يحتلّ د.علي بن مخلوف مكانةً مرموقة في فرنسا. فهو أستاذ الفلسفة العربيّة في جامعة كريتيه (Créteil) الواقعة في المنطقة الشرقيّة من باريس. كما أنّه أستاذ في معهد العلوم السياسيّة في باريس وأستاذ في الجامعة الحرّة في بروكسيل. وهو ليس مُختصّاً بالفلسفة العربيّة التي يحبّها حبّاً جمّاً نظراً لأصوله المغربيّة الفاسيّة فحسب، وإنّما هو مختصّ أيضاً بفلسفة المنطق على الطريقة الأنغلوساكسونيّة.
د.علي بن مخلوف متبحّر في فلسفة العمالقة من أمثال ألفريد فريج، وبرتراند رسل، وغوتلوب وايتهيد. هكذا نجد أنّ هذا الباحث المولود في مدينة فاس العريقة في العام 1959 قد جمعَ المجد من طرفَيه أو جميع أطرافه دفعة واحدة. علاوة على ذلك فهو يشكِّل جسراً بين العالَم العربي وفرنسا من خلال الندوات والمؤتمرات التي ينظّمها وينسّقها بين المعهد العالَمي للفلسفة في باريس ومؤسّسة الملك عبد العزيز آل سعود للعلوم الإنسانيّة والدراسات الإسلاميّة الواقعة في الدار البيضاء والمُطلّة إطلالة رائعة على البحر المحيط.. هذه المهامّ والمسؤوليّات كلّها يشغلها د. علي بن مخلوف دفعةً واحدة. ولكنّ الشيء الذي يهمّنا هنا هو كِتابه الصادر تحت عنوان: “لماذا ينبغي علينا أن نقرأ فلاسفة العرب اليوم؟ الإرث المَنسيّ للعرب”، الصادر عن دار ألبان ميشال الشهيرة.
السؤال بحدّ ذاته يريد تبرير العودة إلى فلاسفة العرب والمُسلمين كالكندي والفارابي وابن سينا وابن باجة وابن الطفيل وابن رشد…إلخ. لماذا الحاجة الى مثل هذا التبرير؟ لأنّه تفصل بيننا وبينهم مسافة ألف سنة أو ثمانمائة سنة على أقلّ تقدير. ولأنّ الفلسفة الديكارتيّة تَجاوزتهم بدءاً من القرن السابع عشر، عندما دشَّنت الثورة الفلسفيّة الحديثة وتجاوزت فلسفة العصور الوسطى التي كانت خادمةً للّاهوت الديني.
نلاحظ منذ البداية أنّ علي بن مخلوف يطرح السؤال التالي: لماذا ينبغي أن نقرأ فلاسفة العرب اليوم؟ وكيف؟ المقصود كيف نقرؤهم في ضوء فلسفة حقوق الإنسان وقيَم الحداثة الكونيّة الحاليّة هُم الذين ينتمون إلى عالَم القرون الوسطى السابقة على الحداثة؟ والجواب هو التالي: إنّ هذا الكِتاب يهدف إلى البرهنة على أنّ الفلسفة العربيّة التي ازدهرت بين القرنَين الثامن والخامس عشر للميلاد، أي طيلة سبعة قرون، تشكِّل جزءاً لا يتجزّأ من التراث الفكري للبشريّة. إنّها أحد كنوزه الأساسيّة. ينبغي العِلم بأنّ أفكار الفلسفة العربيّة وأطروحاتها ذابت في التراث البشري للغرب وانصهرت فيه إلى درجة أنّ الناس نسوا أنّها عربيّة! لقد أصبحت ملكاً مشاعاً للجميع كعادةِ كلّ الأفكار التي تنتصر. والدليل على ذلك أنّ التفريق بين الجوهر/ والوجود الذي غذّى كلّ الفلسفة الأوروبيّة في القرنَين السابع عشر والثامن عشر يعود أصله إلى الفيلسوف المُسلم الكبير الذي عاش في القرن الحادي عشر: ابن سينا. وبالتالي فهو أستاذ الغرب، فضلاً عن الفارابي وابن رشد. ينبغي العِلم بأنّ الفلسفة العربيّة، كالفلسفة الصينيّة، وكالفلسفة الهنديّة وسواهما، تُجسِّد إحدى الطرق الموصلة إلى الحقيقة. فالحقيقة واحدة بالنسبة إلى البشريّة ولكنّ الطُّرق الموصلة إليها متعدّدة. فهناك الطريق العربيّة والطريق الأوروبيّة والطريق الصينيّة…إلخ.
