بقلم – ابراهيم العدراوي
يخوض الأساتذة (أصحاب السترات البيضاء) في المغرب معركة من أجل إسقاط “نظام التعاقد” الذي تسعى الحكومة إلى فرضه في قطاع اجتماعي، يعيش اختلالات مزمنة.
يرافق هذه المعركة جدل سياسي وإعلامي، يسعى، في غالبه، إلى تكسير هذه الحركة، وشيطنتها، وبالتالي توجيه الاتهامات إليها، بغرض تصفيتها والإجهاز عليها.
ويهدف هذا المقال إلى توضيح مجموعة من النقط المتعلقة بسياقات المعركة، والكشف عن بعض “الاستدلالات” التي ترافع بها الحكومة من أجل التخلص من ملف شائك، وتحليل بعض “الاستعارات” التي توظف في الخطاب النّشط الذي تخوضه الوزارة عبر الندوات الصحفية ووسائل الإعلام.
1-في نقض “العقد شريعة المتعاقدين”
يشهر مجموعة من “المحللين” سواء في الصحافة المكتوبة أم المرئية أم الإلكترونية، مسكوكة “العقد شريعة المتعاقدين”؛ ومفاد هذه الحجة أن الأساتذة، قد وقعوا على عقود يلتزمون فيها بالاشتغال مع الأكاديميات، وما دام أنهم قاموا بالمصادقة على هذا العقد “بكامل حريتهم”، فهم ملزمون بتنفيذه.
وجدت هذه “الحجة/المسكوكة” رواجا كبيرا، وهي في جوهرها، تنطلق من مبدإ “احترام العقود”، باعتباره “أن لا أحد يعذر بجهله للقانون”، وتصوغ الخطابات الإعلامية الحجة المذكورة في ألبسة متعددة، تظهر “الأساتذة” في صورة “المخلين بالعقود”، وبالتالي المخلين بالقانون، وفي مقابل هذه الصورة تبني الوزارة صورتها “احترام القوانين”.
تعتبر “العقود” من الحجج الجاهزة، والخارجة عن إطار الخطاب، ويعني هذا عند أب الخطابة، أرسطو، أن الخطيب يمكن أن يوظفها لصالحه أو أن ينتقد أساسها.
يلجأ الخطيب إلى المرافعة بالعقد (الحجة الجاهزة) متى خدم مصلحته، وفي هذا السياق، فإنه يستدعي القانون والاتفاقيات ليرافع في خطابه. وبالمقابل يدفع الخطيب إلى التشكيك في ظروف توقيع هذا العقد، ويطعن في شرعيته الطبيعية إذا كان يتنافى مع مصلحته.
قدم أرسطو مثالا من مسرحية أنتيجون في التمييز بين القانون البشري الذي يفرضه البشر، وبين القانون الطبيعي الذي يتماشى مع الطبيعة الجوهرية للإنسان. فعلى الرغم من سن الطاغية لقانون منع دفن “المتمردين” على سلطته، فقد دفنت أنتجون أخاها لأن القانون الطبيعي أسمى من قانون الطاغية.
يبدو هذا المثال مجردا لدى البعض، ولكن لنقرأ مثالا تاريخيا في هذا السياق. وقّع “المغرب” على ما سمي “اتفاقية الحماية”. لو أن الحركة الوطنية التزمت بالاتفاق الذي عقده المخزن مع السلطات الفرنسية، وهو “تعاقد/معاهدة”، لما كان لها مسوغ للنضال من أجل تحرير الوطن. لقد أصبح العقد في نظر الحركة الوطنية لاغيا، لأنه يتنافى مع مبدإ الحرية الذي يندرج ضمن القوانين الإنسانية المجردة.
2- “فكروا في فيل”
يعدّ التعليم قطاعا اجتماعيا حيويا، ولكنه يدار سياسيا. وبالتالي، فالمعركة الاجتماعية التي يخوضها “أصحاب السترات البيضاء”، في جوهرها معركة سياسية.
تنهج الدولة سياسة التخلص من القطاعات “غير المنتجة”، والتخلص من عبء “كتلة الأجور” في القطاع العام. وقد أنتجت هذه السياسة في مجال التعليم:
-تبخيس المدرسة العمومية، واستبدالها عمليا بالمدارس الخاصة.
-نهج سياسات وتنفيذ مخططات فاشلة، لم تخضع، لحدّ الآن، لأية محاسبة قانونية.
-ضرب الاستقرار المادي والاجتماعي لأسرة التعليم.
هذه المظاهر الثلاثة، إذا اكتفينا بها، تثبت أن سياسة الدولة في ميدان التعليم، تتميز بما يلي:
-فرض سياسة الأمر الواقع.
-غياب تدبير اجتماعي للقطاع.
-الإخلال بكل التعاقدات، بما فيها تلك التي سنتها الوزارات نفسها.
