أفق – د. غسّان مراد*
ما زالت علوم اللّغة في حيرة من أمرها؛ كيف لها أن تُعالِج نصّاً من الناحية الصرفيّة والنحويّة والدلاليّة، تفسيراً وتحليلاً، ومن ناحية اللّسانيّات النصيّة ولسانيّات المدوّنات، وهو – أي النصّ – لم يعُد “نصّاً” بالمفهوم الكلاسيكي للنصّ، المؤلَّف من مُفردات وجُمل وتراكيب، مُجملها ألفبائيّة، بل من إشارات وعلاقات وشاشات وأجزاء متشعّبة شكلاً وتشكيلاً؟
ترتكز الكتابة الإلكترونيّة على مفهوم التشعّبيّة، وتعمل، تشبيهاً، كما يعمل الدماغ البشري، من خلال ترابُط الأفكار. إنَّ هذا التشبيه من المُمكن أن يكون تشبيهاً طبيعيّاً لفهْم المعلومات. ويبدو أنَّ الفكرة الشائعة حاليّاً أنّ الدماغ البشري لا يتعاطى مع النصّ المطبوع كما يتعاطى مع النصّ الرقمي، ولكن حتّى الآن، تُبرهن الأبحاث التي تعمل على دراسة كيفيّة تمثيل العقل البشري للوثائق الرقميّة على أنَّ هذه العمليّة ما زالت صعبة، وأنَّ العقل البشري لا يفهم الوثائق الرقميّة بسهولة، كما يُقال حاليّاً.
لذا، فإنّ السؤال عن كيفيّة تصميم النصوص الرقميّة الصالِحة للاستعمال أمرٌ مهمّ جدّاً، ويطرح أسئلة حول استخدام هذه الوثائق؛ فمثلما لا يُمكن كتابة نصّ بشكلٍ مُرتجَل، فإنَّ تصميم الوثيقة الرقميّة له قواعد خاصّة ترتبط بطبيعة الوسيط وبنَوع النصّ الَّذي سنعرضه أو ننشره. ومن أبرز المُشكلات الموجودة حاليّاً في عالَم الكِتابة النصّيّة، هي أنّها تقتصر على هَيْكَلة النصوص المُنتَجة سابقاً.
وقد بدأ العنصر البشري يأخذ تدريجاً حيّزاً في تصميم الوثائق الرقميّة، من خلال “بيئة العمل الإدراكيّة”، وهدفه تسهيل العمليّة المَعرفيّة لخزن المعلومات ومُعالَجتها. فالوثائق الرقميّة، كما أيّ كتابة، لا تُنتَج من قبيل المصادفة، بل لها هدف، وتأتي في سياق نشاطٍ معيّن (تعليم، تواصل، ترفيه، عمل…). من هنا، يُمكننا القول إنّ بيئة العمل المَعرفيّة هي لتحديد مَوقع هذا التفاعُل في سياق تصميم التطبيقات وتطوّرها لإنتاج الوثائق ووضْع معايير وقيود لاستخدامها.
وتحدَّد بيئة العمل الإدراكيّة، أوّلاً، بالمعلومات الآتية من الخارج المُتمثِّلة بالإدراك الحسّي على أنواعه، وبتحليل المعلومات الذي يرتكز على المَعرفة المُدركة من الذاكرة الآنيّة، ثمّ على ما هو في الذاكرة الآنيّة وفي الذاكرة العميقة، للاعتماد على مَعرفة مسبقة، وأخيراً على التمثيل المَعرفي للمعلومات في الدماغ البشري كصور ذهنيّة.
وهنا تكمن أهميّة العلامات الأيقونيّة التي تساعد المُستخدِم على تمثيل المَعرفة ومُعالجتها. لهذا، فهناك دَورٌ للتجزئة ولتنظيم الهَيكل النصّي في عمليّة الفهم والتذكّر. فالكتابة اليوم، حتّى باستخدام الحاسوب، ما زالت مُرتكِزة على اعتبارات تجريبيّة مُكتسَبة من ثقافة المطبوع من دون أخذ ثقافة الشاشة بالاعتبار.
