أفق – د. بسّام بركة
آذنت وفاة النبيّ محمّد (ص) بانطلاق مَوجاتٍ عدّة من الفتوحات والهجرات. فاندفع المُسلمون إلى النواحي المُجاوِرة في حملاتٍ عسكريّة دينيّة وحضاريّة وثقافيّة. وفي بضع سنين أقاموا دولة امتدَّت من جبال البرانس غرباً إلى نهر السند (الهندوس) شرقاً. ولم يكُن تأثير أولئك الفاتحين في المناطق التي دخلوها محصوراً في المجال الروحيّ أو السياسيّ أو الإداريّ، بل تَجاوزه خصوصاً إلى المجال اللّغويّ.
من المعروف أنّ العلاقات الجديدة التي أقامتها العربيّة مع اللّغات المُستعمَلة قبل ذلك في تلك المناطق، قد اقترنَت بالسلطة الإداريّة والسياسيّة والفكريّة، وهي سلطة كانت في أيدي العرب لقرونٍ عدّة. وهذا ما أدّى إلى اتّصالات كانت لها نتائج لسانيّة ما زالت آثارها جليّة حتّى اليوم، سواء في اللّغات المحليّة أم في اللّغات المُستعمَلة في البلدان المُتاخِمة لبلاد الإسلام. وإذا نظرنا إلى اللّغات المُستعمَلة اليوم في تلك البلدان، ولاسيّما في أوروبا، لرأينا أنّها لا تزال تحتفظ بذلك التأثير إلى اليوم، وخصوصاً في المفردات المتعلّقة بالحياة اليوميّة. والواقع أنّ تلك العمليّة لم تنقطع قطّ، ولم تكفّ اللّغات الأوروبيّة، ولاسيّما لغات ضفَّتَي البحر الأبيض المتوسّط، عن التأثُّر باللّغة العربيّة، وكذلك التأثير فيها.
نكتفي للتدليل على ذلك بقائمة استخرجناها، أنا وهنريّيت والتر، من عددٍ من المَصادر الموثوق منها، ونشرناها في عَملنا المُشترَك: “أرابسك.. مُغامَرة اللّسان العربيّ في الغرب”(عن منشورات روبير لافون ومنشورات الزمان، باريس، 2006). والدراسة التي سنعرضها هنا خلاصة تحليلات عدّة للأماكن الجغرافيّة التي مرّت بها مفردات تلك القائمة أو انطلقت منها. وسنجتهد بالتالي في تعيين المَسالِك الجغرافيّة اللّغويّة التي سلكَتها الألفاظ التي استعارتها تلك اللّغات من العربيّة.
مَسالِك الاتّصال بين العرب والمُدن الأوروبيّة متعدّدة، إلّا أنّ أهمّها جزر أو أشباه جزر، وكلّها تقع على شواطئ البحر الأبيض المتوسّط، أي جنوبي أوروبا. وهي كما لا يخفى الأندلس، وأيضاً مالطا، وصقليّة.
الأندلس
الأندلس هي المنطقة الأوروبيّة التي عاشت أطوَل المُغامرات وأشدّها أصالة. ففي فجر الإسلام كانت حاضرة إسبانيّة متنوّعة مكوَّنة من “فسيفساء حقيقيّة”. ومع استقرار العرب، في مُدنها أوّلاً، ثمّ في الأقاليم كلّها، صارت اللّغة العربيّة عنصرَ توحيدٍ لذلك المجتمع الهَجين الذي تبنّى شيئاً فشيئاً لغة القرآن الكريم. واليوم، عند النظر في المَسالك التي سلكتها الألفاظ الأوروبيّة، والفرنسيّة خصوصاً، الآتية من العربيّة، يتبيّن لنا أنّ عدداً كبيراً منها وصل إلى المناطق الوسطى من أوروبا عن طريق اللّغات المُتداوَلة في شبه الجزيرة الإيبيريّة. فمن ذلك أنّ aubergine آتٍ من القطلاني alberginia، وأصل هذا من العربي “الباذنجان”؛ وmorfil مرّ عبر المفردة الإسبانيّة marfil، وأصله العربي “يَوم الفيل”. بيد أنّ أصل اللّفظ abricot قطلاني (albercoc)، من اللّفظ العربي “البرقوق”، وهو نفسه مأخوذ عن اليونانيّة. وكذلك اللّفظ الدّال على الفَرس الضارِب إلى الحمرة، وهو alezan، أتى من اللّفظ الإسباني alazan، وأصله العربي “الحصان”. ولئن كانت كلمة albatros قد وصلت إلى الفرنسيّة عن طريق الإنكليزيّة، فأصلها الأوّل، في ما يبدو، هو الكلمة العربيّة “الغطّاس”، ومَسلك عبوره هو البرتغالي alcatraz. ومن جهة أخرى، في الفرنسيّة هناك لفظان alcade وcadi، وهُما مُترادفان ويدلّان على القاضي. وقد أتى الأوّل من اللّفظ الإسباني alcalde الذي تولَّد عنه اللّفظ الثاني، إلّا أنّ الأصل الأوّل عربي (“القاضي”)، والقائمة طويلة. وما تنبغي الإشارة إليه من الناحية التاريخيّة (التطوّريّة)، هو أنّ معظم الألفاظ الآتية عبر لغات شبه جزيرة الأندلس يرقى إلى عهدٍ بعيد بدأ في القرن الثاني عشر واستمرَّ حتّى القرن التاسع عشر.
