعن الحياة حولنا. في هذا السياق، يُعَدّ عالِم الاتّصال الكندي مارشال ماكلوهان مدخلاً جيّداً لعوالِم الارتباط بين الرسالة الإعلاميّة ومحتواها وبالتالي بين الإعلام وتأثيره على النّاس، حين يعطي ماكلوهان أهمّية أكبر للأداة، للشكل، للوسيلة باعتبارها هي الرسالة.
إنّ التعقيد، والتطوّر، والتسارع الذي بدأت تتّسم به الحياة جعل من الخبر أكبر من مَتن، أو نصّ ينتمي إلى الأشكال التحريريّة للصحافة. بدأ الخبر يتحوّل إلى شيء أوسع، أداة لا تنتمي إلى السرديّات فقط لنحصره في المتون والنصوص، ولا تنتمي فقط إلى الصورة كعلامة متضخّمة في القرن الحادي والعشرين، أصبح كخطاب يشمل كلّ الأشكال التعبيريّة. خطاب يتجاوز المُمارسة المهنيّة الصانعة للخبر إلى المُمارسة الاجتماعيّة المكوِّنة للفعل الاجتماعيّ.
أسئلة توجِّه الأخبار وأخرى تواجِهها
تعرّف النظرةُ الكلاسيكيّة الخبر دائماً كطارح للأسئلة الستّة ومجيبٍ عنها، أو على الأقلّ، كمجيبٍ عن بعضها ( ماذا، من، متى، أين، كيف، لماذا) إلّا أنّ الخبر لا يعبّر عن الوقائع التي تحدث في الواقع فقط، لكنّه يعبّر أيضا عنّا، عن منتجيه، موزّعيه، ومُستهلكيه. لم يعُد الخبر كأداة للاستفهام فقط، لقد صار أداة تشكيل أيضاً؛ وليس كأداة تشكيل لوعينا بما يدور حولنا كلّ يوم، ولكنّه أصبح يُسهِم أيضاً في تشكيل وعينا، وتشكيل مُمارستنا الاجتماعيّة. ولهذا نُتبعه بسؤال آخر ينضاف إلى الأسئلة الستّة التقليديّة وهو(هل) الذي يُستخدَم دائماً لا لمجرّد المعرفة ولكن لتأكيد المعرفة ولحسم التردّد.
وإن كانت طبيعة الخبر تقتضي احتواءه على الأسئلة الستّة، فإنّنا لا نستطيع أن نتجاهل السؤال بـ(هل) الذي يحوز على أهميّة كبرى عند المؤسّسات المُنتِجة للأخبار، لأنّه السؤال الذي يسبق البدء في العمليّة الإنتاجيّة للأخبار، فهو الذي يمهِّد لولادة الخبر أو لوفاته قبل أن يخرج للعلن. ومثلما تداوم المؤسّسات الإعلاميّة على التساؤل بـ(هل) لتقديم خدمة مُحترمة لمُستهلكي أخبارها، فإنّ المُستهلكين أنفسهم أصبحوا في حاجة ماسّة إلى طرْح السؤال نفسه على المؤسّسات الإعلاميّة المُنتِجة للأخبار.
هل هذا الخبر صحيح أم لا؟ هل يعبِّر عن واقعٍ حقيقيّ أم عن واقعٍ افتراضيّ كما في مقولات الفيلسوف الفرنسي جان بودريار التي اختبر بها زيف الخطابات الخبريّة لبعض الحروب حين افترض أنّها لم تقع على النحو الواقعي إلّا في وسائل الإعلام التي عرضتها كلعبة تلفزيونيّة لا يتسنّى تزجية وقتها إلّا بوجبة تسالي ومثلّجات وبطاطس مقرمشة؟
هل يغيّرنا الخبر للأحسن أو للأسوأ؟ هل يفيدنا؟ هل يجعلنا أكثر فائدة لغيرنا؟ هل يجعلنا أكثر متعة؟ هل…؟! (هل) تُستخدم للنفي ولطلب التصديق وللتمنّي، وكلّها استعمالات تليق بجودة الخبر، ولاسيّما مع سهولة انتشار الأخبار الزائفة.
في مؤسّسات المُمارَسة الصحافيّة نستخدم (هل) كثيراً قبل كِتابة أيّ خبر، أثناءه، وبعده. مثلما ظلّ يستخدمها قارئ الخبر مع أيّ وسيلة إعلاميّة تستعرض له معروضها الخبري الجدير بمُتابعته؛ لكن مع التطوّر الشكلي والتأثيري للخبر، ستتّسع مساحات (هل) أو من المرجوّ أن تتّسع لتشمل الأفراد الذين أصبحوا يشاركون في الإنتاج الجماعيّ للأخبار. التفكير الطويل بـ(هل) دفع قديماً إلى السطح بنظريّة ترتيب الأولويّات التي تتساءل دائماً إذا كان خبرٌ ما جديراً بالاهتمام على حساب خبر آخر.
التفكير الجديد بـ(هل) يدعو إلى تبنّي نظريّة في التحليل النقدي للخطاب الخبري، يكون قوامها مُساءلة الخطابات الخبريّة عن بنياتها التكوينيّة، البلاغيّة، والتواصليّة، إذا كانت تدفع المجتمع نحو التقدّم أم تدعوه إلى التقهقر، وإذا كانت خطاباتها الخبريّة تنمّ عن احترام هويّات المتلقّين وإنسانيّتهم وتحقيق شروط عدالتهم وعدالة قضاياهم أم لا؟! ولهذا فإنّ الأجدى لفائدة الخبر كشكلٍ تواصليّ، والأنفع لنا كمُتعاملين مع الخبر بشكلٍ يوميّ، أن نطرح باستمرار السؤال: كيف تعبّر عنّا الأخبار، وكيف تعيد تشكيلنا قبل تشكيل حياتنا.