كما أنَّ ما تقدّمه بَرامج الكتابة الإلكترونيّة للنصوص التي تُنشر على الإنترنت، هي بصيغة موسمة (Tag’s)، لا يراه المُستخدِم مباشرةً، (المُستخدِم يرى التمثيل للنصّ على الشاشة)، بشكلٍ يستطيع استغلاله لإضافة دلالات على نصّه جرّاء هذه الميزات التي تقدّمها تطبيقات الكتابة. فضلاً عن ذلك، فإنَّ الأبحاث والتجارب التي تتعلّق بالوثائق الرقميّة ما زالت غير ثابتة، إن كان لناحية عِلم النَّفس الإدراكي أو علوم اللّغة والعلوم الجينيّة والدماغيّة.. وتأثيرها في الأدوات ما زال مُشتَّتاً. فالنصيّة هنا هي مَسارات القارئ المُحتمَلة، وهي ترتكز على الاستمراريّة، والوسيط، والكاتِب، وسياق التنفيذ تقنيّاً، كما وسياق التلقّي تقنيّاً.
أمّا المعلومات المُتاحة في النصّ، كما هيكل النصّ، فلهما دَور يؤثِّر في التمثيل – التصوّر – الذي يبنيه القارئ للنصّ. هذا التمثيل المتأثِّر بمضمون الوثيقة وشكلها مَبنيّ على وسيط ثالث لم يكُن مأخوذاً بالاعتبار في الدراسات والأبحاث السابقة، على الرّغم من أنّ تحليل بعض الأشكال النصيّة كانت تعطي الشكل أهميّة في عمليّة التحليل (كدليل المُستخدِم أو وصفات الطبخ وغيرها)، ولكنّ هذا التحليل لم يتعدَّ البُعد المفرداتي والنحوي والدلالي لأجزاء النصّ، وتبقى كتلة نصيّة في الحيِّز التشكّلي – الطباعي نفسه.
في الكتابة الورقيّة، يجب أن تكون القراءة من البداية حتّى النهاية. أمّا القراءة الإلكترونيّة فهي مجزَّأة، والتجزئة، كما أصبح معروفاً، ليست “للزينة”، وهي تُعدّ حاليّاً من أهمّ العناصر التي من المُفترض الاهتمام بها، لأنّها تشكِّل الروابط مع النصوص الأخرى، وهذه الروابط (العقد الدلاليّة) لا يُمكن أن تكون عشوائيّة، بل يضعها الكاتِب ليدلّ بها القارئ – المُتصفِّح على مختلف المسارات النصيّة المُحتمَلة لبناء معنىً نصّي.
من ناحية ثانية، إنَّ المُشاركين في عمليّة الكتابة التفاعليّة لا يتشاطرون السياقات الإنتاجيّة زمناً ومكاناً، ولا حتّى اجتماعيّاً أو أكاديميّاً أو حتّى لجهة المستويات المعرفيّة المُكتسبَة لكلّ مُنتَج مُتفاعِل… فالحديث عن النصّ الرقمي يدفعنا إلى تخطّي العمل على النصّ فقط، من خلال العبارات التي تشكّله، بل يتعدّى ذلك إلى وضْع تصميم للنصّ، آخذين في الاعتبار البيئة الرقميّة للعبارات بشكلها المُتكامِل من أجل مُلاحظتها ومُراقبتها للتحليل الدلالي، ومن ثمّة لدراسة النصوص الرقميّة؛ فإنَّ فهْم خصوصيّة السياق الرقمي (الويب والإنترنت) لا يكمن في أنّها مجرّد وسيط ناقل للكتابة فقط، ولكن لكونها أيضاً بيئة رقميّة تكوِّن هيكليّة الكِتابات بشكلٍ محدَّد.
ضرورة البحث عن علوم لغويّة ألسنيّة جديدة
تُسهم الأدوات التقنيّة إذن في استحداث المعنى وبنائه. فالمُعالجة النصيّة الرقميّة تُعالج هنا في نظامٍ مركَّب من “كتل” عدّة يشكّل النصّ الألفبائي جزءاً منها. وإذا كان للتقنيّات الرقميّة تأثيرٌ في عمليّة إنتاج العبارات النصيّة، وإذا كانت هذه التقنيّات محرِّكاً لتفاعلاتنا خلال استكشاف المعنى وبنائه، فإنّ ذلك كلّه سوف يؤدّي بالتالي إلى تغيُّر في وحدات المُراقَبة والتحليل.