إلّا أنّ معظم الألفاظ العربيّة التي عَبَرت إلى أوروبا عبر الأندلس، يرجع إلى ما قبل القرن السابع عشر. ولعلّ السبب في ذلك أنّ تأثير العربيّة في ذلك العهد كان عظيماً ومُستمرّاً، لأنّ العرب استلموا زمام السلطة السياسيّة لفترة طويلة ناهزت سبعة قرون. هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى، لأنّ لغة المُسلمين كانت، بإزاء اللّاتينيّة، بل قبلها، أشدّ وسائل التواصل العِلمي والأدبي والفلسفي انتشاراً، ليس في الأندلس فحسب، بل كذلك في جنوب أوروبا كلّها.
صقليّة ومالطة
دامت هَيْمَنة العرب على صقليّة مدّة أقلّ من مدّة هَيمنتهم على الأندلس، إلّا أنّ البصمة التي طبعوا بها الفكر واللّغة في هذه الجزيرة بالغة الأهميّة، ولا تأتي هذه الأهميّة من أنّ العربيّة كانت فيها وسيلة التواصل المحلّي، في الحياة اليوميّة وفي النِّتاج العِلمي، بل كذلك لأنّها كانت مصدر إشعاع، لغوي وفكري، انطلقَ منها وعمَّ سائر الحواضر في القارّة الأوروبيّة. “… بعد استيلاء النورمانديّين Normands على بالرما Palerme في العام 1072 بمدّة طويلة، ظلّ التأثير العربي متّصلاً وحاضِراً في الحياة العِلميّة والثقافيّة في صقليّة: الطبّ، والجراحة، والفلك، والعمارة، والشعر، والموسيقى، والرقص”( من كِتاب “أرابسك.. مُغامَرة اللّسان العربيّ في الغرب”).
أمّا مالطة، فكان مصيرها مُختلفاً. صحيح أنّها تقع، مثل صقليّة، في عُمق البحر الأبيض المتوسّط، وكانت لفترةٍ طويلة تحت حُكم المُسلمين، وبالتالي تحت حُكم اللّغة العربيّة وتأثيرها المُباشر. لكنْ، وإن اتَّفق المَسار التاريخي بينها وبين صقليّة، فإنّ مَسار اللّغة العربيّة فيها قد اختلف، ذلك أنّ ” مِن المُفارَقات أنّ صقليّة، الجسر الذي عَبَرَ منه ما لا يحصى من الألفاظ العربيّة إلى لغات أوروبا، لم يبقَ فيها سوى بضعة آثار من العربيّة؛ بيد أنّ المالطيّة ظلّت في لُبّها لغة عربيّة”(المرجع السابق).
ومع ذلك، فقد أدخلت الصقليّة، وكان إشعاعها مُمتدّاً إلى جنوب إيطاليا، ألفاظاً عربيّة إلى الفرنسيّة، ولاسيّما عن طريق الإيطاليّة، وهي لغة كان للصقليّة نصيبٌ عظيم في نشأتها. فمِن ذلك أنّ لفظ jupe آتٍ من اللّفظ العربي “جبّة”، عن طريق اللّفظ الإيطالي الجنوبي jupa. وكذلك يأتي لفظ aval (بمعنى “الكفالة” أو “الضمانة”) من العربي “حوالة” عبر الإيطالي avallo. أمّا اللّفظ الفرنسي mousseline فهو يأتي من كلمة “موصلي” – نسبةً إلى مدينة الموصل في العراق – عبر الإيطاليّة mussolino. كذلك، لفظ tarif الذي يعود أصله إلى “تعريف” و”تعريفة” وصل إلى الفرنسيّة عبر الإيطالي tariffa. ويعود أصل darse إلى “دار الصناعة”، وهو مرّ عبر اللّفظ الجنوي darsena. تلك الألفاظ الفرنسيّة وغيرها كثير، أتت عن طريق الإيطاليّة، إلّا أنّها سلكت مَسالِك مُختلفة. وأهمّها كما لا يخفى مَسلك صقليّة. ولا بدّ هنا من التذكير أنّ هناك مواطن عبور للغةِ الضادّ غير صقليّة، وكانت لها هي أيضاً لغاتها أو لهجاتها المتأثِّرة بالعربيّة، وكانت هي أيضاً جسر عبور للألفاظ العربيّة (مثل بيشة Pise والبندقيّة Venise وجنوة Gênes).