إن التأطير الذي تمارسه الدولة في ترويجها لسياسة التعاقد، يشبه إلى حدّ ما سماه جورج لايكوف “فكّروا في فيل”.
-التعاقد في مجال التعليم أنقذ الآلاف من البطالة.
-التعاقد في مجال التعليم يجسد الجهوية.
-التعاقد في مجال التعليم “توظيف جهوي”.
-“التوظيف الجهوي يشبه التوظيف الوطني”.
يرتبط هذا التأطير بخلق “فوضى” سواء في مستوى طريقة التوظيف، أو طريقة التكوين…، ومن أمثلته الحاضرة في الأذهان:
-رفضت الحكومة أي توظيف غير مقترن بالتكوين، في مواجهة فوج سابق من الأساتذة.
-فتحت الحكومة مباريات للتوظيف، وألحقت الأساتذة بالمؤسسات التعليمة، من دون تكوين. واعتمدت منهجية التكوين المستمر تكوينا أساسيا.
-الأفواج الأخيرة التي تم توظيفها بالتعاقد: تكونت بطرق مختلفة، وفي ظروف مختلفة، وحكم تكوينها وتعيينها وانتقالها…ارتجالية، خلقت فوضى، مهدت لرؤية “الفيل ضخما وخرطومه طويل”، وسأكتفي بمناقشة “فكرتين” روجتهما الوزارة، الأولى من منظور استعاري، والثانية من استدلال التسوية:
أ-التعاقد أنقذ حاملي الشهادات من البطالة.
تصور هذه الاستعارة “الحكومة” منقذا من شر لا تتحمل المسؤولية فيه “البطالة”؛ وتسعى إلى جعل “ضحية البطالة” يشعر بأنه تلقى “صدقة”، وبالتالي فأي فعل مقاومة منه، هو حجود ونكران للخير.
ب-الأب الناصح: “التوظيف الجهوي لا يختلف عن التوظيف الوطني”
هذا الخطاب طارئ، أنتجته الوزارة بواسطة تعديلات لاحقة، وهو ما يبين أن “سياسة التوظيف الجهوي” لا تملك أية رؤية واضحة، أو أساسات قانونية لتدبير قطاع حيوي مثل قطاع التعليم.
وهذا الخطاب يروج فكرة التسوية: الموظف الجهوي (مع الأكاديمية) مثل الموظف الوطني (مع وزارة التربية). وتنتج هذه الفكرة توقعا (سيتمتع موظف الأكاديمية، بالحقوق نفسها التي يتمتع بها موظف الوزارة).
يتخذ هذا الخطاب منطق “الأب” الراعي لمصالح أبنائه، وهي استعارة تتجسد في المخططات السياسية التي تمارس “السلطة”، باسم العارف والراعي للقاصرين (الأبناء).
يبدو أن الأب يقدم لابنه علبتي شكولاطة مختلفتي الغلاف، ولكن الأب العارف/الراعي يساعد ابنه على الاختيار، يقول الأب:
“علبتا الشكولاطة لهما الطعم نفسه، ولكن علبة الشكولاطة ذات الغلاف الأصفر هي الأحسن”.
بهذا المنطق تتعامل الوزارة، من خلال هذا الخطاب، لكن الأستاذ (الابن في نظر الوزارة)، يقدم مقترحا بسيطا: ما دامت العلبتان متشابهتان، فدعونا نختار ما نشاء.
ولأن الأب يدرك أن ثمني العلبتين مختلف، فإنه لن يعرض عليه الاختيار؛ سيرغمه بالتهديد، والطرد، والعصا، وخراطيم المياه…. وسيحفز كل خبراء علم النفس والتربية ليشرحوا للناس أن الابن لا يعرف مصلحته. ومن هذه الصورة سيؤطر “الابن العاق” الذي لا يستمع لنصائح “الأب”.
على سبيل الختم:
حركة السترات البيضاء بالمغرب، عبّرت عن نضج كبير في حركتها الاحتجاجية، وتدرجت في التعبير عن رفضها للوضع بحمل الشارات، وتنظيم احتجاجات محلية وجهوية ووطنية: وقفات، مسيرات، اعتصامات…، وخوض إضرابات إنذارية، ثم إضرابات متوالية. وعبرت من خلال بياناتها وبلاغات تنسيقيتها الوطنية عن نضج كبير، وقدّم الأستاذات والأساتذة درسا بليغا في أساليب الاحتجاج والمرافعة.
وبالمقابل لجأت الوزارة إلى سياسة التجاهل، ثم الهروب إلى الأمام بتقديم مقترحات خارج إطار التفاوض، وانتهت إلى الوعيد والتهديد بطرد المنسقين وإيقاف رواتبهم واستدعاء “جيش احتياطي” لإنقاذ الموسم الدراسي.
تنهج الوزارة سياسة القفز على الحواجز، ويخوض الأساتذة سباق المسافات الطويلة محملين بأثقال ملف يهم مستقبلنا جميعا.
قم بكتابة اول تعليق