اتّجاهات حديثة ومَتاعب جديدة
لم يعُد الخبر مرآة للواقع، ولا مرآة للاقتصاد السياسيّ فقط الذي تستند إليه وسائل الإعلام؛ لأنّ تطوّر وسائل الإعلام بفضل تقنيّات الاتّصال الحديثة وسَّع من سلطات المتلقّين، ليجعلهم يدخلون في مُنافسة مع وسائل الإعلام ومع اقتصادها السياسيّ الذي ظلّت تعتمد عليه.
ستضطرّنا التطوّرات التي طاولت علاقتنا بالتقنيّة وما أنتجته من سرعة ملحوظة، إلى معرفة التأثير الخبريّ على تفكيرنا المُعاصر. كيف كنّا نفكّر وكيف أصبحنا نفكّر. وكيف سوف يكون تفكيرنا لو واصلنا المسير بالأسلوب نفسه.
يصبح الخبر مع وسائل التواصل الاجتماعي نصّاً مفتوحاً، بمعنى أنّ أيّ قارئ خبر بإمكانه أن يتحوّل إلى كاتب خبر، الوضع هنا لا كمثل التّشارك في إنتاج النصّ الأدبي، لكنّ التشارُك في مسؤوليّة التأكّد من الخبر، فالخبر في مواقع التواصل الاجتماعي كفيسبوك وتويتر وواتساب يُعدّ في كثير من الأحيان لقيطاً لا وليداً. قد تتعدّد المَصادر عند الإنتاج الجماعي للأخبار، وهذا أمرٌ جيّد للتعبير عن وجهات النظر للحقائق، ولكن ما فائدة المصادر المتعدّدة حين يتعذّر اختبار مصداقيّتها؟!
تميل صناعة الأخبار في وسائط التواصل الاجتماعي إلى تداول شكلٍ خبريّ متحرّر من أيّ أُطرِ مُمارسة أو قواعد مِهنة. ويبدو أنّ انتشار هذا الشكل الخبري في طريقه لإنتاج نَوعٍ من التفكير المرتبط به. تفكير خبري يُمكن نسبته إلى الأخبار لانشغاله بها وانشغاله بالسرعة التي يتطلّبها الخبر لكنّه يفتقر إلى المِهنيّة التي تجعل منه تفكيراً إيجابيّاً داعِماً للحقائق والتعبير عنها.
إنّ اتّساع مَوجة المُشارَكة الجماعيّة في إنتاج الأخبار يرفع درجة التعرّض بصورة أكبر لخطورة الاجتزاء؛ فلكلّ خبر محدوديّة في الوقت والحيّز تضطرّ صانعه لاجتزائه من واقعه، واجتزائه لتقديمه للآخرين، قد يكون المهووس خبريّاً من غير المُحترفين أقلّ عمقاً نظراً لمحفِّز الاجتزاء الذي صار يتعرّض له باستمرار لنقل الوقائع، فالخبر لا ينقل الوقائع كما هي في الواقع، فلا مفرّ من تمثيلها، تأطيرها. هذا كلّه يغيِّب العمق عن المهووس بالخبر، ويدفعه إلى مُجانَبة التفكير التحليلي المُعتمد على التأنّي والعمق والشمول. إدمان الأخبار لغَير طالبها وإدمان الإخبار لغَير المتخصّص فيه لن يعجِّل بتعطيل ملكة التفكير التحليلي والناقد لديهم فحسب، بل يقود إلى تسطيحٍ عامّ في مجال الوصول إلى الوعي والمَعارف والحقائق.
الاندفاع نحو مشاركة الأخبار يربّي على التعجّل مرتبطاً بعوامل أخرى محفّزة، لعلّ أهمّها وأكثرها تأثيراً هو قلّة تكلفة الخبر في الوسائط الحديثة، وخصوصاً الإنترنت، وقد تصل التكلفة إلى حدود صفريّة فيصبح الخبر مجانيّاً، ومُغرياً لاستهلاكه أكثر من غيره. مع تطوّر الإنترنت وانتشاره يصبح الاطّلاع على الخبر مجانيّاً لكنّه يكلّف ثمناً غالياً في تحرّي الدقّة والموثوقيّة؛ ولربّما قاد هذا إلى منحى جيّد مستقبلاً، فإمّا أن يتطوّر المواطنون الصحافيّون إلى درجات أقرب إلى الصحافييّن المُحترفين أو أنّ الطريق سيقودنا إلى حياة أكثر قلقاً وشكّاً في المصادر والمحتويات والاتّجاهات. وربّما يولِّد ذلك كلّه حرصاً على المصداقيّة التي تظلّ مطلباً مهمّاً ولو استدعى الحصول عليها إنفاق الغالي من الأموال والثمين من الأوقات، لأنّ مُتابعة أخبار مزيّفة سوف تزيد من هول الزّيف الذي يشعر به كثيرون تجاه حياتهم أو حيوات غيرهم.
قد يساعدنا الاهتمام الجماعي المتزايد بالأخبار على الاهتمام أكثر بالأولويّات وترتيبها بافتراض قراءة الخبر كشكلٍ من أشكال الوعي بالمُهمّ العاجل، إلّا أنّ ذلك يتطلّب مُساءلة دائمة لأجندة الأخبار وارتباطها بمَصالحنا، وبما إذا كانت تُعبِّر عن أولويّاتنا أو أولويّات غيرنا.
*كاتب وصحافي من السودان
قم بكتابة اول تعليق