أخيراً، إذا قارنّا تأثير هاتَين اللّغتَين، الصقليّة والمالطيّة ( التي هي لغة أكثر من ثلث ألفاظها من أصلٍ عربي) في اللّغة الفرنسيّة، لَوجدنا أنّ دور المالطيّة أقلّ شأناً من دَور الصقليّة في هذا المجال. ذلك أنّ هذه الأخيرة كان إشعاعها أوسع وكان لها هي نفسها تأثيرٌ في المالطيّة.
المدينة العربيّة
تكشف لنا قراءة سريعة للائحة “الألفاظ الفرنسيّة الآتية من العربيّة” عن دَورِ حواضر الثقافة العربيّة الإسلاميّة في هذا المجال، وتُبيِّن لنا إلى أيّ مدى يتعلّق تطوّر اللّغة – أيّ لغة كان – بالمكان الذي حدث ذلك التطوّر فيه وبمنتوجاته التي اشتهر بها. وتكفي نظرةٌ سريعة إلى تاريخ أوروبا في العهد الذي نحن بصدده، للدلالة على الأثر المهمّ والمُباشر الذي تقوم به “الأرض” والسلطة التي تحكمها.
أكبر مثال على ذلك أنّ فرنسا وألمانيا نَشأتا من “حادث” لغوي. ففي سنة 842م، على إثر فِتنٍ وحروبٍ داخليّة كثيرة، ثار اثنان من حفدة شارلمان Charlemagne على أخيهما غير الشقيق لوثار Lothaire، ووقّعا ميثاقاً يلزمهما معاً، وحرّراه لا باللّاتينيّة، كما جرت به العادة في ذلك العصر، بل بلغة كلّ واحدٍ منهما، أي الجرمانيّة (الألمانيّة القديمة) من جهة، والرومنيّة (الفرنسيّة القديمة) من جهةٍ أخرى. وكان النصر في ذلك الصراع حليفَ لويس الجرماني Louis le Germanique وشارل الأصلع Charles le Chauve. فقرّرا اقتسام البلاد بينهما… ومعيار قسمة الأرض، إنّما كان هو اللّغة الجارية في كلّ ناحية. هكذا كان انقسام إمبراطوريّة شارلمان بين شرق وغرب، وهو انقسام لغويّ تمخّض في ما بعد عن ولادة فرنسا وألمانيا.
والأمثلة على أهميّة المدينة العربيّة في انتقال لغة الضادّ إلى الفرنسيّة كثيرة. فقد أدّى الاتّصال بين العربيّة والفرنسيّة إلى اسم المدينة نفسه، médina. وقد كان لكبريات المُدن، عَواصم كانت أم حواضر مزدهرة على عهد الخلفاء، وكذلك المُدن الصغيرة التي اشتهرت بصناعة مَنتوجٍ صار درجة، حضورٌ كبير في ألفاظ اللّغة الفرنسيّة. من ذلك أنّ بغداد أعطت baldaquin، والكوفة coufieh، وجاءت حلب لتكون أصل alépine. أمّا دمشق فأعطت damas، وdamasquiner، وdamasser . وكذلك، لفظا bougie وfez فهُما آتيان على التوالي من اسمَي “بجاية” المدينة الجزائريّة و”فاس” المدينة المغربيّة. أمّا لفظا chèche وchéchia فآتيان معاً من طشقند، عاصمة أوزبكستان، وقد ذاع صيتها أيّام الدولة العربيّة الإسلاميّة بصناعة القبّعات. وفي الخِتام لفظ mazagran يأتي من اسم “مزغران”، القرية الجزائريّة التي تقع على مقربة من مستغانم، وقد حاصرها الجنود الفرنسيّون في شباط (فبراير) 1840. والواقع أنّ هؤلاء كانوا عندما يصيبهم الإرهاق خلال حصارهم تلك القرية، يشربون القهوة الممزوجة بشرابٍ كحولي، فالتصق بذلك اسم “مزغران” بهذا الشراب.
*باحث لبناني وأستاذ جامعي
قم بكتابة اول تعليق