ويرى المؤلِّف أنّ الفلسفة العربيّة شهدت في القرون الوسطى ازدهاراً غير مسبوق. ويُمكن القول إنّ الفلسفة وُلدت مرّتَين في الإسلام: المرّة الأولى على هَيئة عِلم ديني مُبتكر وأصيل هو عِلم الكلام المُعتزلي. والمرّة الثانية على هيئة تيّار إبداعي يتغذّى أساساً من المَصادر الإغريقيّة لفلسفة أفلاطون وأرسطو. وهذا التيّار الثاني هو المدعوّ بالفلسفة. وهي كلمة مُستعارَة حرفيّاً من اللّغة الإغريقيّة. والشيء المُدهش الذي يدعو إلى الإعجاب هو أنّ الفلسفة العربيّة لم تبحث عن حماية رجال الدّين والفقهاء وإنّما قدَّمت نفسها مباشرةً كوريثة للفلسفة الإغريقيّة. هذا لا يعني بالطبع أنّها لم تبحث عن مسوّغ لها في الدّين أو في الشريعة. ولكنّه يعني أنّها حاولت التفريق بين الدّين ورجال الدّين أو بين الدّين والفقه. ولهذا السبب نجد فلاسفة العرب يستشهدون كثيراً بالقرآن والآيات القرآنيّة ولكنّهم يبتعدون عن الفقه والتركيبات اللّاهوتيّة الإسلاميّة وأقوال المشائخ. ثمّة استثناء وحيد هو الغزالي الذي فضَّل الابتعاد عن التراث الفلسفي الإغريقي والانصهار كليّاً في اللّاهوت الإسلامي والغيبيّات الدينيّة. ولهذا السبب ألَّف كِتابه المشهور “تهافُت الفلاسفة”. وقد ردَّ عليه ابن رشد بعد سبعين سنة أو أكثر بكِتابٍ مُضادّ لا يقلّ شهرة إن لم يزد هو “تهافُت التهافُت”! هذا من جهة. أمّا من جهة أخرى، فينبغي العِلم أنّ الشغل الشاغل لفلاسفة العرب هو إقامة المُصالَحة بين الشريعة من جهة، والفلسفة الوثنيّة لأفلاطون وأرسطو من جهة أخرى. وقد هاجمهم الفقهاء لهذا السبب بالذّات. ففي رأيهم أنّه لا ينبغي الأخذ عن الوثنيّين بأيّ شكلٍ حتّى ولو كانوا في حجم أفلاطون وأرسطو. فهؤلاء يظلّون “كفّاراً” في نظر المشائخ، على الرّغم من عبقريّتهم الكبرى. ولكنّ الفيلسوف العربي الأوّل الكندي تصدّى لهم بقوّة عندما قال: ” ينبغي أن نأخذ الحقيقة حيث وجدناها حتّى وإن أتت من الأجناس القاصية عنّا والأُمم المُبايِنة لنا”..
ولكنْ هنا يَطرح سؤالٌ نفسَه: لماذا كان فلاسفة العرب يَستخدمون مُصطلح الحِكمة أكثر من مُصطلح الفلسفة؟ لسببٍ بسيط هو أنّ كلمة فلسفة على الرّغم من أنّها تعني حُبّ الحكمة، إلّا أنّها دخيلة على اللّغة العربيّة، على عكس كلمة حِكمة. يُضاف إلى ذلك أنّ كلمة حِكمة مُشتقَّة من حكيم وكلمة حكيم هي إحدى أسماء الله الحسنى التاسعة والتسعين. هكذا تلاحظون أنّ فلاسفة العرب كانوا مضطرّين لأخْذ كلّ الاحتياطات المُمكِنة خوفاً من نَعتهم بالكفّار من طرف الفقهاء وشيوخ الظلام. وهو مَوقف المثقّفين العرب ذاته اليوم. نحن أيضاً نُحاول الدفاع عن أنفسنا ضدّ تهمة الكفر والزندقة والترويج للغزو الفكري للغرب. نلاحظ بهذا الصدد أنّ هجوم الكندي على شيوخ عصره لا يختلف في شيء عن هجوم المثقّف التنويري العربي حاليّاً على شيوخ الفضائيّات الذين أصبحوا يلعبون بملايين الدولارات بفضل المُتاجَرة بالدّين.