استطراداً، لم تعُد القدرات اللّغويّة هي الوحيدة كمَركزٍ للتحكُّم المَعرفي، ولكنّنا نشهد تعدُّد “أدوات” المَعرفة في مَوارد البيئة الرقميّة. فالتغيّرات التي نجمت عن التقنيّات ليست سطحيّة، ولكنّها أثّرت في عمليّة الإدراك، والتفكير، والتذكّر، والتحليل، والتفاعُل؛ هذه الأدوات التقنيّة، التي يَعتبرها البعض عامِلاً نفسيّاً في نموذج الإدراك المتنوّع، ومدعَّمة بإمكانيّات مختلفة، تؤثِّر في بناء الخطاب. لذلك، يُمكننا القول إنَّ العوامل الخارجيّة للفكر البشري أصبحت مدعَّمة أو معزَّزة بأدوات خارجيّة. فالوعي حاليّاً يتجاوز أذهاننا، ونحن نفكّر في “عقول” خارجة عن نطاق جسدنا، ومع عناصر غير بشريّة.
إذاً، إنَّ العمل على النصوص الرقميّة ينبغي له أن يتخطّى الحاجز اللّغوي، فالمُلاحظ في التحليل أنّه لم يعُد مقتصراً على اللّغة والمجتمع والثقافة فحسب، بل على التكنولوجيا أيضاً. لهذا، فإنّنا نتحدّث عن تكنولوجيا نصيّة. فالأيقونيّة على واجهة الحاسوب باتت تشكِّل جزءاً من الخطاب؛ ومن ذلك على سبيل المثال، أنّ النقر على زرٍّ معيّن لتحديد أمرٍ ما هو وحدة نصيّة وتقنيّة. لذا، أصبحت الأدوات اللّغويّة والتقنيّة مُتداخِلة في مرحلة بناء النصّ، ولا يتمّ ذلك إلّا بتعاون هذه الأشكال المُختلفة من التعبير المفرداتي – النصيّ والأيقونيّ.
وإذا ما أردنا تحليل النصّ وتفسيره لفهمه حاليّاً، علينا الاعتماد على أدواتٍ تُعالِج النموذج اللّاخطّي للمُتغيّر النصّي الذي يُعتبر من أهمّ خصائص التكنولوجيا النصيّة للنصوص الرقميّة على أنواعها، فمنها ما هو صورة للورقي تأتي على نسق “بي دي أف” (PDF)، أو صورة لنصٍّ ما، ومنها ما هو محرَّر باستخدام تطبيقات الكتابة، من مثل “وورد” (Word)، ومنها النصوص المحرّرة للشبكة باستخدام الـ”أتش تي أم أل” (HTML) و”أكس أم أل” (XML) أو غيرها من لغات توصيف الوثائق المُعتمَدة، التي هي بالتالي معايير لأبرز الأنواع النصيّة المُترابِطة، والتي تتطلّب رؤية خاصّة لمُعالجتها. فلكلّ نَوع من هذه الأنواع خصائص معيّنة تختلف عن الأخرى، شكلاً وتصفّحاً وبُعداً دلاليّاً، ولكنّها في نهاية المطاف من المُمكن أن تكون مُتداخِلة في ما بينها.
هذه التصنيفات تؤدّي إلى التفتيش عن أدوات لفهْم السِّمات اللّغويّة والخطابيّة الصادرة في السياق الرقمي الحالي، أي تداخُل المَناهج المُعتمَدة في تحليل النصوص، كالمنهج التحليلي والمنهج الوصفي، والمنهج السيمائي، والإحصائي…
آخيراً، السؤال يبقى مفتوحاً: ما هي الألسُنة اللّغويّة التي سنعتمد فهمها وتفسيرها لتحليل النصوص الرقميّة؟ فقد تطوَّرت الدراسات الألسُنيّة ونظريّاتها، من الألسُنيّة للكلمة إلى الألسُنيّة للجملة، ثمّ إلى الألسُنيّة النصيّة وألسُنة المدوّنات، والآن من المُفترض البحث عن علوم لغويّة ألسُنيّة جديدة تُعالِج وتحلِّل النصوص الرقميّة المتشعِّبة، المُترابِطة والمُتشظيّة.
*أستاذ الألسنيّة المعلوماتيّة والإعلام الرقمي- الجامعة اللّبنانيّة
قم بكتابة اول تعليق