الفلسفة العربيّة في مرآة إرنست رينان
بعد ذلك كلّه يقول لنا إرنست رينان إنّ الفلسفة العربيّة لم تُبدع أيّ شيء جديد وإنّما كانت عبارة عن نسخة باهتة عن الفلسفة اليونانيّة! وكلّ ميزتها في رأيه تكمن في نقل فكر أرسطو إلى أوروبا إبّان العصور الوسطى. لقد كان العرب مجرّد وعاء ناقلٍ للفكر من اليونان إلى أوروبا، كما أنّهم الآن مجرّد وعاء ناقل للبترول! ثمّ إنّه يتّهم الفلسفة العربيّة بأنّها ظلّت تابعة لعِلم اللّاهوت الديني والفقهي الإسلامي ولم تُبدع شيئاً جديداً. ولكنّ علي بن مخلوف غير مُوافق إطلاقاً على رأي إرنست رينان هذا. فهو يعتقد أنّ الفلسفة العربيّة خلقت نموذجاً معرفيّاً جديداً لا يُمكن اختزاله إلى النموذج الإغريقي. فالعرب لم يُترجموا فلسفة الإغريق فقط وينقلوها إلى الغرب، وإنّما أبدعوا فكراً وعِلماً وفلسفةً خاصّة بهم وبلُغتهم العربيّة. ويرى المؤلِّف أنّ رينان في كِتابه الشهير “ابن رشد والفلسفة الرشديّة”، وكذلك في مُراسلاته مع جمال الدّين الأفغاني مسؤولٌ عن شيوع مثل هذه الكليشيه الازدرائيّة عن العرب والفكر العربي. فهو يقول مثلاً: ” لا يوجد شيء يُمكن أن نتعلّمه من ابن رشد ولا من العرب ولا من القرون الوسطى كلّها”. هذا في حين أنّ أحد كِبار مفكّري فرنسا حاليّاً آلان دو ليبيرا يقول إنّ ابن رشد هو ” الأبّ الروحي والفكري لأوروبا” تماماً مثلما أنّ إيراسموس هو أمير عصر النهضة.
لكنْ ينبغي الاعتراف بأنّ رينان تراجَع لاحقاً عن ازدرائه لابن رشد واعترف له بالفضل والعبقريّة. بل راحَ يستخدمه أو يَستخدم فكره في مَعركته الكبرى ضدّ الأصوليّة. ولكنّ رينان يأسف لأنّ البلدان الإسلاميّة لم تستمع إلى رسالة ابن رشد وإنّما حاربته وحرقت كُتبه. وبعد موت ابن رشد في العام 1198، انطفأ الفكر الفلسفي في أرض الإسلام لمدّة ستّة قرون. ولم يظهر مجدّداً إلّا في القرن الثامن عشر على يد نابليون بونابرت وحملته الشهيرة على مصر.
يبدو بحسب رينان أنّ ابن رشد خسرَ المعركة ضدّ الفقهاء ورجال الدّين منذ لحظة موته وفقدَ كلّ تأثير له في العالَم الإسلامي. لكنّ د. علي بن مخلوف يُناقض رينان قائلاً: ” نفهم من كلامه أنّ هناك تناقضُاً بين النصّ الديني القرآني والرسالة الفلسفيّة لابن رشد. ولكنّ هذا خطأ شنيع. فابن رشد كان يعتمد على القرآن وآياته بغية تبرير الاشتغال بالفلسفة. وكان يعتبر مضمون هذه الآيات عقلانيّاً ويدفعنا دفعاً إلى النّظر في الكَون وظواهره ومُحاولة فهم أسراره. وبالتالي فابن رشد كان من أكبر الدّاعين إلى التوفيق بين العقل والإيمان أو الدّين والفلسفة لا إلى إحداث التناقُض بينهما”.
لكن ينبغي الاعتراف بأنّ ابن رشد ظلّ لاهوتيّاً في أعماقه، إذ كان فقيهاً أيضاً وليس فيلسوفاً فقط. بل كان أيضاً قاضي القُضاة في قرطبة مثل جدّه. ولذلك يُقال: ابن رشد الجدّ وابن رشد الحفيد. وهذا كلّه ينبغي أن نأخذه بعَين الاعتبار عندما نريد تقييم مكانة ابن رشد بشكلٍ موضوعي. فهو يظلّ محكوماً بسقف القرون الوسطى ذات التديّن التكفيري الظلامي ولم يستطع تجاوزها على الإطلاق، على الرّغم من كلّ عبقريّته. ينبغي أن نموضعه ضمن عصره وإمكانيّات عصره لا أن نسقط عليه أفكار عصرنا كما يفعل كثيرٌ من المثقّفين العرب المُحدثين بنوع من الديماغوجيّة والجهل وسوء الفهم. فقد اتّخذوه رمزاً أعلى على التسامح والتحرّر الفكري والتحلّل من الانغلاقات الدينيّة. وهذا عَين الخطأ. المعرّي أفضل منه بألف مرّة من هذه الناحية. المعرّي كان مُتحرّراً حقّاً من التعصّب الديني والانغلاق اللّاهوتي الدوغمائي وليس ابن رشد!
ولذلك نقول إنّ ابن رشد كان تنويريّاً حقّاً بالنسبة إلى مشائخ عصره والعصور الوسطى الإسلاميّة ولكنْ ليس بالنسبة إلى عصرنا. لقد تجاوزته فلسفة الأنوار بسنوات ضوئيّة بدءاً من ديكارت وسبينوزا وكانط وعشرات غيرهم.
أفق – د.هاشم صالح/ كاتِب ومترجِم من سوريا مُقيم في المغرب
قم بكتابة اول تعليق